مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 03/06/2016

خطبة د. توفيق البوطي: بين يدي شهر رمضان


بين يدي شهر رمضان
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يومان أو نحو ذلك ويحل علينا ضيف كريم يملأ حياتنا شهراً كامل ببركته وخيراته، هذا الشهر الذي خصه الله بالذكر في كتابه بياناً لعظيم فضله، وحضنا النبي r كثيراً على انتهاز هذه الفرصة التي تتاح لنا في السنة شهراً واحداً، لنوطد الصلة بربنا تبارك وتعالى. وتستوقفنا أمور تتعلق بقدوم هذا الشهر المبارك أرجو أن ندركها جيداً، الأمر الأول:
يكثر اللغط حول بداية هذا الشهر ونهايته، وهذه مسألة فقهية ما ينبغي أن يخوض فيها إلا أهل العلم والفقه، لكن البعض يريد أن يستثمرها فيوظفها توظيفاً سياسياً، وكأننا بحاجة لمزيد من الفرقة والخلاف، هي مسألة شرعية ليست وليدة هذا العصر، هناك اتجاهان فقهيان في هذه المسألة، اتجاه فقهي يذهب إلى وحدة المطالع، أو إلى أن ثبوت رؤية الهلال في بلد ما من بلاد المسلمين يوجب الصيام على سائر البلاد وهو ما ذهب إليه السادة الحنفية وبعض المالكية والحنابلة، واتجاه آخر ذهب إلى اختلاف المطالع؛ وأن كل إقليم جغرافي مساحة معينة حددها العلماء لها مطلع إذا رؤي الهلال في جزء من أجزائه وجب صيام بقية أبناء ذلك الإقليم؛ بناء على تلك الرؤية. وهذا الاختلاف أمر تخصصي عولج ونوقش في مؤتمرات ولقاءات علمية وردمت الهوة في هذا الموضوع وأنهي الخلاف بالشكل الذي وصل إليه العلماء. وتلخيص ذلك أن ثبوت الشهر إنما يتم – طبعاً هناك ولادة فلكية للشهر، الولادة الفلكية لحظة ثابتة للكون كله، لا تختلف بين بلد وآخر، هي لحظة الافتراق بعد اقتران الشمس بالقمر في مسارهما متى تم الافتراق ولد الشهر فلكياً إلا أن الحكم الشرعي لم يبنَ على الولادة الفلكية، وإنما بني على الرؤية الشرعية، والرؤية الشرعية هي مدار الإشكال أو الخلاف الفقهي الذي ذكرناه، ولكن مع ذلك إذا كانت الحسابات الفلكية تحيل إمكان الرؤية في منطقة ما، وادعى البعض أنه رؤي فإننا لا نلتفت إلى دعواه، ذلك تماماً كما لو قال أحدهم إن الشمس تشرق في الخامسة والنصف مثلاً لكن سبحان الله اليوم أشرقت الساعة الخامسة، هل تصدقون هذا الكلام، ربنا تبارك وتعالى قال: )وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ( وقال )الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ( فهناك ميزان حسابي للحركة الكونية، وبناء على هذا الميزان الحسابي الدقيق الذي جرى عليه نظام الكون بنى العلماء الأحكام التي تترتب على ذلك، هذه واحدة، والمعول عليه في هذه المسألة وفي بلدنا هذا: ما يتجه إليه القاضي الشرعي الأول الذي يبني حكمه في هذه المسألة على أدلة شرعية، مستعيناً بفقهاء ومستعيناً بالخبراء، فمن خلال استعانته وإعلانه عن استطلاع الهلال يبني الحكم على ذلك ،والمسألة ليست تبعية لبلد دون آخر أو إعراضاً عن بلد دون آخر لسبب سياسي أو لغيره، إنما هي رؤية شرعية مبنية على معطيات معروفة في كتب الفقه، ولذلك فإنا نعول على قضاء القاضي الشرعي في هذه المسألة حسماً للغط الذي يكثر من العوام كصدى لفريق من الناس يريدون إثارة البلبلة والتشكيك فيما بين المسلمين، على أننا لا نعول على بعض البلاد التي اعتدنا أن لا تكون دقيقة في دعواها للرؤية الشرعية، فقد رأينا أن بعض البلاد لا تلتزم الدقة في إثبات الرؤية. هذه المسألة الأولى التي أردت أن أوضحها ونحن وراء قضاء القاضي الذي نعتد برأيه وهو موضع ثقة في فقهه وعلمه واستقامته.
