مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 05/02/2016

خطبة د. توفيق البوطي: اثبتوا ... فهذه البلاد محط عناية الله


اثبتوا ... فهذه البلاد محط عناية الله
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( ويقول سبحانه: )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ( روى ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله r: «إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فأتبعته بصري، فإذا هو نور ساطع عُمِد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام» حديث صحيح على شرط الشيخين، وروى مسلم عن ثوبان، قال: قال رسول الله r:« لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» زاد مطرف في رواية فقال: « فنظرت في هذه العصابة فإذا هم أهل الشام » عن واثلة بن الأصقع، قال: سمعت رسول r وهو يقول لحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل وهما يستشيرانه في المنزل – أين ينزلان – فأومى إلى الشام، ثم سألاه فأومى إلى الشام، ثم سألاه فأومى إلى الشام، ثم قال: « عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من خلقه، فمن أبى فليلحق بيمنه وليسق من غدره فإن الله تكفل لي بالشام وأهله» وروى الحاكم في المستدرك عن أبي أمامة الباهلي أن النبي r قال: « الشام صفوة الله من بلاده يسوق إليها صفوة عباده، من خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه، ومن دخل من غيرها فبرحمته»
أيها المسلمون، لقد وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عامة أن يؤيدهم بنصره، ما ثبتوا على الحق والتزموا نهجه وتجنبوا مزالق الفتن ووعدهم بنصره و تأييده ألم يقل )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ( ووعد الأمة بأنهم إذا ما تحقق منهم الإيمان والعمل الصالح، والإيمان عقيدة وفهم لحقائق الكون إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله والإيمان باليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، إيمان بكتاب الله وبكل ما تضمنه من حقائق وأوامر ونواهٍ، وإيمان بما تضمنته السنة من بيان لكتاب الله تعالى، وعد الأمة إذا ما التزمت فآمنت بما أمر الله تعالى أن نؤمن به، وقامت بما أمر الله تعالى أن نلتزم بالقيام به، واجتنبت ما نهى ربنا تبارك وتعالى عنه، وعدنا أن تنتصر هذه الأمة، وأن يمكن الله سبحانه وتعالى لها في الأرض، وأن يجعل لها التأييد والنصرة ما داموا على ذلك، كما وعد الأمة بأن تبقى طائفة منهم ثابتة على الحق ملتزمة بنهج الله مجتنبة نهي الله، لا يبدلون ولا ينحرفون، ووعد أهل الشام أن تبقى الشام في ذمة الله في رعاية الله في أمان الله وفي ظل عنايته، هذا الوعد سينجزه الله سبحانه وتعالى، وهذا النصر سيتم لهذا الدين ولهذه الأمة بنا أو بغيرنا، فإن استقمنا كنا صفوة الله من عباده يجري الله تعالى على يديهم أسباب العزة والمنعة والكرامة والثبات والحق، وأما إن انحرفنا فإن سياط التأديب لابد أن تلهب ظهورنا، وإن الفتنة والمحنة لابد أن تطوف بنا لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وعد الله تعالى رسول الله وأصحابه بالنصر والتأييد فتحقق لهم النصر والتأييد، وما أغمض رسول الله عينيه عن هذه الحياة الدنيا إلا وقد جاء نصر الله تعالى ودخل الناس في دينه أفواجاً، وكانت جزيرة العرب كلها قد رضخت للحق ودخلت في دين الله سبحانه وتعالى، وعندما عصفت فتنة الردة بالناس بعد وفاة النبي r عادت بعزيمة صادقة من سيدنا أبي بكر t والصحابة المخلصين الكرام، عادت جزيرة العرب مرة أخرى بكل من فيها إلى دوحة الخير والحق والهدى، ومضت جحافل الفاتحين لكي تزيل مظاهر الظلم والبغي والعدوان من بلاد الشام وبلاد العراق بعد أن أرسل إليهم النبي r بشارة الهدى وبشائر الخير عندما أرسل إلى هرقل وكسرى (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن لم تفعل فإن عليك إثم الأريسيين – لهرقل – ولكسرى إثم الدهاقين) نعم انتصرت الدعوة الإسلامية بإخلاص أبنائها وبتمسكهم بهدي الله سبحانه وتعالى وتشبثهم بكتاب الله وسنة رسوله، وعندما اغترت هذه الأمة بمتاع الحياة الدنيا، وانصرفت إلى الغفلة واللهو وإلى الانحراف وغير ذلك في أواخر العهد العباسي، عندما مالت إلى الترف وظهرت مظاهر الفسق والمجون، سقطت الدولة العباسية، وسلط الله على الأمة المغول والتتار، وسلط الله على الأمة أيضاً من بعدُ الصليبين، ثم إن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى أعاد بناء الأمة من خلال التعليم والتربية