مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 25/09/2015

خطبة د. توفيق البوطي: فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم


فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جل شأنه في كتابه الكريم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين ( وقال سبحانه: ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ( وقال جل شأنه: ) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( وروى البخاري عن النبي r أنه قال: " إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا " وروى البخاري عن أبي هريرة y أن النبي r قال:" آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان " وعن النبي r فيما رواه الحاكم في المستدرك قال:" دع ما يريبك إلى ما يريبك ، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة"
أيها المسلمون، لعل الصدق أصل الفضائل كلها، لأنه من الأخلاق والفضائل بمثابة الجذع من الشجرة، وقد صح عن النبي r أنه قال:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وفي ورواية "صالح الأخلاق". كما أن أصل الانحراف ومبدأه إنما هو الكذب لأنه يودي بصاحبه إلى النفاق، والنفاق يهلك صاحبه. والصدق يكون في القول والعمل ويكون في الحال، يكون في الكلام بمطابقة الكلام للواقع والحق، ويكون في العمل بأن يكون ظاهر العمل مطابقاً لباطن الإنسان، بأن يكون ما قدمه ما هو لله أن يكون لله، وأن يلتزم من وعد بوعده، ومن أؤتمن بأمانته، وأن يلتزم الضامن بضمانته، وذلك يحقق للعبد القبول عند الله، كما يحقق الثقة بين أبناء المجتمع فإذا تقبل الله عملاً لصدق صاحبه فقد فاز، وإذا تحققت الثقة بين أبناء المجتمع بالصدق تحقق التعاون فارتقى المجتمع، ولا ينهض المجتمع بغير ذلك، الصدق في العالِم يظهر في تحقيقه في المسائل التي تعرض له، ثم في اجتهاده في تحري الحكم الشرعي المتعلق بهذه المسائل، ثم ببيان حكم هذه المسائل كما تجلت له دون ممالأة ودون تحريف، وما حاقت اللعنة ببني اسرائيل إلا بتحريفهم لكلام الله ولأحكامه، وما حاق ببني اسرائيل يحيق بكل من زيّف أحكام الله عزَّ وجل وزور فيها وحرف وانحرف، أما إذا لم يعلم الحاكم حكم المسألة فإن عليه أن يسكت ويقول لا أعلم، ولا يعيبه أن يقول لا أعلم، بل إن ذلك يرفع من شأنه لأنه أمين ولأنه صادق، فإذا كان صادقا لم يقل عن مسألة لا يعلم حكمها أعلم حكمها و حكمها كذا وكذا، وهو جاهل في حقيقة الأمر، فلو أن كلامه وافق الواقع وهو جاهل فهو منحرف، لأنه تكلم بغير علم، ومن أفتى بغير علم فقد تجرأ على حكم الله عزَّ وجل وإن صادف كلامه وجه الصواب، وإن علم بيّن ما علمه لا تأخذه في بيانه لومة لائم، لا يخاف ولا يرغب، لا يبين مخافة أحد، ولا يتكلم مخافة أحد، وإنما يبين بأنه مؤتمن على شرع الله عزَّ وجل.
والصدق في التاجر سبب لبركة رزقه ومفتاح نجاحه وسبب لثقة الناس به وإقبالهم عليه، وقبل ذلك هو سبب لمجاورة النبي r في الجنة فالتاجر الصدوق مع رسول الله r في الجنة، أما إن خان فإنه يستنزل بخيانته سخط الله؛ ولن يكسَب إلا ما قدر له، ولن ينال إلا ما قدر الله له؛ احتال ما احتال والتوى ما التوى فإنه لن ينال إلا ما قدره الله له، فما قدر لماضِغَيك أن يمضغاه لابد أن يمضغاه، كله ويحك بعز ولا تأكله بذل.
على أن الصدق وحده لا يكفي؛ إن لم تكن معه الحكمة، فلربما تحدث المرء بصدق إلى مريض فباح له بمرضه، وكان مما قد يفزع المريض بيان ما أصابه من مرض فينهار المريض ويهلك، استعمِلْ التورية.