الأمر الآخر مسألة صلاة التراويح النبي r قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري، وقال في حديث آخر «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه ابن عوانه في مستخرجه بإسناد صحيح- وربنا تبارك وتعالى بين لنا عظيم فضل هذا الشهر فقال:)شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ثم أتبع ذلك بقول )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ( نحن مطالبون في هذا الشهر على جهة الوجوب والفرضية بصيام هذا الشهر ولا داعي إلى التفصيل في الحكم الشرعي فمعلوم أن الصيام إمساك عن المفطرات من طعام وشراب ومعاشرة زوجية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وهذا الكلام متوقف على شرط آخر هو أن نبيت النية في كل ليلة من ليالي شهر رمضان ننوي صيام ذلك اليوم، هذا بالنسبة للصيام، أما بالنسبة للقيام فقد كان النبي r يرغب في قيام رمضان وهنا ألفِتُ النظر إلى أن قيام رمضان عبادة خاصة بشهر رمضان، القيام مطلوب في كل ليلة من ليالي السنة إلا أن قياماً معيناً محدداً سُن لنا في شهر رمضان، قال: " كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر بعزيمة" أي ليس على سبيل الوجوب؛ وإنما على سبيل الندب والاستحباب، ومما نحمد الله سبحانه وتعالى عليه، أن هذه الشعيرة من شعائر ديننا منتشرة يتمسك الناس بها على امتداد العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، وهذا القيام فيما ذهب إليه الأئمة كلهم واتفقت كلمتهم عليه تقام في المساجد عشرين ركعة، لكن قلنا من غير عزيمة، فمن أراد أن يصلي عشر فذلك له، ومن أراد أن يصلي أكثر فذلك له، ومن أراد أن يصلي ما تيسر بحسب نشاطه فذلك له، ولكن لا يعترض على من صلى عشرين بدلالة حديث روي عن السيدة عائشة: «ما زاد رسول الله r في رمضان ولا في غير على ثمان ركعات» أي من القيام من التهجد الذي كان يتهجده في سائر أيام السنة وهذا غير قيام رمضان الذي اتفقت كلمة العلماء على سنيته وتأكيد سنيته، وإنما لم يصل النبي r في اليوم الرابع من أيام رمضان صلاة التراويح في المسجد خشية أن يظن الناس أنه فريضة، فالناس مقبلون ومندفعون إلى أداء هذه الصلاة، ولكن خشي النبي r أن يحمل التزامه بها في فهم بعض الناس على أنه فريضة أو واجب، ولذلك، لم يبق مقيماً لهذه الصلاة في المسجد، ولعله كان يؤديها في بيته والصحابة الكرام استمروا على ذلك أفرادا إلى أن جمعهم سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في عصره على صلاة الجماعة عشرين ركعة في صلاة التراويح، وجرت الأمة على ذلك إلى يومنا هذا بحمد الله تبارك وتعالى، واللغط في هذا الموضوع أيضا هو لون من ألوان إثارة الخلاف فيما بين الناس، وكأننا بحاجة إلى مزيد من الاشكالات والريب والخلافات، أقول: الأمة الجادة تبحث عن أسباب الوفاق تبحث عن أسباب التقرب إلى الله عزَّ وجل تبحث عن مزيد من سبل التقرب إلى الله عزَّ وجل. لا تبحث في إثارة خلافات فقهية أو غير ذلك وهي مسألة ليس مختلف فيها، متفق عليها تماما لكن البعض يحاول إثارة اللغط في هذا لتثبيط الهمة ولصرف اهتمام الناس بدينهم وبعبادتهم إلى لهو وغفلة ومعصية يشجع عليها جنود الشيطان.
وهذه مسألة أخرى، تنصب جهود جند الشيطان طيلة السنة من أجل أن يهيأ لشهر رمضان ما يفسد شباب الأمة وفتياتها ما ينشر أسباب الانحراف والرذيلة فيما بين أبناء هذه الأمة من خلال مسلسلات تبث على مختلف القنوات خصيصاً لشهر رمضان، ذلك لأن الشيطان قد أخذ إجازة في هذا الشهر، فجنّد جنوده ليكونوا من ورائه أشد إفساداً من إفساده هو في هذه الأمة، أقول: جدير بنا في هذا الشهر أن نضاعف جهودنا في الاقبال على الله سبحانه وتعالى وأن نزيد من الذكر والدعاء وتلاوة القرآن والقيام والذكر والدعاء والاستغفار، نحن في هذا الشهر بحاجة إلى مزيد من أسباب الوحدة والتضامن... أسباب درء عوامل الخلاف والنزاع والشقاق فيما بين أبناء الأمة، نحن في شهر رمضان بحاجة إلى التعاطف إلى التراحم والبذل، فكل من كان لديه مزيد من إمكان مادي ينبغي أن يبذل ذلك الذي لديه لمسح جراح الجرحى وليخفف آلام المتألمين نتيجة معاناة بلدنا ونتيجة الأزمة التي تعيشها أمتنا، فريق من الناس نجد أنهم بدلاً من أن يصرفوا الاهتمام إلى تشجيع الناس لعمل الخير والتقرب إلى الله والاستغفار والتراحم نجد أنهم يصرفون اهتمام أبناء الأمة إلى أنواع المفاسد وأنواع الضلالات من خلال مسلسلات تبث هنا وهناك يريدون أن يصرفوا أمتنا إلى مسالك الرذيلة والانحراف.
