مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 08/01/2016

خطبة د. توفيق البوطي: تحذير وبشرى


تحذير وبشرى
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( ويقول جلَّ شأنه: )لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ( ويقول جلَّ شأنه: ) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ( وقال سبحانه: ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ# وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (.
أيها المسلمون ما يجري اليوم من مصائب وفتن إنما هو بسبب أخطاء ومعاصٍ نرتكبها، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابته الكريم: ) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( اجتمعت جحافل المشركين لتثأر لقتلاها في غزوة بدر، وحشدوا ثلاثة آلاف مقاتل وتوجهوا نحو المدينة المنورة، وخرج النبي r لملاقاتهم مع أصحابه، وانسل من الصف المنافقون، وهذا ديدنهم يخذلون المسلمين في الساعة الحرجة، ولكن ذلك لم يؤثر على عزيمته r وتابع سيره، واختار الموقع هو قبل أن تختاره قريش، فجعل خمسين رامياً على تلة أطلق عليها فيما بعد جبل الرماة، وأُمروا أن لا يغادروا أماكنهم على أي حالة كان فيها رسول الله وأصحابه، سواء انتصروا أو أصيبوا، وما أن بدأت المعركة حتى تمكن هؤلاء المسلمون وهم لا يتجاوزون ستمائة مقاتل في مواجهة ثلاثة آلاف مشرك، ما لبثوا أن انكشفت أمامهم قوة العدو ومضى المشركون لائذين بالفرار، وخيل إلى الرماة أن الأمر قد انتهى، نزلوا مخالفين أمر النبي r أمر قائدهم المؤمر عليهم عبد الله بن جبير، خالفوا طمعاً بشيء من الدنيا؛ طمعاً بالغنائم، فماذا كانت النتيجة، كانت النتيجة أن انتبه إلى خلو ذاك الجبل خالد بن الوليد - وكان يومئذ مشركاً - فقام بعملية التفاف وانقلب على المسلمين من ورائهم، وقتل البقية الباقية من الرماة، وفوجئ المسلمون بنصف جيش المشركين يأتيهم وهم منشغلون عن المعركة، وقد انتهت فيما يتصورون، واتجهت الأنظار – أنظار المشركين – إلى النبي r يستهدفونه؛ ولم يبق حول النبي r إلا قلة من الرجال ولكنهم كانوا أشداء مخلصين، في هذا يقول ربنا تبارك وتعالى - وقد قتل من المشركين في بدر سبعون وأسر مثلهم، فقتل من المسلمين في أحد سبعون - ) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُم ( هذا، مع أن النبي r كان بينهم، وهم الصحابة الكرام. أربعون من أصل ستمائة كان سبباً في هزيمة الجيش وإصابة النبي r، إذ شج وجرح وجهه وكادوا يقتلونه، وشاع بين المسلمين قتله، مصيبة وأي مصيبة، لأن عدداً قليلاً من الجيش الإسلامي الذي يسير خلف النبي r عصى الأوامر. فماذا نقول نحن اليوم ؟ من منا الذين يلتزمون أمر الله وأمر رسوله؟ ومن هم الذين يطيعون الله ورسوله في حياتهم وشؤونهم ومسلكهم ومشربهم ومطعمهم، وتربيتهم ولأولادهم ومعاملاتهم المالية؟ أين هي المحافظة على حقوق الآخرين، سواء كانوا قريبين أم كانوا بعيدين، سواء كانوا أرحاماً أم كانوا جيراناً أم كانوا غير ذلك؛ في معاملاتنا في إجحافنا في حق إخواننا، في ظلمنا لبعضنا، ثم نسأل لماذا أصبنا بكل هذه المصائب؟ )قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ( هكذا قال ربنا تبارك وتعالى ) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (. نعم قد يكون الخطأ متجذراً في الآخرين؛ ولكن هذا لا يسوغ تمادينا في أخطائنا سواء كانت داخل بيوتنا أم كانت مع القريبين منا أم كانت في حياة العامة أم كانت من ولي الأمر أو الرعية، ممن كانت الأخطاء فإنها سبب في المصائب )كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( في الدنيا أثر المصيبة يعمّ، أما في الآخرة فـــــ )كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( في الآخرة لابد أن يحاسب كل امرئ بالذرة والنقير والقطمير. لا ينبغي أن نلقي التبعة على الآخرين بل علينا أن نحاسب أنفسنا أن نعود إلى أنفسنا و نحاسب أنفسنا ونتأمل ونقرأ ذواتنا، ما مدى التزامنا أو عدم التزامنا، ما هو مدى تمسكنا أو تفلتنا. المصيبة التي قد تصيب الفرد منا ينبغي أن يعود إلى ذاته فيحاسب نفسه، هذا ما أخبرنا به الله) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (
أيها المسلمون نحن مطالبون بالتغيير، تغيير واقعنا والتحول من الخطأ إلى الصواب، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن المخالفة إلى الالتزام، لأن واقعنا اليوم على النحو الذي نراه - وكل منا يعود إلى نفسه- ليس على النحو الذي ينبغي. لقد بين لنا ربنا تبارك وتعالى على لسان نبيه r عموم المسؤولية فقد صح عن النبي r أنه قال : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته» لذا فإن واجبنا أن نبادر إلى إصلاح ذواتنا، إلى مراجعة أنفسنا، والنبي r قال: « بادروا بالأعمال – أي الصالحة – فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً و ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل » نرى هذا أمام أعيننا اليوم، كيف يتخلى الكثيرون من أجل لعاعة من المال، من أجل شهوة عابرة، من أجل نزوة يتخلى عن المبادئ، يتخلى عن الدين، يتخلى عن كل شيء ويلتحق بالكفرة، يلتحق فكريا أو سلوكياً، أو حتى بالانتقال من أرض الإيمان إلى أرض الكفر؛ متجشماً في سبيل ذلك كل المصائب، متحملاً من أجل ذلك كل ما قد يلحق به من تبعات، هذا ما نراه أمام أعيننا اليوم.
أيها المسلمون، إن أقدامنا تسير بنا إلى فتن أشد )اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ( الله أخبرنا عن دنو الساعة في عهد النبي r لأن أول العلامات بعثة النبي r، فبعثة النبي r مؤشر لأنه لا نبي بعده، وأنه إنما يلي بعثته يوم القيامة، لكن هناك علامات أخر كثيرة يضيق المقام عن عرضها، والملاحظ أننا نتجه إلى كل ذلك بشكل ما من الأشكال، متجهون إلى أهوال تطوف بهذه الأمة، وتعصف بسلامتها، يقول النبي r: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» الالتزام بأوامر الله واجتناب منهيات الله والوقوف عند حدود الله والتجنب لمعصية الله، التمسك بحبل الله أن يلذّ المرء أن يتمسك بالجمرة التي وصفها النبي r عندما قال: « ويل للعرب من شر قد اقترب، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك بدينه كالقابض على الجمر» ما ألذ حرارة الجمر إذا كانت ثمناً للنجاة والعزة وثمناً للجنة، وما أحط وما أصعب أن يرمي المرء نفسه في أودية الجحيم لقاء لعاعة من المال مغموسة في الذل، مغموسة بالكفر، مغموسة بالهوان، مغموسة بالردة، مغموسة بالانحراف. لا يلقين أحد التبعة على غيره،( كل امرئ بما كسب رهين) كل واحد منا مسؤول عن نفسه، ومسؤول عن مناصحة غيره، لكن لا تحمّل فلاناً التبعة، حمّل نفسك، عد إلى نفسك فأصلح بيتك وأصلح نفسك وأصلح محيطك، فإذا ما تحمل كل منا مسؤوليته فرج الله تعالى عنا وأصلح لنا الحال. لن ينجو من هذه الفتن إلا من تمسك بحبل الله، إلا من تمسك بدين الله إلا من اعتصم بشرع الله، أما الذين يترددون والذين يفكرون في أن يكونوا مع مصالحهم الدنيوية، لن يصلوا إلى مصالحهم الدنيوية وستفوتهم المصالح الأخروية، إن النبي r يقول: :« بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً و ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل » أهوال تمر بنا اليوم ولكن أبشّر الثابتين بأنهم كما النبي r: « أجر القائم على دينه كأجر خمسين من أصحاب رسول الله » أنا أبشر ببشارة النبي r شباباً اعتصموا بحبل الله، وفتيات تمسكن بشرع الله لن يأبهوا بالعواصف ولا بالفتن تشبثوا بشرع الله تمسكوا بدين الله تمسكوا بصلاتهم تمسكن بحجابهن، تمسكوا جميعاً بشرع الله تعالى بالأمانة والاستقامة والورع والتجنب عن الموبقات والمحرمات، بشرهم النبي r فقال: «أجر القابض منهم على دينه كأجر خمسين شهيداً ، قالوا منا أم منهم يا رسول الله؟ قال: بل منكم» كأجرين خمسين شهيداً من أصحاب رسول الله، فأبشروا يا من أصررتم على أن تكونوا مع هدي الله، مع شرع الله، لا تهزكم العواصف ولا تنال منكم الفتن ولا ترتعد فرائصكم للزلازل التي تطوف هنا وهناك، لأنكم تمسكتم بحبل الله سبحانه وتعالى، أقول لهؤلاء البشرى، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً منهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 2016/01/10


تشغيل

صوتي