والدعوة فأطلق أبواب الدعوة الإسلامية في المساجد والمدارس؛ لتستعيد الأمة هوية الخير هوية الحق هوية الالتزام فاستعادت الأمة مكانتها تحت الشمس وانتصرت على جحافل الصليبين واستعادت بيت المقدس الذي ضيعناه، استعادت بيت المقدس وطُرد الصليبيون بعد مئتي عام من الاحتلال لهذه البلاد، نعم، وعاد الخير والحق والعزة لهذه الأمة والمنعة، ولما مالت إلى اللهو والترف واقتدت بأهل الضلال والفسق والانحراف من غرب وشرق وغيرهما، عندما انحرفت عن نهج الهداية سلط الله علينا قوى الطغيان الغربي والبغي والفساد من هنا وهناك، وها نحن نعاني من المحنة بأسوأ أشكالها كما ترون. ولكن مع ذلك يا أهل الشام أبشروا فلقد وعد النبي r أن تبقى هذه الشام قلعة الإيمان وملاذ المؤمنين، وموضع كفالة الله سبحانه وتعالى إذ قال النبي r: «إن الله تكفل لي بالشام وأهله » ومهما بغى وطغى أهل الفجور وأهل الفتنة من هنا وهناك فإن هذه البلاد قد تلهب ظهور أبنائها سياط التأديب نتيجة انحراف أو غفلة أو معصية إلى أن هوية هذه البلاد وثبات هذه البلاد وكفالة الله لهذه البلاد لابد أن تتجلى رضي من رضي وكره من كره، وستنتصر الدعوة الإسلامية ومظاهره انتصارها ومظاهر عناية الله تعالى بها واضحة لكل ذي عينين، واضحة لكل متأمل، ومهما أراد أهل الفساد وأهل الطغيان أن يسلبوا هذه البلاد هويتها، وأن يحرموا هذه البلاد كفالة الله خسئوا، فهي ستظل موضع عناية الله وستظل موطن الإيمان موطن الإسلام منطلق الدعوة الإسلامية بعون الله سبحانه وتعالى وبفضله ونصره وتأييده، نعم قد يتمكن أهل البغي والعدوان من أن يسيئوا وأن ينشروا أسباب الفسق فيها، ولكن لابد أن تتجلى عناية الله ورعايته لهذه البلاد، مجالس الذكر فيها لا تزال قائمة، ومجالس العلم فيها لا تزال قائمة، لئن خرج البعض فقد خرجوا كما قال رسول الله r بسخط الله، أما الباقون الثابتون هنا أما الذين تمسكوا بجمرة الإيمان: «القابض على دينه كالقابض على الجمر» وكانوا أمناء على كفالة الله لهذه البلاد هؤلاء بإذن الله تعالى سيكونون الطليعة التي ينتصر بها الحق وينتشر بها شعاعه في أرجاء الدنيا بأسرها بعون الله وتأييده.
نعم، قد نرى الكثير من مظاهر الفتنة هنا وهناك، ولكن الله غالب على أمره، ولن تتغير هوية بلاد الشام ومسارها عن عناية الله عن رعاية الله عن كفالة الله، لأن الله أرادها كذلك، فليرد من شاء ما شاء وإرادة الله لابد أن تغلب وقضاء الله لابد أن يتم، أما المنهزمون فقد هزموا أنفسهم، أما المترددون فليخرجوا، وأما الثابتون فستكون العزة والكرامة والتأييد والأجر والمثوبة بإذن الله تعالى لهم « أجر القابض فيهن على دينه أجر خمسين شهيداً، قالوا منا أم منهم يا رسول الله ؟ قال بل منكم ».
أيها المسلمون، يا عباد الله، كما يقول رسول الله، يا عباد الله اثبتوا على الحق تمسكوا به، نعم مظاهر العناية والتمييز لهذه البلاد واضحة كما أشرت في مجالس الذكر ومجالس العلم وفي إقبال الناس على الالتزام الواعي بدينها، ما نشهده من محنة مرده أمران إما سياط تأديب، وإما تمحيص لأهل الحق ليخرج أهل الزيف من هذه البلاد و تطهر منهم. بعد كل الذي جرى علينا أن نبحث عن سبيل رشد يرضي الله تعالى أن نسلكه؛ إنه العلم إنه الالتزام إنه التوبة إنه الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، إنه التمسك بحبل الله، إنه القبض – القابض على دينه كالقابض على الجمر. أمر صعب ولاسيما على الشباب الذين تتزلزل الأرض تحت أقدامهم بما يرون وبما يسمعون وبما تحاول قوى الفساد في الأرض أن تنشر في أوساطهم من مزالق الانحراف أقول: يا عباد الله اثبتوا، يا أيها الشباب تمسكوا بحبل الله، الزموا بيوت الله، اثبتوا على عبادة الله، تعلموا عقيدتكم، تعلموا دينكم، تعلموا فقهكم، تمسكوا بهذا الدين، لأن المستقبل ولأن الغد سيبتسم لكم بعون الله وتأييده، وهذه البلاد ستبقى محط عناية الله شاء من شاء وأبى من أبى.
أقول: ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، لابد من الصبر وإن مع العسر يسرا، سيجعل الله بعد عسرٍ يسرى، أقول: اصبروا فإن هذه اللأواء تبشر بعدها برخاء، وإن هذه الشدة لابد أن يعقبها بإذن الله الفرج فاصبروا اثبتوا لأن هذه البلاد محط عناية الله سبحانه وتعالى، فمن ثبت فيها لقي النتائج ومن ارتحل عنها خسر النتائج.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينور بعنايته قلوبنا، وأن يهدي إلى سبيل مرضاته قلوبنا وعقولنا وسلوكنا، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين
خطبة الجمعة 05/02/2016


تشغيل

صوتي