مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 12/02/2016

خطبة د. توفيق البوطي: الجهل جذر كل فتنة


الجهل جذر كل فتنة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد، فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ( وفي أول آية من كتاب الله سبحانه يقول: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ#خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ# اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ# الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ# عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( ويقول سبحانه: )يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( روى مسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ...إلى أن قال: ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» وروى ابن حجر في المطالب العالية عن عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله r: « طلب العلم فريضة على كل مسلم » أي كل من اتصف بالإسلام ذكراً كان أم أنثى.
أيها المسلمون، من أخطر ما تعاني منه الأمة اليوم جهلها بدينها خاصة؛ بل الجهل بصفة عامة. فبسبب الجهل بدينها تمكن أصحاب الرعونات من بث ضلالاتهم في الأمة باسم الإسلام سواء منها ما كان إفراطاً وغلواً، أو تفريطاً وتمييعاً. وبسبب الجهل تمكن الخصوم من بث الشبهات في عقول الناس، مما يجعلهم يعانون من حالة من الاضطراب والضياع والشك في دينهم وشريعتهم، وبسبب الجهل ضاعت كثير من أحكام شريعتنا، ولم يعد هناك دليل للتعرف عليها والالتزام بها، ولذلك ترى أن فريقين يحرصان كل الحرص على عرقلة وجود المؤسسة التعليمية الشرعية، فريق الغلاة الذين يبالغون في الأحكام ويتطرفون، وينسبون غلوهم وتطرفهم إلى الإسلام، أشد ما يكرهونه ويحاربونه ويقاومونه المؤسسة التعليمية الشرعية، وكذلك الأمر أولئك الذين يريدون أن يفسدوا في ديننا ويميعوا أحكامه ويضللوا الناس عن سبيل الرشد والهداية كذلك، تجدهم يتهمون المؤسسة الدينية الشرعية جزافاً بشتى أنواع الاتهامات كذباً وزوراً وبهتاناً. لا يهمنا، وكما يقولون: ( القافلة تسير...) المؤسسة التعليمية الشرعية موجودة رضوا أم كرهوا، أحبوا أم أبغضوا، فهي موجودة بفضل الله تعالى، والشام موئل العلم ومنطلق أنواره في العالم كله. أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون منزلاً لعمود الإيمان، ومنطلقاً لدعوة الإسلام، ولذلك يتآمر المتآمرون على الشام، ويكيد الكائدون على الشام، ويحاولون جهودهم أن يشلوا فاعلية العمل الإسلامي الصحيح المعتدل الذي ينبثق من منابع الهداية الربانية، لا من أهواء الغلاة ولا من أهواء المفرطين، ستبقى بإذن الله تعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( وحفظ هذا الذكر ربنا تبارك وتعالى قد تعهد به، ولذلك سخر أسباب ذلك من وجود مناهل العلم والهداية ومؤسساتها، على أننا نقول إن على القائمين على المؤسسة العلمية الدينية أن يكونوا أمناء عليها، لأن أي انحراف أو تساهل أو عدم جدية في سلوكهم وفي تعليمهم وفي مناهجهم، سيؤدي إلى ترسيخ المعاني الباطلة أو إفساد المفاهيم في أذهان الطلاب.
اليوم كلنا بحاجة إلى تصحيح عقيدتنا، وأن تكون العقيدة التي نؤمن بها ونرجو أن نلقى الله عليها أن تكون عقيدة متفقة مع ما جاء به ربنا تبارك وتعالى، ومع ما بعث به رسول الله r، يجب أن يكون القائمون على المؤسسة التعليمة الشرعية أو الدينية على جانب من التقى والانضباط والالتزام والأمانة في التعليم وحمل رسالة العلم إلى الناشئة الذين يدرسون في معاهدهم، طبعاً؛ هناك شبهات تثار وهذه الشبهات ينبغي أن تكون حافزاً لنا نحن ولكل مسلم على أمرين، الأمر الأول المزيد من الإقبال على تعلم ديننا وأن ننهل من منابع العلم الشرعي الموثوقة النظيفة علومنا ومعارفنا، لا تزال ولله الحمد مساجدنا تقدم للأمة دروس العلم الشرعي الصحيحة في كثير منها، ولا تزال في دمشق وفي غيرها من بلادنا المعاهد الشرعية الصحيحة قائمة على نشر العلم الشرعي بشتى فنونه. الحقيقة أننا اليوم أحوج إلى أن نتعلم ديننا بدقة وباهتمام وبجدية، وليست الصنعة حائلاً بين العلم وبين صاحبها، كما أن العلم لا يمنع صاحبه من أن تكون له حرفة، فالحرفة مطلوبة لكسب الرزق، والعلم مطلوب لضبط السلوك وتصحيح العقيدة والأخلاق. نحن بحاجة إلى أن نصحح مفاهيمنا عن ديننا، نصحح عقيدتنا نصحح فهمنا لمن؟ لرسول الله وشخصيته، ونميز شخصيته النبوية في فهمنا لديننا وفهمنا لعقيدتنا. كثيرون ممن لم يفهموا شخصية رسول الله r يخطئون بحقه، وهناك من يحاول أن يطمس حقيقة شخصية رسول الله r من أجل أن يضلل الناس عن جادة الحق والهدى.
