مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 01/01/2016

خطبة د. توفيق البوطي: إنما أنت أيام


إنما أنت أيام
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: ) تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ# الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ( ويقول سبحانه: )وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( ويقول الله سبحانه في كتابه مخاطباً من أشقوا أنفسهم في الغفلة عن حياتهم:) أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ( ويقول سبحانه في كتابه الكريم: )وَالْعَصْرِ#إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ# إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( وإذا تأملنا في كتاب الله وجدنا أن الله عزَّ وجل أقسم بالزمن أو معياره في كثير من الآيات ) وَالضُّحَى# وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى( )وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى# وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى( ) وَالْفَجْرِ# وَلَيَالٍ عَشْرٍ( )وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا# وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا( كل ذلك إشارات إلى أهمية الوقت وخطورة العمر، روى مسلم والترمذي عن أنس t قال قال رسول الله r: «يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر» تجده مولّياً، هرم منه الجسم وضعفت منه البنية وتكاثرت السنون وهمومها عليه إلا أن الأمل في الحياة والحرص على مقوماتها وعلى الدنيا لايزال فيه فتياً متوقداً متوثباً، أخرج الإمام أحمد والبيهقي وابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء وعن الحسن البصري: (ابن آدم إنما أنت أيام فكلما ذهب يوم نقص بعضك، ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك مذ ولدتك أمك)، كل يوم يمضي عليك من بعد ولادتك يبعدك عن يوم ولادتك ويدنيك إلى يوم أجلك.
أيها المسلمون عام شمسي مضى من حياتنا، كما مضى قبل فترة عام قمري هجري من حياتنا، كلاهما مؤشر إلى أن العمر ماض، وأن أقدارنا تمضي بنا إلى حتوفنا وآجالنا، فلا يغر بطيب العيش أحد، كما لا ينبغي أن ييأس لمصابٍ أصاب أحدنا أحد، حياتنا هنا دار عمل، وفرصة لشراء السعادة أو للسقوط في أودية الشقاء، ألم يقل لنا ربنا الذي خلقنا: )يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ( وهل نال البقاء في الدنيا إنسان مهما بلغ شأنه قوة او غنى أو جاهاً، مسكينٌ الإنسان، ينسى حقيقته ويغتر بشيء من الصحة أو المال أو الجاه بينما يمضي على قدميه إلى قبره، ليله يسلمه إلى نهاره ونهاره يسلمه إلى ليله، ليقول له نقص من حياتك يوم واقتربته إلى أجلك فإنما أنت أيام، وأنت أمانة مستردة ولابد يوماً أن ترد الودائع، وما المال والأهلون إلا ودائع ولابد يوماً أن ترد الودائع، عام مضى فماذا يعني ذلك بالنسبة لنا ؟ أيها المسلمون جرى غير المسلمين على إقامة احتفالات عظيمة جداً يحاولون فيها أن يختصروا الحياة فيعتصروا كل لذائذها في تلك الليلة، ذلك لأنهم يعتقدون أو يخيل إليهم أن حياتهم هي هذه الحياة الدنيا فقط، وأنها الفرصة الوحيدة وأن الموت نهاية أبدية، هذا التوهم سببه عدم الإيمان، أمَّا أن يسير المؤمنون خلفهم كما أخبر النبي r «لتتبعن سَنن من قبلَكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍ لدخلتموه» إنه أمر عجيب يدل على أن علينا أن نراجع قلوبنا ونتحسس موقع الإيمان من قلوبنا وأن نعود إلى أنفسنا ونراجع ذواتنا. نعم إن فرصة من فرص الحياة قد مضت ولا ندري كم بقي منها، نحن نعلم جيداً كم مضى من حياتنا، ولكن من منا يعلم كم بقي له من حياته، يوشك أن يغيب المرء عن المجلس فلا يعود إليه، ويوشك أن ينام ولا يستيقظ، بينما هم يحلم بأيام مديدة، كما قال رسول الله rعندما رسم خطاً وقال: «هذا ابن آدم وهذا أمله، ثم وضع خطاً يقتطع هذا الخط وقال: وهذا أجله » أمَلُك متطلعٌ إلى البعيد، لكن أجلك لا تدري متى يأتيك، جدير بالعاقل أن يكون دائما على استعداد للقاء ربه، وأن يكون على حالة من الحذر فلا يأتينه الموت وهو معرض. إن أعظم غنيمة تغتنمها بعد هذه الحياة بكل ما فيها من لذائذ أو مصائب؛ من مرارة أو حلاوة هو حسن الخاتمة، وإنما تحسن خاتمة من حسنت ساعات يومه؛ وكان دائماً على استعداد للقاء ربه، ذاك هو الذي يمكن أن يفوز، أما من سوّف واستمهل فسوف لن تكون إلا بلاءً عليه، ترى هذه الفرصة هل ملأناها بالخير أم ملأناها بالمعاصي والغفلة، أيامنا التي نعيشها نحن مسؤولون عنها، ولابد من موقف يسألنا الله تبارك وتعالى عنها ألم يقل النبي r: « لاتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيمَ أفناه، وعن جسده فيمَ أبلاه، وعن علمه هل عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وأين أنفقه» عن عمرك هذه الأمانة هي وعاء الأمانات كلها، هي الكنز الذي لا يساويه كنز، بعض الناس يقول الوقت من الذهب، الوقت هو أنت، أنت أعظم من الذهب، أنت مستعد أن تبذل كل الذهب الذي بين يديك تبذله من أجل عافيتك، بل من أجل نعمة متعك الله عزَّ وجل بها، الوقت هو أنت فلا تقتل نفسك، فلا تقتل حياتك الدنيوية فيؤدي ذلك بك إلى أن تخسر حياتك الأخروية.
وبعد أيها المسلمون، إن التاجر في نهاية العام يقوم بجرد سنوي لعمله التجاري، هذا شأن معروف، وهذا شأن كل عاقل، وكل ذي صنعة أو مهنة أو كل عاقل ينظر إلى نهاية المرحلة التي هو فيها، وقد قسم ربنا تبارك وتعالى مراحل حياتنا إلى أيام فأسابيع فأشهر فسنوات، فاليوم يذكرك بنهايتك، ما ينبغي أن تنتظر السنة بل فانظر للشمس كيف تغرب كذلك أنت سوف تغرب، أرأيت كيف ينتهي اليوم، كذلك ستنتهي أنت، أعد للنهاية عدتها


تشغيل

صوتي