مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 14/08/2015

خطبة د. توفيق البوطي: دور العلم في معالجة آثار الفتنة


دور العلم في معالجة آثار الفتنة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ ويقول سبحانه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ وروى ابن حجر في المطالب الثمانية أن رسول الله r قال:"طلب العلم فريضة على كل مسلم" وروى البخاري عن النبي r أنه قال:"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله "
أيها المسلمون، كنت قد بدأت بمسألة العمل الدعوي، والصفات التي ينبغي أن تتوافر في الداعية، وقد أشرت إلى وجوب أن يتجرد العمل الدعوي عن التمحور حول الذات (الأنا)؛ أنا الفرد أو أنا الجماعة، وهذا يستلزم اتصاف الداعية بصفتين مهمتين، الأولى منهما صفة العلم، والثانية صفة الإخلاص والتقوى؛ والإخلاص والتقوى صفتان لكنهما متلازمتان. الداعية الجاهل يخرب أكثر من أن يبني، ويفسد أكثر مما يصلح، ويكون أداة للشر بدل من أن يكون أداة للخير وذلك لأسباب، السبب الأول: أنه إلامَ يدعو الناس؟ كيف يدعو الناصح إلى تصحيح عقيدتهم وهو لم يتعلم تلك العقيدة؟ وكيف يدعو الناس إلى الالتزام بأوامر الله واجتناب نواهيه وهو لم يفهم أو لم يتعلم أوامر الله ولا نواهيه، لم يتعلم ما يصحح به عبادته ومعاملته ونظامه الاجتماعي الذي تقوم عليه أسرته، ولا يعرف عن فقه الدعوة إلى الله عزَّ وجل كما رسمها رسول الله r في سيرته العطرة وطريقة تعامله مع المجتمع؟ إذا كان يجهل ذلك كله فأنى له أن يكون داعية ؟! إنه سوف يتحمس لما يظنه الخير فيفسد أكثر مما يصلح، ولطالما عشنا في الفترة الأخيرة التي تعاني منها بلادنا مشكلة الفتاوى التي لا تستند إلى أرضية علمية وكم ترتب عليها سفك للدماء وتدمير للمجتمع واستجلاب الشر إليه من هنا وهناك، ولقد رأينا ممن يتصدى للجهاد أو الدعوة من لا يتقن حتى قراءة الفاتحة، ومن لا يعرف أصلاً أركان الصلاة ولا مفسدات الوضوء، فإلى ماذا يدعو الناس؟ ولو أن إنساناً حاوره في مسألة الإيمان بالله لأعياه الكلام في ذلك، ولأعجزه أن يخوض في هذه المسألة. فهو يريد من الناس أن يكونوا مطبقين لشرع الله ومنفذين لبناء المجتمع الإسلامي دون أن يعرف ما هو الإسلام ودون أن يعرف الطريق إلى الله، هذه مشكلة خطيرة والمشكلة التي تتفرع عن هذه المشكلة أو هي أصل لها أن كثيرين ممن تزّيَوا بزي العلم يفتقرون إلى الحد الأدنى من العلم، لبسوا لبوس العلماء ليفسدوا على الناس دينهم وليضللوهم وليغرروا بهم من خلال مظاهر العلم، وعندما كان التصدي لهذه الفتنة التي نعيش أوارها ونعاني من شدة وطأتها... عندما كان يواجه هؤلاء بالحجة الشرعية وبما أجمع عليه العلماء وبأن هناك ضوابط ينبغي الوقوف عندها، تجد أنهم كانوا يستعملون كلمات جوفاء حماسية: من حرية من إصلاح من معاناة من البغي والطغيان، ويطرحون طروحات إما طائفية وإما غيرها؛ من أجل أن يسوغوا لأنفسهم خوض فتنة لا نزال نعيش في لأوائها. إن الضوابط العلمية الشرعية لمواجهة الأحداث لا تستمد من عقولهم ولا من أهوائهم وإنما من كتاب الله وسنة رسوله r وهم لم يتزودوا بهذه المعرفة، ولم ينالوا القسط الكافي ليؤهلهم للوصول إلى معرفة الحلال والحرام، ولطالما سمعنا بأن صاحب مطعم أصبح مفتياً لهم، ولطالما سمعنا أن حذَّاءً صار قاضياً ومؤهلاته هي صناعة الأحذية فأصبح قاضياً يصنع بأدواته سفك الدماء وقتل الأبرياء، نعم أقول أعرفهم أعرف أسماء أناس تصدوا لهذه الأمور وهم لا يفهمون شيئاً عن دينهم مما ينبغي أن يعرفوه مما يخوضون به، أين نحن من واجب معرفة الله عزَّ وجل والوقوف عند حدوده، إنسان لا يعرف أن يصحح صلاته، إنسان لا يمكن أن يدرك ما يفسد وضوؤه، إنسان لا يعلم موجبات غسله إلى ماذا يدعو الناس، إنسان يخوض في معاملات باطلة في المجال المالي أو يخوض في معاملات باطلة في مجال حياته الأسرية، كيف له أن يدعو الناس إلى الإسلام؟ أي إسلام يدعو الناس إليه وهو لم يتزود حتى بالحد الأدنى من المعرفة، لكنه تزود بشيء آخر، بحماسة جوفاء نفخها فيه أناس أرادوا تدمير مجتمعنا وإفساد بلادنا، أجل بينهم أناس علماء، عندهم من العلم ما نقر لهم به، لكن المشكلة الأخطر من الجهل علم لا يجتمع معه إخلاص وتقى فهو يستعمل علمه في التضليل وفي التزوير وفي التزييف وفي التلاعب بالأحكام والألفاظ. هؤلاء يمكن أن يوفقوا في مجال خدمة المبادئ الأخرى، لكنهم في هذا الإسلام سرعان ما تتساقط أقنعتهم وسرعان ما تتكشف سوء نيتهم، ويتكشف للناس كلهم أنهم لا يتكلمون بباعث علمي ولا فقهي، وإنما يتكلمون بباعث آخر هو مقدار ما دفع لهم في بيع دينهم وفي سبيل أن يصدروا الفتاوى الباطلة لكي تسفك الدماء ولكي تباع الأوطان ولكي تدمر الأمم والشعوب، ولقد قلنا آن ذاك إن الرصاصة تقتل رجلاً، لكن الفتوى الباطلة تدمر وطننا وتقتل أمة، أجل خطورة هذا لأمر عندما لا يكون الإخلاص لله عزَّ وجل وتكون المطامع الشخصية رائداً للإنسان وموجهاً له هي أخطر من لجهل مع خطورة الجهل كما اتضحت الصورة.
أقول: كم أودى الجهل بمن تسلموا كرسي الدعوة فقادوا الناس إلى مواطن الفتن، ودفعوا بهم إلى مواقف تخالف شرع الله عزَّ وجل، و كم من إنسان غابت مراقبة الله عزَّ وجل من قلبه وتجرد عن الإخلاص لله عزَّ وجل وصارت فتاواه وكلماته إنما توجه لإيقاظ الفتن وإشعال الحروب وسفك الدماء واستباحة المحرمات. باسم العلم وباسم الدين زوروا العلم وشوهوا الدين، بل حاربوا الدين باسم الإسلام. نحن اليوم نعيش في تداعيات تلك المواقف في تداعيات ونتائج ما كنا نعاني منه من شيء موجود عند من يتصدرون للدعوة والإصلاح وغير ذلك ونتائج تلك الفتاوى المزيفة التي أراد بها أصحابها إيقاد الفتنة، وخدمة الهدف الصهيوني في تدمير بلانا وتشويه ديننا.
أيها المسلمون إن الإخلاص لله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يأتي بمجرد إدعاءات، الإخلاص لله يبدأ من نقطة العبودية والمراقبة، والزاد الذي يتزود به الإنسان لإشعال جذوة الإخلاص في قلبه هي ذكر الله ، فقد قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا *هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ إن من الأدوية التي ينبغي أن يتسلح به لإنسان المؤمن لكي تتوقد في قلبه جذوة الإخلاص: الاستغفار ومحاسبة النفس والعودة إلى الله والتفكر بالموقف بين يديه ، تذكر الموت وأن المال الذي يتمتع به الآن وأن هذا الجاه المزيف الذي يتباهى به سوف يتبدد كله وعلى فراش الموت سيقول: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ أنى له أن يرجع وقد عاث في الأرض فساداً وأعطي المهلة إثر المهلة والتنبيه إثر التنبيه، وكان لديه من العلم ما لديه، مما يعرفه بالحق ولكنه انحرف عنه ومما يعرف به الحلال فتجاوزه، ويعرف به الحرام فركب متنه، وأودى بأمم وشعوب لكي يصل بها إلى حافة الشقاء وإلى معاناة نرى كم هي خطيرة في حياة أمتنا وكم هي خطيرة في تداعياتها نعاني وتعاني المنطقة كلها منها.
المشكلة أن الإعلام الذي كان يروج لهم فوضعهم في موقع يمكن أن يغرر البسطاء، ولذلك إذا كان الإخلاص والعلم مهمين في حياة الداعية فإن الوعي يأتي في دور لا غنى عنه في حياة الداعية، العلم يبصرك بالحلال والحرام ويعرفك على الله عزَّ وجل وصفاته وعلى عقيدتك التي تؤمن بها، والعلم يعرفك الحلال والحرام، والإخلاص يصل هذا القلب بالله فلا يوجه صاحبه إلا إلى جادة الخير والهدى والرشاد فإذا خلا القلب من الإخلاص تخبط صاحبه في أهوائه وفي نزواته وتجاذبته الأهواء والمطامع، ولكنا نحن بحاجة إلى عنصر ثالث بالإضافة إلى هذين العنصرين، إنه الوعي الذي نستطيع أن نميز فيه المحق من المبطل والمفسد من المصلح ونكتشف به خيوط التآمر على ديننا وأساليب الكيد لأمتنا ولشريعتنا ولمصير وطننا، كل هذا مما ينبغي أن لا ننساه ولا نجهله، ونحن نخوض غمار عمل دعوي لإصلاح أمة ولبناء حضارة ولبناء فرد سليم صحيح ينهض بأمر مجتمعنا ويحقق لهذا المجتمع ما يرضي الله عزَّ وجل من خير ورشاد وصلاح.
أسأل الله أن يبصرنا سواء السبيل وأن يرزقنا فقهاً وعلماً في دينه، وأن يرزقنا الإخلاص لوجهه الكريم وأن يمتعنا بوعي لكي نميز بين الصادق والكاذب، وبين المخلص والمتآمر.
أقول قولي هذاوأستغفر الله العظيم لي ولكم يا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 14/08/2015


تشغيل

صوتي