أيها المسلمون، علينا أن نضع برامج دراسية لأنفسنا ولأهلنا في بيوتنا وفي مساجدنا وفي مؤسساتنا الشرعية العلمية متكاملة دقيقة قائمة على شمولية المعرفة الشرعية، أطفالنا يجب أن يعرفوا من هو رسول الله r، أطفالنا يجب أن يعرفوا صفات الله تعالى وما يجب في حقه وما يجوز وما يستحيل، ويجب أن يعرفوا ما معنى الرسالة وما معنى اليوم الآخر وما سيستقبلنا من أمور سنتعرض لها في حياتنا أو بعد موتنا، كل ذلك يجب أن يكون معلوماً لدى صغارنا وكبارنا ونسائنا ورجالنا؛ لأن هذا أمر مهم جداً، وبهذا أمرنا ربنا تبارك وتعالى، ولهذا قال: )هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ( ولذلك قال: )يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( خصهم بتلك الدراجات العالية، مجالس العلم تحفها الملائكة تغشاها الرحمة يذكر أصحابها ربنا تبارك وتعالى في الملأ الأعلى. وأهل الجهل مطية للشيطان في الفساد والضلال، مطية لكل أنواع الانحرافات، وما شاعت الفتنة في بلادنا إلا بسبب الجهل، لأن أدعياء العلم نسبوا إلى الدين زوراً وبهتاناً كثيراً من المفاهيم الفاسدة، سمو البغي والصيال جهاداً زوراً وبهتاناً، وكثير من الناس لا يعرف الفرق بين الجهاد وبين البغي وبين الصيال. البغي خروج على ولي الأمر، والصيال نشر للفتنة هنا وهناك وتخريب وتدمير، أما الجهاد فله شكلان، شكل في الكلمة والسلوك والعمل، والشكل الآخر هو في مقاومة أي نوع من أنواع الاعتداء على بلادنا وعلى حرمات ديننا وعلى مفاهيمنا وعلى سلامة أمتنا. ليس الآن المجال مجال شرح مفهوم الجهاد، هناك دروس أعطيت حول هذا الموضوع رحم الله الشهيد عندما وضحها وأزال اللبس عنها، ولكن يصرّ أهل الفتنة من نوعيهم أهل التفريط وأهل الإفراط يصرون على أن يطمسوا حقيقة الجهاد، إما أن يسموا الجهاد عدواناً وجريمة وغير ذلك، وإما أن يسموا الفتنة جهاداً. كثيرون ممن يحقدون على الإسلام ويكرهون الإسلام لا يجرؤون أن يتحدثوا عن الإسلام، لا يجرؤون أن يطعنوا مباشرة بالإسلام، إنما يجعلون الطريقة التي يحاربون بها الإسلام هي أن يطعنوا بالمؤسسة التعليمة الشرعية، ويشككوا في المؤسسة الدينية عامة، وفي المؤسسة التعليمية الدينة خاصة؛ بغية إبعاد الناس عن حقيقة المعرفة الإسلامية وعن مناهل العلم الشرعي، يقولون: المعاهد الشرعية تعلم الناس التطرف. التطرف عندهم، التطرف في نشر الفتنة في البلاد، التطرف في أن يكونوا هم متكأ الفتنة، لأن من دعا إلى التفريط بشريعة الله تعالى هو يدعو إلى الفتنة من خلال الدعوة هذه، فريقان شريكان في جريمة الانحراف والضلالة في مجتمعنا، الفريق المفرط والفريق المغالي، كلاهما وجهان لحقيقة واحدة هي محاربة الإسلام ومحاربة ديننا ومحاربة وطننا، الذين يميعون أحكام الشريعة ويفسدونها ويصفونها طبعاً لا يصفون الإسلام، يصفون المؤسسة التعليمية الشرعية، يصفون بعض أحكام الشريعة الإسلامية، فمِن رجلٍ ينسب أحكام الشريعة الإسلامية إلى مذهب ينتقصه، مع أنني أقول: الله أعلم هذا الرجل لم يفهم أو لم يقرأ المذهب أو الفكرة التي يتكلم عنا. يصف أحكام الأحوال الشخصية بأنها أحكام الفقه الحنفي، نعم أنا أقول: لعله لم يطلع على فقه أبي حنيفة أصلاً. ويصف تنوع المذاهب الذي أغنى شريعتنا بأنه صراع، هو يريد أن يحدث الصراع، يرد أن يحدث الفتنة فيما بين أبناء أمتنا من خلال طروحاته، وهل رأيتم أو رأى أحد منكم صراعاً في مسجد ما من المساجد بين الحنفي والشافعي؟ وهل يسأل أحدنا الآخر ما هو مذهبك؟ فيصلي وراءه أو لا يصلي وراءه؟ ما رأينا هذا الأمر. إنما يريدون إثارته ويريدون افتعاله، وهل سمعتم من يمكن أن يصف الأشعرية بأنها مذهب، الأشعرية هم أتباع أهل السنة والجماعة، وهم أصحاب العقيدة الصحيحة، الذين وقفوا في وجه الاعتزال ووقفوا في وجه العقائد الزائغة، في فترة كادت الفلسفة أن تعصف بشريعتنا. ولكن هؤلاء الذين يطرحون هذه الطروحات يستغلون جهل عامة الناس، فيطرحون هذه الطروحات من أجل أن يشوهوا الإسلام، ومن أجل أن يبعدوهم عن مناهل العلم، ويبعدوهم عن مناهل الشريعة ويبعدوهم عن مجالس العلم والفهم ومجالس الدين الصحيحة. أما الآخرون، فلقد علمت أنه إذا كان هناك بين الشباب من يثبت أنه طالب علم شرعي قطعوا عنقه، أما إذا كان طالب طب هندسة أو غيرها فليس بخطير، لأن طالب العلم الشرعي عندهم كافر، ويجب قتله. أجل أقول لكم هذا الكلام، حتى إن طلابنا في كلية الشريعة يطلبون منا أن لا يحملوا البطاقة الجامعية التي يكتب عليها كلية الشريعة، يطلبون أن يكتب عليها كلية الآداب أو كلية الحقوق أو أي كلية أخرى، لأن كلية الشريعة تعني الموت بالنسبة لهم، يحكم عليهم أولئك المجرمون الذين أدخلتهم قوى الغرب إلى بلادنا لكي تكرس للفتنة، ولتدمر هذه البلاد، يحكمون عليهم بالموت، لأنه كافر، من الكافر عندهم؟ طالب الشريعة. فريقان كلاهما شريك في محاربة ديننا هنا فريق الغلاة وفريق المفرطين، ونحن ردنا العملي على ذلك أن نكون أشد حرصاً على مجالس العلم، مجالس العلم لا تزال موجودة، والنعمة إن أهملناها فقدناها، أقول لكم هذا الكلام، ولقد رأينا نُذُر هذا الكلام تتجلى، نحمد الله عزَّ وجل أن بلاد الشام لاتزال منهل العلم الشرعي، ومنطلق شعاعه، فاحمدوا الله على هذه النعمة ولا تهملوها. ولا تزال مساجدنا وبفضل الله تعالى وبرحمته وبعنايته للنساء وللرجال مناهل علم مناهل معرفة، وقد رأيت مشاهد أثارت في قلبي أعظم مشاعر السعادة عندما رأيت في صباح يوم من الأيام مئات الأطفال يقفون عند بعض المساجد هنا ليُمتحنوا في جزء من القرآن أو خمسة أجزاء أو عشرة أجزاء من القرآن، هذه البلاد بلاد القرآن رضي من رضي وكره من كره، هناك والحمد لله رب العالمين مجالس علم تدرس السيرة والعقيدة والفقه والقرآن والتفسير والقراءات والحديث، لاتزال هذه البلدة منهل علم لكل قاصد، وستظل كذلك كره من كره ورضي من رضي. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا أمناء على هذه الأمانة وأن لا نضيعها.
أسأل الله أن يوفقنا لما فيه رضاه، ويجعل كيد من يكيد ديننا في نحره، ومكر من يمكر به عائداً عليه إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.
خطبة الجمعة 12/02/2016


تشغيل

صوتي