مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/10/2015

خطبة د. توفيق البوطي: مقارنة بين أنصار اليوم وأنصار الأمس


مقارنة بين أنصار اليوم وأنصار الأمس
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( وقال سبحانه: )وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( وقال r فيما صح عنه:" الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " وفي الحديث الآخر الذي رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين قال r : "الراحمون يرحمهم الله، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله ومن قطعها قطعه "
أيها المسلمون، مرة أخرى نقف أمام انتهاء عام من حياتنا وابتداء عام جديد، يجدر بنا أن نراجع أنفسنا وأن نعيد النظر في كثير مما كنا عليه، أن ننظر في أحوالنا ومدى استعدادنا للقاء ربنا، فكثيرون ممن كانوا بيننا في مثل هذا اليوم من العام المنصرم طواهم الثرى، ولو تأملت فيهم لوجدت فيهم الشاب والشيخ، والغني والفقير، والصحيح والمريض والقوي والضعيف، لذلك لسنا بمنأى عن الأجل الذي يمكن أن يخترمنا فلا نلقى مثل هذا اليوم من العام القادم، فما مدى استعدادنا للقاء الله عزَّ وجل، وللمثول بين يديه لاختتام فرصة العمل وابتداء مرحلة الحساب. في بداية عام وبمراجعة لأنفسنا مراجعة صادقة مراجعة جادة ندرك أنه لا ثبات لحال، وأن الغد يختلف عن اليوم، فقد يعود بصاحبه إلى الخسارة بعد الربح، وقد يعود بصاحبه إلى الربح بعد الخسارة. قد يعود بصاحبه إلى الهزيمة بعد أوهام النصر، وقد يعود بصاحبه ببشائر النصر بعد تسلل اليأس إلى القلوب؛ لشدة ما ناله من معاناة. على أن من زرع حصد ما زرع.
أيها المسلمون متغيرات لابد أن نراها في الساحة فلمن كان يعيش في أوهام عليه أن يتحسس مواطئ قدميه ويدرك أن الأقدار الإلهية لا تتبع أوهامك ولا أحلامك، الأقدار الإلهية لها سنن ينبغي أن نتعلمها و ندركها فنلتزم قواعدها لنصل إلى ما نرجو، أو على الأقل لنصل إلى مرضاة الله فيما نرجو.
أيها المسلمون، تاريخنا يبدأ من الهجرة النبوية، ولهذا دلالة، لأن الهجرة النبوية كانت ميلاد الدولة الإسلامية، ميلاد وجودنا، ولأنها كانت منطلقاً للهداية التي كانت أسيرة لاضطهاد أهل مكة وصناديد الشرك فيها، انطلقت من أسر وقبضة الاضطهاد في مكة لتنشئ وترسي قواعد دولة إسلامية في المدينة قائمة على الإخاء قائمة على المحبة قائمة على الرحمة قائمة على العدالة، قائمة على منهج الله لا على الضغينة والحقد والحسد، قائمة على ما يرضي الله عزَّ وجل لا على ما يشفي غليل الحاقدين وحقد ذوي الضغينة من الناس، خرج النبي r من مكة وقلبه متألم لترك مكة، ولكنه لم يخرج لينال ذلاً بعد ذل؛ بل لكي يرسي قواعد دولة إسلامية قائمة على المؤاخاة، قائمة على العبودية لله، قائمة على أسس سليمة صحيحة. نعم لئن ضاقت مكة بالمسلمين، فقد فتح لهم الله سبحانه وتعالى بالمدينة وطناً فيه إخوة لهم يواسونهم يحبونهم؛ بل يؤثرونهم على أنفسهم كما وصف الله عزَّ وجل إذ قال: )يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (هكذا وصفهم الله عزَّ وجل، أجل وجدوا في المدينة أخوة لهم، وسعوا لهم في ضيّق بيوتهم وشاطروهم في القليل من مالهم، فبارك الله في مال أهل المدينة وفي أرض أهل المدينة، وفي أرض المدينة ومن المهاجرين بوركت أرض المدينة وأثرى أهل المدينة بعد فاقة، في المدينة أثرى عثمان بن عفان، وأثرى عبد الرحمن بن عوف، وكان ثراء عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما من أثرياء المسلمين كطلحة والزبير وغيرهم كان سبباً في سعة وبحبوحة لأهل المدينة كلهم، فمن قدم نال ومن بذل وجد أضعاف ما يبذل، أجل شاطروهم الأسى ووسعوا لهم الضيّق من بيوتهم فاتسعت بيوتهم أوسع مما كانت وأوتوا أكثر مما بذلوا وكانت البركة، وكان الخير، وكان فوق ذلك كله النصر المؤزر. بالتعاون والصدق أثرى الجميع واستفاد أهل المدينة أنفسهم ممن جاؤوهم من المهاجرين، لم يكونوا عالة بل كانوا شركاء فاستفاد الشريكان المهاجرون والأنصار، وبنوا وطناً متماسكاً يرتكز على المحبة والإخاء والمودة، ويثمر العطاء والبركة والخير الكثير.
