مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 26/02/2016

خطبة د. توفيق البوطي: العاقل من اعتبر


العاقل من اعتبر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلّ شأنه في كتابه الكريم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( وقال جلّ شأنه بعد أن قص علينا قصة سيدنا يوسف مع إخوته )لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( روى الحاكم في مستدركه على الصحيحين والترمذي في سنن وابن ماجة عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله r: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواه، وتمنى على الله » زاد الترمذي: ويروى عن عمر بن الخطاب t أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا».
أيها المسلمون، خمس سنوات مضت على الفتنة التي طافت ببلادنا وفعلت بأمتنا ما فعلت، حتى صارت بلادنا ساحة صراعات دولية، لم يبق بيت لم تصبه مصيبة هذه الفتنة بصورة من الصور، علينا ونحن أمام منعطف في هذه الفتنة أن نعود فنتأمل ماذا حصدنا منها؟ هذه الفتنة يصر البعض على عدم تسميتها فتنة، ويريدون أن يسموها بأسماء أخرى، تزييفاً للحقيقة وتزويراً للواقع، مع العلم بأنه قد وصلت بنا إلى ما قد وصلت إليه. ترى ما الاسباب البعيدة لهذه الفتنة، وما الأسباب القريبة؟ وما النتائج التي وصلنا إليها بعد سنوات خمس؟ من الذي نصح فأخلص في النصح؟ لنعد فلنتأمل نصائحه بعقل وتدبر. ومن الذي كان يدفع بأمتنا وبشبابنا وببلادنا إلى المهالك، حتى أصبنا بما أصبنا به في فلذات أكبادنا في شبابنا في بيوتنا في أهلنا، شُرِّد من شُرِّد ومات من مات، وفرّ من فرّ. العاقل من يعود إلى الحصيلة، ليست هذه الفتنة هي الأولى في أمتنا ولن تكون الأخيرة، إنما علينا أن نعود إلى حصيلة ما جرى وندرس الربح والخسارة، وندرس الأسباب والنتائج وندرس مدى صدق وكذب من خاض في شأنها، وهل كان دور كل منا متفقاً مع ما أمر به الله سبحانه، أم كان مخالفاً لشرع الله تعالى وأمره؟
أيها المسلمون، ربنا تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم )وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً (أي امتحاناً )أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً( ابتلينا ببعضنا وابتلينا بتدخلات خارجية، ابتلينا بإعلام حرّك وأجّج نار الفتنة، وهو يتأمل كيف تحترق بلادنا، وكيف يموت شعبنا؟ أجل تأملوا كثيراً، أججوا الفتنة في بلاد أخرى حتى إذا استعرت وبدأت تحصد الناس والأرض، وتأكل الأخضر واليابس أغضوا البصر وتوقف الإعلام عن تغطية ما يجري، لأن دورهم ينحصر في إشعال تلك البلاد؛ في إحراقها.. في تدميرها.. في قتل شعبها، في تحويلها إلى مزرعة لأعدائنا. أما نحن ففي الوقت الذي نقول فيه إننا نحصد نتائج فتنة عمياء أدخلتنا في نفق مظلم طالما حذرنا من الدخول فيه، لكننا مع ذلك نقول: إننا في هذه البلاد بالذات نتفيأ ظلال نعمة أكرمنا الله بها، نتفيأ ظلال قوله r: «إن الله تكفل لي بالشام وأهله » هناك عناية خاصة، هناك رعاية متميزة تولى سبحانه وتعالى هذه البلاد بها، ولذلك لم نصل بنتائج ما أريد لنا إلى الهدف الذي أريد، لقد أرادوا أكثر بكثير مما وصلنا إليه.
