مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/02/2016

خطبة د. توفيق البوطي: إذا لقيتم فئة فاثبتوا


(إذا لقيتم فئة فاثبتوا)
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ( ويقول سبحانه: ) وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ويقول جل شأنه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ( وقال جل شأنه: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين بإسناده عن ابن عباس y قال: قال لي رسول الله r: « احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو أن الأمة اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن النصر مع الصبر، وان الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا، واعلم أن القلم قد جرى بما هو كائن».
أيها المسلمون، تطاول أمد المحنة التي تعاني منها الأمة، وقد تقوض كثير من مقومات هذا الوطن، تحت وطأة حرب شرسة ضروس وفتنة عمياء تألبت فيها قوى الأرض على هذه القطعة الصغيرة منها، ليس من اليوم بل منذ أمد طويل، ولكن شن حرب معلنة على هذه الشاكلة لم يكن ليقع إلا في هذه المرحلة الخطيرة من حياة الأمة، ونحن نؤمل بالنصر ونرجو رفع هذا البلاء، وتضرع القلوب إلى الله عزَّ وجل أن يا رب لو كشفت عنا هذه المحنة التي تطاول أمدها، وتزايدت مضارّها وسفكت فيها الدماء، وهدمت فيها كثير من مقومات هذا البلد. نعم تطاول أمدها وتطاول أمد معاصينا أيضاً، اشتد منا البعد عن الله جل شأنه. نحن إذا أردنا أن نطرق أبواب الفرج فما علينا إلا أن نرجع إلى الله، وقد بين لنا الله تبارك وتعالى مفاتيح الفرج والنصر، فقال لنا ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ ( الثبات أولها، فرَّ كثير من أهل البلاد ليتفيؤوا ظلال بلاد الكفر؛ لا أجد لهم عذراً في ذلك؛ بل إنه قد يُفسّر فرارُهم من هذه البلاد بالفرار من الزحف، وقد قال سبحانه ) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ( وأن يؤثر الحياة في ظلال الكفر ومجتمع الفسق والانحراف، على أن يسعى لإصلاح وضع بلده هذا، هذا أمر في غاية الخطورة والانحراف. إن أسباب النصر موجودة ومتوافرة، ولكننا لم نطرق بابها، نحن أولاً إنما نحصد نتائج معاصينا، لأن الله سبحانه وتعالى أعطانا قاعدة تقول: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( الأمر الآخر: نحن اليوم نعيش في مرحلة ضياع معالم الطريق، مع أن كتاب الله عزَّ وجل رسم لنا معالمه. لاحظوا مشكلة الهزيمة في غزوة أُحُد وما وراءها وأسبابها، يقول الله جل شأنه في كتابه الكريم ) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( هكذا يخبرنا ربنا عما جرى في غزوة أحد والنبي r بين ظهرانيهم، النبي r بين أصحابه بين المسلمين، ومع ذلك ذاقوا مرارة مصيبة غزوة أحد، وعدّد الأسباب التي أوقعتهم في تلك المصيبة: )حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ( أي جبنتم عن ملاقاة عدوكم بعد أن اقتطفتم ثمرة النصر، يقول في مطلع الآية )وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ( فقد انكشف المشركون وانهزموا، ثم إن خمسين منهم كانوا رماة على جبل الرماة خلف جبل أحد أو قبالته، أربعون منهم عصوا من بين ستمائة أو يزيد من المجاهدين مع رسول الله r، خالفوا أمره إذ قال لهم الزموا أماكنكم، فلما رأوا انتصار المسلمين وسال لعابهم على الغنائم تركوا أماكنهم، وعندئذٍ قدّر الله أن ينتبه المشركون لذلك، فقاموا بعملية التفاف وفاجأوا المسلمين من خلف ظهورهم ووقعت المصيبة التي قتل فيها سبعون من شهداء المسلمين من خيرة أصحاب رسول الله r وفي مقدمتهم عم النبي r سيدنا حمزة سيد الشهداء، لخصت الآية القرآنية أسباب تلك الهزيمة: الجبن، التنازع والاختلاف )فشلتم وتنازعتم في الأمر وَعَصَيْتُم( أمركم رسول الله بالتمسك بأماكنكم فعصيتم، أمرنا ربنا تبارك وتعالى بالتمسك بهذا الدين، عودوا إلى أنفسكم وانظروا أين أحكام ديننا؟ أين حدود ربنا؟ أين الحقوق التي ائتمننا ربنا تبارك وتعالى عليها؟ أين كتاب الله وسنة نبيه في حياتنا؟ )وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ( لعل من أشد أسباب المصيبة التي أصبنا بها أن أناساً باعوا وطنهم ودينهم وأمتهم بلعاعة من المال، اشتراهم العدو فباعوا كل شيء بلا شيء، والأمر مكشوف وواضح لا يحتاج إلى بينة، وهاهم يصافحون ألد الأعداء نكاية بوطنهم ونكاية بأمتهم، ويعقدون الاتفاق مع أشد الناس عداوة للأمة والمغتصبين لأرضها ومقدساتها معلنين أن ليس بينهم وبين عدوهم أي مشكلة، لأن عدوَهم وطنُهم، لأن عدوهم هو بقاءُ هذه الأمة على وضع مع ما فيه من أخطاء هو أفضل بكثير من أن نسلم الأرض لعدوها ونبيع الأمة والوطن )مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ، مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ( هنا تكمن المسألة؛ الذين يريدون الآخرة: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً، إرادة الآخرة تطلب أن نبذل لها وأن نسعى من أجلها، وأن نبذل جهدنا في سبيل أن نحصل على نتيجة الآخرة، أما أن نتمنى على الله الأماني، ونحلم بالآخرة ونحن غارقون في أوحال هذه الدنيا ومعاصيها وأهوائها وشهواتها فهذا من الحماقة بمكان، نحن نقول لا بد لنا، لمن بقي هنا، أن يطرق أبواب النصر بعوامل ذكرها لنا ربنا تبارك وتعالى، فقال لنا:) إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ( هذا الأمر الأول، الثبات مهما كلف الأمر لأن نتيجة الثبات هي النصر، ولكن الزاد إلى ذلك النصر هو كثرة الالتجاء إلى الله، كثرة ذكر الله ) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ( وفي مرة أخرى بخمسة آلاف، والله تعالى بيده النصر، وليس بالأعداد التي يزودنا بها )وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ ( أما أن نحادَّ الله عزَّ وجل في شرعه، ونخالفه في أوامره فإننا عندئذ قد أخطأنا الطريق وأخطأنا مفاتيح النصر، لن تفتح مغاليق النصر لأمة تحدّت شعائر الله، لأمة خالفت أوامر الله لأمة أعرضت عن شرع الله، لأمة آثرت الانحراف والضلال على شرع الله ودينه، ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: )إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (؟ لم يقل إن تنصروا أنفسكم ولا إن تنصروا جيوبكم ولا إن تنصروا أهواءكم، إن تنصروا الله الذي ائتمنكم على الأمة ومقدراتها، الذي ائتمنكم على الوطن ومقدراته، الذي ائتمنكم على الدين ) إِن تَنصُرُوا اللَّهَ ( ربنا تبارك وتعالى ليس بحاجة إلى نصرنا، ولكن المراد هنا أن ننصر ما ائتمننا عليه ربنا تبارك وتعالى أن نحافظ على الأمانة، أن نرعى ما ائتمننا عليه ربنا تبارك وتعالى حق الرعاية )إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (
أيها المسلمون، توجه جيش المسلمين إلى بلاد فارس بأمر من سيدنا عمر وقيادة سعد بن أبي وقاص، فأرسل إليه هذه الرسالة: ( أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، و إلا ننصرْ علينا بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا – إذا لم نفضلهم بالطاعة والالتزام بشرع الله وحدوده لن نتميز عليهم بالقوة لأن قوتهم أكبر - واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله – رقيب وعتيد يعلمون ما تفعلون – فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليهم شرٌ منهم كما سلط على بني إسرائيل بما عملوا بمساخط الله كفارَ المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم) هذه مقومات النصر كما ذكرها سيدنا عمرt.