تُرى عندما ضاقت الأرض بإخوان لنا بسبب الفتنة التي طافت ببلادنا؛ كيف كانت معاملتنا لهم، كيف كان تعاملنا معهم، للأسف .. وللأسف الممض والمؤلم أننا وجدنا في آلامهم أملاً لنا، وجدنا في ضيقهم سعة لنا، وكان ينبغي أن نجد في آلامهم ما يجعلنا نتألم فنشاطرهم الألم لنجعل من الألمين أملاً يتفجر بالعطاء يتفجر بالبركة يثمر الكثير من القوة والكثير من البركة والكثير من الخير، أنستغل آلامهم ونستغل حاجتهم !! ما على هذا تركنا سلفنا ولا على هذا عرفنا أهل الشام... أن يستغلوا إخوانهم الذين ضاقت بهم بيوتهم بسبب الفتنة فاستثمرنا الفتنة لكي نجعلها بمقدار ما هي كؤوس مريرة في أفواههم سبباً لثراء على حساب فقرهم وضيقهم وحاجتهم. ما هكذا علمنا ديننا، ولا بهذا يمكن أن يرتقي مجتمعنا، ولا بهذا يرحمنا ربنا بل يرحمنا بأن نبذل وأن نوسع الضيق من بيوتنا لتتسع لهم وأن نبذل الفائض من مالنا ولو كان قليلاً لنشاطرهم ألمهم، ولو فعلنا لوجدنا حالنا خيراً من حالنا اليوم، وأفضل من حالنا اليوم. ولوجدنا البركة التي نالها أهل المدينة ببذلهم وعطائهم و إيثارهم ننالها نحن أيضاً وينالها أبناء دمشق وغير دمشق، ولكن ما هكذا عهدنا بأبناء بلدنا، عهدنا أننا فتحنا بيوتنا للذين خرجوا من لبنان لاجئين، وفتحنا بيوتنا للذين جاؤوا من العراق، وفتحنا بيوتنا للذين جاؤوا إلينا من فلسطين، أولما صارت هذه الفتنة التي هي زلزال أريدَ أن يستهدف سوريا بمواطنيها وبأرضها نتراجع إلى أخلاق ذوي الأنانية والشجع !! ما بهذا يمكن أن تصلح أحوالنا، فالنبي r يقول: "الراحمون يرحمهم الله ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء" هكذا علمنا ربنا تبارك وتعالى وهكذا علمنا نبينا r، علينا أن نعيد النظر في طريقة تعاملنا مع إخواننا وأهلينا ممن ضاقت بهم الأرض بسبب الفتنة التي صنعت لوطننا، والتي أريد منها أن تمزق الروابط، وأن نخسر الأمة والوطن معاً. ولكن أقول: لا تزال طائفة من أهل وطننا تؤمن أن العطاء لا ينقص من المال شيئاً، فما نقص مال من صدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وأن التعاون يثمر الخير الكثير، وأن التعاون يعيد للبلد ازدهارها. نحن لا يمكن أن ننتصر بالأنانية، بل إن الأنانية خطر على أسباب النصر والخير، علينا أن نعيد مشاعر الرحمة والأخوة والعطاء والبذل، أن نعيد ذلك كله لتعود اللحمة وليعود الوطن بأبنائه جسداً واحداً، لننظر فيما أصابنا إن أكبر مصيبة أصابت وطننا هذا هو حالة التفكك الاجتماعي الذي أريد أن يقضى به على أمتنا، إذ صار الأخ ضد أخيه، وصار الابن ضد أبيه، وصار الزوج ضد زوجته، هكذا أرادوا، فلا تنفِّذوا مخططهم ولا تنفِّذوا رغبتهم، خيبوا آمالهم، بأن تعيدوا لحمة المحبة والاصطلاح وتوطيد وشائج