مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 15/01/2016

خطبة د. توفيق البوطي: حب الدنيا رأس كل خطيئة


حب الدنيا رأس كل خطيئة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ# قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: )وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً ( روى أبو داود في سننه عن ثوبان قال: قال رسول الله r : « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»
أيها المسلمون، من أخطر ما تصاب به الأمة فيضعف عزيمتها ويمزق كلمتها ويثير الخصومة بين أبنائها ويبدد جهودها وطاقاتها، ويضعفها أمام عدوها، وينسيها آخرتها ويضيع دينها أن يستبد حب الدنيا باهتماماتها؛ فكم فرقت بين الأخ وأخيه وبين الزوج وزوجته، وكم أوقعت في الظلم والعدوان، وكم أثارت من النزاع بين الأقربين، كم فرقت بين أصدقاء وأفسدت بين الشركاء، كم كانت سبباً في الهزيمة في الحروب، وكم كانت نقطة الضعف التي يستغلها العدو، فما الدنيا؟ الدنيا أجملها بيان الله تعالى في قوله )زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا( الدنيا هي تلك الأشياء التي أوردتها الآية، ولكن الأخطر منها ما يعد بوابة إليها وناصية لها وهو حب الزعامة والقيادة والتنافس عليها، من أصغر موقع إلى أعلى موقع، الدنيا هذه لماذا زينت في قلوبنا، وإنما زينها ربنا، أودع في القلوب الرغبة إليها، لم يودع الله سبحانه وتعالى حب الدنيا في القلوب لذاتها، وإنما لأنها الوسيلة التي بها يستمر بناء هذا الكون واستمرار النوع الإنساني؛ بقاؤنا وبقاء الحياة واعمار هذه الأرض، فهي وسيلة، ولكننا وبقلة وعينا وبقصور نظرنا حوّلنا الوسيلة إلى غاية فغدت داء بدلاً من أن تكون دواء، وغدت مصيبة بدلاً من أن تكون نعمة، هي )زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء( المرأة شريك حياتك، والعلاقة فيما بين الزوجين سر بقاء النوع الإنساني، وهي سبب لإعفاف الرجل كما أن الرجل سبب لإعفافها، والبنون امتداد لوجودنا، فحب الحياة مغروس في كياننا، والتعلق بالحياة لا يعني البقاء فيها، ولكن يعني الحرص على حسن استثمار هذه الحياة وتوظيف هذه الحياة، والأبناء والبنات امتداد لوجودنا واستمرار لبقائنا، هم امتداد لك أنت، وأنت عندما ترى أبناءك إنما ترى فيهم امتداداً لوجودك وامتداداً لحياتك، لذلك تحرص عليهم وتبذل كل ما في وسعك من أجلهم لكي يكونوا من بعدك امتداداً لصالح أعمالك، وهكذا كل مشتهيات الدنيا ليست غاية، وإنما هي وسيلة. زينت لنا بمقدار ما تكون وسيلة، وعندما تصبح غاية تنقلب إلى سم زعاف، الذهب والفضة وسيلتان لتوفير جميع متطلبات الحياة من طعام وشراب وغيرهما، وليسا غاية. النقود إذا أصبحت وسيلة حملتك، وإذا أصبحت غاية حملتها. وعندما تكون وسيلة تكون في خدمتك، وعندما تصبح غاية تكون أنت في خدمتها، وعندئذ كم تُذلُّ صاحبَها وكم تهينه وكم تشقيه وكم تتعسه. وهكذا الخيل والأرض والأنعام.
أيها المسلمون، الدنيا بيد العقلاء قبل أن أتحدث عن المؤمنين، تتحقق بمقدار التعاون بينهم، بمقدار ما يتعاون أبناء المجتمع، وبمقدار ما تتضافر طاقاتهم تنمو لهم الدنيا وتزدهر، وبمقدار ما تكون فيهم الأنانية والأثرة بمقدار ما يشقى المجتمع ويتعس، وتتضارب مصالحهم فيما بينهم، شتان بين مجتمع جميع أبنائه بأمر أنفسهم يداً واحدة، وبين أيدٍ ضعيفة تتكالب على الدنيا بأنانية فلا يصل الفرد منهم إلا إلى أقل القليل، تتبدد الطاقات وتصطرع المصالح، وهذا الأمر موجود في المجتمعات التي عرفت الدنيا، فاستخدمت عقلها للاستكثار منها، وأدركت أن ازدهار دنياها يكون بمقدار تعاونها وتضافر طاقات أبنائها، أما المؤمنون فإنهم يضيفون إلى هذا الفهم فهماً آخر، المؤمن يرى فيها ثمناً يشتري بها الآخرة، يدرك كل إنسان مؤمن أن الدنيا التي يعيشها ليست باقية له، و أنها إنما هي أيام تمضي به إلى حتفه وتسير به إلى نهايته، يبدؤها طفلاً صغيراً ضعيفاً، ثم فتى ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً إذا قدر له أن يصل إلى الشيخوخة، ثم تقول له الدنيا امض، فليس لك في دارك هذه مستقر، إنك مرتحل. هنا يدرك الإنسان المؤمن أن الدنيا جسر يعبره إلى الآخرة، فهي مزرعة يحصد ما يزرعه فيها هناك، وهي منتجع يستريح فيه ولكن لا ليستقر، وإنما ليمضي إلى تلك الدار التي يسعده فيها بمقدار ما بذل لها في هذه الدار، وعندئذٍ تصبح الدنيا هذه مطية للآخرة ووسيلة لسعادتها، ألم يقل الله عزَّ وجل ) مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ( روى أبو هريرة t أن النبي r أمر عائشة أن تذبح شاة فقسمتها بين الجيران، وكان أحب الشاة إلى النبي r الذارع، فلما جاء النبي r قالت عائشة: ما بقي عندنا شيء إلا الذراع، فصحح لها النبي r لها كلامها وقال: «كلها بقيت إلا الذراع» ما بذلته في هذه الدنيا للآخرة هو الذي يبقى، وما احتفظت به في هذه الدنيا هو الذي يفنى ويستهلك، وقد تتمتع به أنت، وقد يتمتع به ورثتك وقد لا يتمتع به أحد، فهمُ الإنسان لهذه الدنيا يجعلها وسيلة يشتري بها السعادة الأخروية، المال.. البيت.. الزوجة، كل شيء في هذه الدنيا وسائل يستخدمها فيما يرضي الله عزَّ وجل، وينفق هذه الدنيا فيما يعود عليه غداً في آخرته بالخير والسعادة، أدرك الإنسان المؤمن أن هذه الحياة التي هي وعاء كل ملذات الدنيا لا بقاء لها، ولذلك قال العارفون، ومنهم أبو الدرداء t: ( أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يتبعه أو يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه ولا يدري أرضى اللهَ أم أسخطه، وأبكاني فراق الأحبة ومحمد وصحبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل يوم تبدو السريرة علانية، ثم لا أدري إلى الجنة أم إلى النار) الإنسان المؤمن لا يحرم نفسه من هذه الدنيا شيئا، ولكنه يجعلها في خدمته، ولا يكون هو في خدمتها، ويجعلها جسراً ليصل بها إلى آخرته، ولا ينسى الآخرة ويوهم نفسه بالخلود في هذه الدنيا.
أسأل الله أن يبصرنا بحقيقة حياتنا وبحقيقة دنيانا، حتى نجعلها سبباً في سعادتنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 2016/01/15


تشغيل

صوتي