أيها المسلمون، عندما ننظر إلى الأسباب والنتائج على أنها من صنع البشر نخطئ، وحساباتنا لن تكون صحيحة، المشكلة هي: هل نحن كنا على خير في ميزان شرع الله أم لا، لأن الله سبحانه يقول: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( وهذا يعمّ الجميع، أرادوا أن يسوغوا الفتنة، ويسوقوا لها ويؤججوا نارها فسموها جهاداً، وسوغوا ما يسمونه جهاداً بتكفير الناس، بالتكفير الذي به استباحوا الدماء والأعراض والأموال، مع العلم أن في قياداتهم من الملاحدة والكفرة والفسقة والفجرة والمشهورين من العملاء من لا يخفى أمرهم على متأمل، يكفرون الآخرين وفي قياداتهم من إذا كنا وضعنا ميزان الإسلام والكفر مَن هو معلن لكفره وإلحاده، فهل يا ترى كانت المسألة إيماناً وكفراً؟ هل المعركة بين إسلام وكفر، بين شرك في موازين التكفيريين وإيمانٍ يدعونه لأنفسهم؟ ولا أدري ترى هل كان الإيمان الذي يدعوننا إليه قِبلتُه أميركا وإسرائيل، وميزانُه مخططاتُهم؟ وهل كان إيماننا في دينهم الذي يدعوننا إليه من وضع برنارد ليفي وغيره من دهاقنة الصهيونية العالمية؟ هل هؤلاء هم الذين يبينون لنا الإيمان والحق والباطل والخير والشر؟ أرادوا أن يسوقوا الفتنة فسموها جهاد؛ لأننا نحن ايضاً عصينا ربنا تبارك وتعالى، وما يجري حصيلة أعمالنا هم سياط الله عزَّ وجل في ظهورنا، هم شكل من أشكال العقاب الرباني الذي ابتلينا به، لأننا أعرضنا عن شرع الله، لأننا أبينا أن نحتكم إلى ميزان الخير والشر والحق والباطل الذي رسمه الله، لو عدنا إلى ما قبل الفتنة لأدركنا هذا المعنى، وكيف كنا نسير في متاهة موازين ما يسمى بالحداثة وغيرها، يصر الكثيرون اليوم ونحن أمام منعطف لا ندري ماذا يعقبه لأننا لسنا الذين اخترناه وإنما اختير لنا، نحن أمام منعطف نرجو أن يكون مفتاح خلاص، ونرجو لا نعول على أحد، نعول على رحمة الله عزَّ وجل بهذه الأمة؛ بأطفال هذه الأمة بنساء هذه الأمة بمشردي هذه الأمة بأرامل هذه الأمة، بآهات من نكبوا وجرحوا وأصيبوا من أبناء هذه الأمة؛ لعل الله سبحانه وتعالى سيرحم هذه الأمة بسبب أولئك المصابين فيجعل لهذه الفتنة نهاية تقف عندها، لأنهم يأبون إلا أن يسعروا نارها ويأبون إلا أن يراهنوا على تمزيق هذا البلد وقتل أبناء هذه الأمة، أصبنا جميعاً ولا يكاد بيت - لو تأملت - أو أسرة إلا ووجدتها قد أصيبت بشكل ما من الإصابات التي أصابت هذا الوطن، أجل يجب أن نتأمل حصاد سنوات خمس لنأخذ منها العبرة، ونحن أمام منعطف لا ندري ماذا سيعقبه. لا ينبغي أن نوغل في طريق مجهول هذه العبرة، في البداية قلنا إنه نفق مظلم فاتهمنا وافتري علينا وشُتمنا أيضاً، وحذرنا فعدّوا تحذيرنا من هذه النتائج التي نراها اليوم تملقاً لأولي الأمر أو نحوهم، ترى هل من العقل أن يدخل الإنسان في نفق مظلم وطريق مجهول النتائج لا ندري إلى أين يؤدي بنا؟. كل منا يجب أن يعود إلى نفسه ويتدبر ويصحح سلوكه، كل منا يجب أن يعود إلى ربه، كل منا يجب أن يتوب إلى مولاه وأن يحاسب نفسه وأن يصحح مساره وأن يضع ميزان الشرع أساساً لسلوكه ومواقفه وتصرفاته، ميزاناً يزن به مواقفه، كل منا؛ سواء كان من هؤلاء أو من هؤلاء أياً كان موقعنا؛ جميعنا يجب أن نعود إلى ربنا، جميعنا يجب نصحح مسارنا، جميعنا يجب أن نتوب إلى ربنا، جميعنا يجب أن نعرف أن ما أصابنا ما أصابنا إلا بسبب تقصيرنا. إلا بسبب ذنوبنا. ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) و( كل نفس بما كسبت رهينة)
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردّنا إلى رشدنا، وان يفرج عنا فرجاً قريباً وأن يجعل لهذه المآسي نهاية تطمئن فيها القلوب، ويعود فيها الأمن والأمان، وتسعد فيه النفوس ويجتمع فيه شمل الأسر ويعود الناس إلى حياتهم سعداء مطمئنين إنه سميع مجيب.
خطبة الجمعة 26/02/2016


تشغيل

صوتي