وهنا لابد من الإشارة إلى أننا اليوم أشد حاجة إلى مزيد من التلاحم ومزيد من توطيد وحدة الكلمة، إلى مزيد من التراحم، نحن اليوم نعاني من أزمة تستهدف سلامة هذه الأمة ولقد أعملت هذه الفتنة التي تطوف ببلدنا في أبناء أمتنا الكثير من الآلام الكثير من الفتن الكثير من المصائب، لقد أرادوا أن يضربوا الأخ بأخيه والزوج بزوجته والأب بأبنائه، ثم أرادوا أن يضربوا الجار بجاره، وأبناء طيف من أبناء هذا المجتمع بأبناء طيف آخر لتسفك الدماء ولتنتشر الفوضى وليعم الفساد والخلاف والشقاق في هذا الوطن وبين أبناء هذه الأمة. والرد على ذلك أن نكون أشد حرصاً على وحدة أمتنا وسلامة وطننا ألم يقل ربنا تبارك وتعالى )وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ( ألم يقل ربنا تبارك وتعالى )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ( إن اليد الصهيونية لا تزال تعمل منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا منذ ما أشرت إليه في الأسبوع الماضي يوم قام شاس بن قيس ليفسد بين الأوس والخزرج وقد أظلهم الإسلام إلى أن جاء عبد الله بن سبأ فأجج الفتنة بين أصحاب رسول r وبين الصحابة والتابعين وأثار الفتة بين المسلمين ولا تزال إلى يومنا هذا آثار تلك الخلافات و الشقاقات ماثلة أمام أعيننا، وها هو ذا شاس وعبد الله بن سبأ يظهران من جديد ليؤججوا الفتنة فيما بين أبناء هذه الأمة فبالأمس فجروا دراجة أمام مسجد الخلفاء الراشدين في اللاذقية لكي يثيروا الفتنة بين أبناء اللاذقية، كما فجروا في الأسبوع الفائت أيضاً تلك التفجيرات الرهيبة التي ذهب ضحيتها الأعداد الكثيرة من الأبرياء من نساء وأطفال ورجال، إن تأجيج هذه الخلافات دواؤه أن نزيد من توطيد العلاقة الأخوية بين أبناء هذا الوطن، فنحن أمة واحدة ذات ألوان متعددة، ولن تستطيع قوى الصهيونية وقوى البغي والعدوان من أن تعمل مبضع التمزيق فلقد صبرنا أكثر من خمس سنوات على محاولات التمزيق وإثارة الفتة، سقط من سقط يوم أسقط نفسه، وبقي الوطن وبقيت أمتنا بفضل الله تبارك وتعالى متماسكة، فليخسأ أولئك المجرمون في محاولاتهم لتمزيق وطننا ونشر الفتنة بين أبناء هذا الوطن، نعم ثارت الفتنة حتى مستوى الحي الواحد بل على مستوى البيت الواحد، ولكن ربنا تبارك وتعالى أخمد نارهم وأطفأ فتنتهم، ونأمل أن يكون شهر رمضان بعون الله شهر الفرج شهر النصر شهر الرحمة شهر تظهراً فيه عناية ربنا تبارك وتعالى بأمتنا ببلادنا التي تكفل الله عز وجل بها والتي هي محط نظر النبي r والتي قال فيها النبي r «عليكم بالشام» وقال r: « إن الله تكفل لي بالشام وأهله» أجل هذه الشام لن تستطيع يد الإجرام أن تتمكن من النيل منها نعم ) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى( ولكن هذا الأذى لن يتعدى حدوده، وستبقى بلادنا بإذن الله على الرغم من الهجمة الشرسة التي تسمعون بها وترون آثارها هنا وهناك لن تستطيع أن تبلغ أهدافها بعون الله، هذا الشهر شهر تراحم، هذا الشهر شهر تراحم شهر تحابب شهر تعاون، النبي r يقول: «من فطر صائما كان له مثل أجره» ترى هل هذا الصائم بحاجة إلى حبة من تمر؟ بحبة تمر تنال مثل أجره لماذا؟ لأن النبي r يتطلع إلى توطيد نسيج المحبة بين أبناء الأمة، إلى ترسيخ معاني الإخوة والتراحم والتعاطف بين أبناء هذه الأمة، أن يلتفت الجار إلى جاره والأخ إلى أخيه والرحم إلى رحمه، بل نلتفت جميعاً إلى نسيج هذا الوطن كله فنتراحم ونتعاطف ونتعاون ونسقط محاولة التمزيق تحت أقدامنا بعون الله تبارك وتعالى.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الشهر شهر رحمة وفرج ونصر بعونه سبحانه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 2016/06/03


تشغيل

صوتي