الأخوة فيما بينكم يقول الله تعالى:)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ( لا تفسدوا بين أخويكم، إنما ذلك الشيطان، وصفه الله تعالى فقال: )إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ( إنهم الشياطين سواء كانوا من الداخل أم من الخارج سواء كانوا من الجن أم من الإنس، يريدون أن يمزقوا مجتمعنا، يريدون أن يفسدوا العلاقة بين أبناء أمتنا، يريدون أن تسيطر الأنانية والأثرة على نفوسنا، فلنقدم خُلُق الإيثار على الأثرة، وليكن منا البذل بدلاً من البخل، والرحمة بدلاً من القسوة والأنانية، نحن اليوم نعيش مرحلة جديدة من تاريخ أمتنا. وهذا العام مختلف عن العام السابق، بل إن هذا اليوم يختلف عن الأمس، فلا يظننَّ أحد أن الأمور تستقر على ما يهوى، الأمور تختلف ) وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ( هكذا سنة الله سبحانه وتعالى جعل بين أهل البغي وأهل العدل صراعاً مستمراً لكي يبقى الحق وينتصر العدل ويعود الأمن والأمان.
تستوقفني مسألة لا ينبغي أن تمر دون تعليق، تدخلت روسيا في مساعدة سوريا في مناهضة ومحاربة الإرهاب، فثارت ثائرة شيوخ الفتنة – يا غيرة الله – سوريا تستعين بالكفار، سوريا تستعين بروسيا، وكأنه منذ سنة ونيف التحالف الذي كان يدعي بأنه كان يحارب الإرهاب في أرضنا وبدون غطاء شرعي ولا موافقة دولية ولا موافقة من صاحب الأرض لأن هذا وطن وله سيادة وله اسم وله قيادة، أن تنتهك حرمة سمائه وأرضه دون رضى من أهله هذه جريمة في القوانين الدولية، سنة ونيف والتحالف الغربي يسرح ويمرح في سمائنا لم يسخطهم ذلك ولا حرك الغضب في مشاعرهم، لأن تلك القيادات يبدوا أنها أسلمت على أيديهم؟ أو أسلموا على أيديها لا ندري أيهم أسلم للآخر، حتى إذا جاء من عانى من الإرهاب في بلده ليناهض الإرهاب عندنا بعد معاناته، ثارت ثائرتهم. ولقد كنت في روسيا وحدثني إخوان من طلابنا في داغستان، قال قتل الإرهابيون أكثر من خمسين عالماً من علماء داغستان، ويقال أنه قيل لهم –لهؤلاء الإرهابيين– متى ستحاربون إسرائيل؟ قالوا عندما يدخلون في الإسلام، أجل هي على سبيل الطرفة، ولكنها واقع. ترى منذ متى تستورد دولهم السلاح من أميركا و فرنسا ومن بريطانيا؟ أما كان هذا استعانة بالكفار؟ أما تحالفوا مع أميركا على انتهاك سمائنا بدعوى أنهم يقاتلون الإرهاب الذي صنعوه هم؟ من أين جاء هؤلاء الإرهابيون؟ نزلوا من السماء أم نبعوا من الأرض!!
أقول: لا ينبغي أن يظن أولئك أن الناس قد فقدوا عقولهم، بل للناس عقول يفكرون بهما وأعين يبصرون بها وموازين يزنون بها المواقف ويزينون بها التصرفات. أجل اليوم ليس كالأمس، والعقل لن يتعطل عن محاكمة الظواهر والتدبر في مجريات الأحداث.
خطبة الجمعة


تشغيل

صوتي