مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 04/09/2015

خطبة د. توفيق البوطي: معاناتنا بين ضعف الإيمان ومحبة الدنيا


معاناتنا بين ضعف الإيمان ومحبة الدنيا
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه لكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ # قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ ويقول سبحانه: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى # وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا # فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة y، أن النبي r قال :" بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل "، وروى أبو داود عن ثوبان بإسناد صحيح قال: قال رسول الله r :" يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت "، وروى البخاري عن النبي r أنه قال لأصحابه :" أبشروا وأملوا، أملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أم تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم "
أيها المسلمون، حالة بائسة تعيسة تعاني منها لأمة في شتى بلاد المسلمين، ولكن على الخصوص تعاني منها بلادنا هنا أشد المعاناة، ما سبب معاناتنا؟ هل الكفر؟ وهل للكفر منطق تتقبله عقول عرفت الله وآمنت به، إنه ضعف الإيمان ومحبة الدنيا ،إذ يلهث الإنسان وراء الدنيا ومكاسبها فينافس عليها إخوانه فيحسدهم ويحسدونه، فإذا ما نال منها حظاً استعلا عليهم بذلك الحظ وتكبر، أجل ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى # أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى # إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ وعندما نقول محبة الدنيا، فما هي الدنيا ؟؟ أشار إلى جوانب من الدنيا في قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾ هذا جانب خطير من الدنيا تتنافس الناس عليه ويقتتلون من أجله وتقوم النزاعات بينهم في سبيله، ولكن الأخطر من ذلك كله ما يعد رأس هذه الأمور و مزلقاً إليها، إنه حب الرئاسة حب الاستعلاء الاستكثار من الأتباع والأنصار، العصبية للأنا، أنا الفئة وأنا الجماعة كل هذا هو مظهر من مظاهر الدنيا، لكم قامت نزاعات قبل الإسلام بسبب العصبية للقبيلة أو بسبب العصبية للأسرى، أو بسبب تنازع على مكانة أو زعامة، وهل صد قريشاً عن الإسلام مثل استكبارهم واستعلائهم وتمسكهم بزعاماتهم المزيفة التي أودت بهم فأهلكتهم؟! وهل أهلك أبا جهل وأبا لهب مثل الاستكبار بسراب الزعامة المزيفة، أجل كم من الناس انزلقت نفوسهم وراء سراب الزعامة والمكانة المرموقة والمنصب الرفيع وكثرة الأتباع والتفاف الناس من حولهم، وما قد يؤدي ذلك إليه من كثرة الدنيا والأموال وبلوغ الإنسان أحلامه من مشتهيات هذه لدنيا ومرغوباتها، كم من إنسان باع دينه وهو يعلم بفتوى رخيصة أباح بها الدماء وباع بها الأوطان وضحى بالعرض والمال والنفس والأرض في سبيل خيال، خيال منصب ووهم مكانة وتصور زعامة سيصل إليها، فكان نصيبه سخط الله عزَّ وجل وأن لم يجد من وراء أحلامه إلا ما يجده الظمآن في الصحراء من السراب، لن يطفئ ظمأه بل سيشتد به الظمأ ويموت قتيل أحلامه البائسة ، السعي وراء الدنيا وراء هذه الدنيا الخسيسة التي قر الله لك نصيبك منها – لو كنت تعلم من هو الله، ولو كنت مؤمناً بالله، ولو كنت مؤمناً أن الله قد قسم الأرزاق وقدرها وأن ضائقة العيش إنما هي بسبب ذنوبنا، وأن ضيق الحياة التي نعاني منها إنما هي بسبب آثامنا، لو أننا تصورنا ذلك وعلمنا أن ما قُدر لماضغيك أن يمضغاه لن تحول قوة في الدنيا دون وصولها إليك، واعلم أن الدنيا لو اجتمعت على أن يمنعوك شيء قدره الله لك لن يمنعوك إلا شيء منعك الله منه قد أخبرنا بذلك النبي المصطفى، ولو اجتمعت على أن يحرموك من شيء قد قدره الله لك لن يستطيعوا أن يحولوا بينك وبين ما قد قدره الله لك، حب الدنيا والأحلام الرخيصة دفعت بكثير من الناس إلى أن يضحوا بأعراضهم وبأرواحهم وبأطفالها وبأموالهم في سبيل دنيا يتوهمونها، ليس الأمر كما يتصور البعض أن هناك مخاوف، المخاوف من أولئك الذين جعلوا من أنفسهم أداة لتنفيذ مخطط خطير لتدمير هذه البلاد، التصريحات تدل على ذلك، الآن وقد سيق أطفالنا وشبابنا وأعراضنا ونساؤنا إلى الغرب لقمة رخيصة سائغة يقول الغربيون قارتنا العجوز التي لم تعد تنجب بحاجة إلى هؤلاء، هل علمتم ما هو الهدف ؟؟؟ لكنها الدنيا الدنيئة التي زجت بهم ليقتلوا أطفالهم، وقصة الطفل التي ضجت بها الدنيا ليست قصة واحدة مثلها آلاف القصص لكن لم تسلط الأضواء عليها لأنه لم يحن الوقت، الآن حان الوقت لتحمل هذه الأسر كلها على سفن فخمة لتقدم هدية إلى أولئك الغربيين لتبنى بهم حضارتهم وتحطم بهم حضارتنا، إذا ما جعل المرء الدنيا هدفاً له وسار وراءها يلهث أعمت بصيرته وبصره، فضيع دينه وضيع أهله وأهان كرامته وخسر أصدقاءه فاستعبدته الدنيا وراء لا شيء، وصرفته عن الحق ليلهث وراء الباطل، جعلته يلهث وراءها ولن ينال منها على حساب كرامته، قالوا: ( الموت ولا المذلة )، أي ذل أن تسعى المرأة وراء الأسلاك الشائكة فتقبل أقدام المرأة من الشرطة الغربية من أجل أن يسمح لها بالدخول إلى ... أوربة !! أي ذل وأي مهانة وأي دناءة بلغها هؤلاء، زجوا بأعراضهم وضحوا بأطفالهم، وفي كل يوم نسمع بمقتل أعداد غرقاً في البحر أو اختناقاً في شاحنات الأمتعة، إنها الدنيا التي استرقت القلوب فأهانت الكرامة فخسروا الدنيا وخسروا الدين، في سبيل الدنيا يهين نفسه و يذل كرامته، في سبيل الدنيا يفتي بالباطل فيجعل الدماء رخيصة في سبيل مطامعه، يسفك الدماء يهدر الحرمات يستبيح الأعراض ليحظى مكاسب دنيئة، لا يهمنا هذا كله، من يهن يسهل الهوان عليه .
ترى بالنسبة لنا ما الدواء لنقي أنفسنا ونصون كرامتنا ونحفظ وطننا وديننا ؟؟ أن نعيد الصلح مع الله أن نصطلح مع الله فنصغي إلى خطابه بتلاوة كتابه ليحيي بذلك قلوبنا وتنطهض بذلك كرامتنا ويعيد إلى نفوسنا عزتنا التي اختص بها أهل الإيمان ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، العزة ليست لأولئك الأوغاد العزة للمؤمنين الراكعين الساجدين لربهم الذين لا يهينون كرامتهم ولا يبيعون أعراضهم ولا يضحون بدينهم في سبيل لعاعة رخيصة من الدنيا، أن نعود إلى كتاب الله فنغذي به العقول والقلوب، ونقوم بها السلوك والأخلاق، ونصحح بها المسار، أن نعود فنصطلح مع الله فنجعل لأنفسنا حظاً من ذكر الله عزَّ وجل نطبق بذلك قوله: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ ما قال اذكروا المال، ولا قال اذكروا الدنيا، قال اذكروا الله لأن مآلنا إليه، لأن هو النافع وهو الضار وهو المعطي وهو المانع وإليه المآل وبيده المصير، ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ ليكن لك ورد من ذكره يتصل قلبك بملكوته ويفيض قلبك حباً وتعظيماً له فتهون الدنيا كلها وأهلها أمام عينيك، لأن عيناً ارتبط قلبها بالله عزَّ وجل لا يمكن أن تهون ولا يمكن أن تذل، الإكثار من ذكر الله عزَّ وجل، ثم إننا قد تلوثت صحائف أعمالنا بكثير من الذنوب فيما بيننا وبين الحق وفيما بيننا وبين الخلق، لذلك علينا أن نستغفر وأن نجعل من أورادنا استغفاراً صحيحاً صادقاً بين يدي الله عزَّ وجل، نبسط أكفنا إلى الله ونقول له: يا الله قد تبنا إليك رجعنا إليك، ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا # يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا # وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴾، الدنيا والآخرة كلها منوطة بالاستغفار بالعودة الراشدة إلى الله سبحانه وتعالى، والاستغفار الصادق بأن تندم على ما فعلت وتقلع عما وقعت فيه وتعزم على عدم العود وأن ترد الحقوق لأصحابها وما أجمل مجتمعاً تصافحت القلوب فيه وكل منهم قال لأخيه سامحني لك علي كذا اغتبتك، و أخوتك عندي أغلى من المال وأغلى من كل شيء ليعود مجتمعنا متماسكاً قوياً لا متناحراً متصارعاً، من الدواء تذكر الموت، وهل هناك مفر من الموت؟ ألم يقل النبي r:" أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، فإنه ما ذكر في قليل إلا كثره، ولا ذكر في كثير إلا قلله"، ما ذكر في قليل من العبادة والإقبال على الله إلا نماه و كثره، ولا ذكر في كثير من محبة الدنيا أو الغفلة عن محبة الله والمعاصي إلا قللها ولجم النفوس عنها، تأمل الموقف بين يدي الله وهل من مفر؟ لابد أن نقف بين يديه ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ﴾ ﴿ كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ ذلك الموقف أن نراه نصب أعيننا ونتزود له الزاد المناسب لكي ننتصر على نفوسنا وننتصر على أهوائنا وننتصر على الدنيا التي تسترقنا لنكون أحرارنا فلا تسترقنا دنيا ولا يستعبدنا طاغية، لا تستعبدنا أوربا وغيرها بل نكون جميعاً أحراراً بمقدار عبوديتنا لله لا عبيداً بمقدار إعراضنا عن الله .
خطبة الجمعة 04/09/2015


تشغيل

صوتي