ولقد يكون الخبر صادقاً فيؤدي انتشاره في الأمة إلى انهيار معنوياتها وتزعزع قوتها، ولذلك قال ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم :) إِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ( ليس من شأننا نحن إشاعة الأخبار صادقة كانت أم كاذبة، بل هذا شأن المختصين بهذا الأمر، وعلى المختصين بهذا الأمر أن يظهروا من الخبر ما لا يمكن أن يؤثر في الناس تأثيراً سلبياً، ثم بعد ذلك يكونون على درجة من الشفافية والصدق عندما يقتضي الأمر إظهار الأمور على جليتها، النبي r استعمل التورية في غزوة الأحزاب عندما بلغه نقض بني قريظة العهد وانضمامهم إلى الأحزاب، أرسل من يستطلع الخبر، وقال لهم لا تخبروا أحد بما ترون، حتى إذا جاء الخبر كبر النبي r عندما جاء خبر فيه نوع تورية كبر النبي r واستبشر أظهر الاستبشار ليربط على قلوب المؤمنين ريثما تثبت القلوب ولا تكون الصدمة سبباً لانهيارٍ بعد الانهيار ) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا # هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً( أنضيف إلى زلزالهم زلزالاً جديداً، لذلك أمر النبي r من استطلع الخبر بأن يورّي في الإجابة حتى لا يصاب المسلمون بحالة انهيار.
أيها المسلمون، نحن اليوم بحاجة إلى الصدق مع الله بأن نخلص أعمالنا له، وإلى الصدق فيما بيننا لتشيع الثقة فيما بيننا، فأمة لا تشيع الثقة فيما بينها أمة مشتتة لا ترقى ولا تفوز، ولا تحقق لنفسها نصراً ولا عزاً. فإذا شاعت الثقة فيما بيننا وتحقق التعاون تجاوزنا كل ما يمكن أن يعترضنا، على أننا أبضاً إذا كنا حريصين على الصدق في منطقنا وكلامنا وأفعالنا فينبغي أن نتحرى الصدق فيما نصغي إليه وفيما قد يبلغنا من الخبر وفيما يقال لنا من الأمور، فلا نصغي إلى كل عالم منحرف في علمه مزيّف في فتاواه، يدجل على الناس له منطق وله حجة، ولكنه يتلاعب في الألفاظ والكلمات ليحرف على الناس دينهم، على أن الملتصقين بسلك العلم هم الأكثرية، كثيرون هم الذين تزيوا بزي أهل العلم وليست لهم صلة بالعلم، والبعض لهم صلة بالعلم، ولكنه يحرف كلام الله عزَّ وجل وهو يعلم أنه يحرف، وينصرف إلى تزييف الأحكام الشرعية لكي يحقق لنفسه مكسباً دنيئاً خسيساً من أولياء نعمته، وأولياء نعمته هم أعداء أمتنا، ولقد ذقنا من تزييف المزيفين وتحريف المحرفين ما ضلل شبابنا وأودى بهم إلى كثير من المهالك والمزالق.
وبعد أيها المسلمون، فإني أتوجه إلى الله عزَّ وجل أن يخفف عن الأمة ألم مصابها في ضيوف الرحمن الذين أصابهم ما أصابهم يوم عرفة، ثم أصابهم ما أصابهم بأكثر مما أصابهم في يوم العيد، أسأل الله أن يتغمد ضيوف الرحمن بواسع رحمته ويسكنهم فسيح جنته، وقد قال النبي r عن رجل مات وهو محرم قال :" كفنوه في ثوبه، ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " إن أولئك الذين مضوا إلى الله عزَّ وجل بتلك الحادثة الأليمة يبعثون إن شاء الله يوم القيامة وهم يلبون الله عزَّ وجل كما كانوا يلبونه وهم متجهون لرمي الجمرة، يقولون لبيك اللهم لبيك والناس في صمت والناس في خوف والناس في فزع، ولكن هم الآمنون المطمئنون بإذن الله تعالى. هذا ما نرجوه لهم إن شاء الله أن يتغمدهم بواسع رحمته، ويكرمهم بعظيم الأجر إنه سميع مجيب، أسأل الله أن يملأ قلوب ذويهم بالرضى والصبر والسلوان وأن يجعل من كونهم ضيوف ربنا سبحانه وتعالى حلوا على مائدة كرمه وقد نزلوا من عرفة كيوم ولدتهم أمهاتهم أن يكونوا في رضوان الله عزَّ وجل ويتغمدهم برحمته وأن يدخلهم في واسع جنته إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة2015/9/24


تشغيل

صوتي