اليوم يثيرونها نزاعات داخلية، أريد أن أستذكر معكم شيئاً - يجعلونها حرباً طائفية، عهدنا بهذه البلاد أن أطيافها جميعاً يتعايشون مع بعضهم، على اختلاف توجهاتهم حتى النصارى واليهود، الجميع يسكنون مع بعضهم متجاورين متعاملين، ذاك يذهب إلى كنيسته وهذا يذهب إلى مسجده، وذاك يمضي في مذهبه فيما يدله عليه مذهبه، هذا الأمر ليس وليد اليوم، منذ فجر تاريخنا هذه حالة أمتنا، لم تضق ذرعاً بتباين الاتجاهات، نحن واجبنا أن ندعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أما أن نكره الناس على ترك دينهم فإن هذا الأمر لم يجرِ في ديننا ولا تتقبله شريعتنا، لكن عندما حصلت أحداث معينة قبل سنوات وجد العدو أن العلاقة فيما بين أطياف هذا المجتمع على هذا النحو من الإيجابية خطر على مصالحه، فأثاروها فتنة وأصبحت الحرب لحماية أهل السنة! من أجل حماية أهل السنة نتحالف مع اسرائيل، من أجل حماية أهل السنة نستعين بأميركا ونقول (لله يا أميركا) من أجل حماية أهل السنة نكشف حدودنا مع العدو مستعينين بمخالفين لمذهبنا، ليست المسألة مسألة سنة أم شيعة أم مسلمون أم نصارى، المشكلة أنهم يريدون تدمير هذه البلاد والقضاء عليها، هذه المشكلة لم تكن في ساحة بلادنا منذ تاريخ وجود هذه البلاد في الإسلام، ولكنهم يثيرونها من أجل أن يمزقوا هذه البلاد وأن يجعلوها لقمة سائغة في فم عدوها، أصبحت دول البغي والعدوان الأم الرؤوم لنا، وأصبحت الاستعانة بعدونا وبأسلحته وسيلة لنصرتنا ونصرة أهل السنة على من؟! عشنا معهم، وقد نخالفهم ونختلف معهم ونتناصح وإياهم وندلهم على ما نرى من الحق، ونبين لهم ما ينبغي أن يكونوا عليه، ولكننا لا نكره أحداً على ترك دينه أو مذهبه. هكذا أمرنا ربنا تبارك وتعالى وهكذا جرى أمر أمتنا منذ فجر تاريخها، أما أن نولّد الفتنة في بلادنا خدمة للعدو فهذا ما لا نرتضيه، وهذا ما لا يرضي الله، وهذه مؤامرة من أجل تمزيق بلادنا، إذا أردنا النصر علينا فعلينا أن نعود إلى منهج الله ورسول، أن نعود إلى تاريخ أمتنا كيف تركها سلفنا الصالح، كيف تركها أئمتنا، كيف تركها سلاطيننا، كيف تركها ولاة أمرنا، يعيشون مع بعضهم يتحاورون ويتناقشون في مساجدهم وفي منتدياتهم؛ إلا أنهم لم يحملوا السيف فيما بينهم لحسم خلافاتهم.
لنعد إلى الله ولنعد إلى شرعنا، ولنعد إلى منهجنا فهذا هو ديننا وليس ما يصدره إلينا عدونا؛ ذلك ليس ديننا، ذلك دين من اختاروه، أما نحن فقد اخترنا ما كنا عليه، كان عليه سلفنا رضي الله عنهم، وكان عليه أئمتنا وولاة أمرنا منذ فجر تاريخنا، وجدت هذه الخلافات، وكانت فتنةً أن تجري بيننا خصومات دموية، كلهم يعرفون أنها فتنة، يقولون فتنة سيدنا عثمان، فتنة معاوية ... هكذا تسمى، لأنها خلاف ما ينبغي أن يكون .
أسأل الله أن يعيدنا ويردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يخمد نار الفتنة بلطفه وكرمه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 19/02/2016


تشغيل

صوتي