مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 07/08/2015

خطبة د. توفيق البوطي: الدعوة إلى الله وإعادة البناء؟


الدعوة إلى الله ... وإعادة البناء؟
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، وقال سبحانه: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ # كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي r أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً،ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام الذي اتبعه لا ينقص ذلك من آثمهم شيئاً".
أيها المسلمون، على الرغم من أن الكلام قد يغيظ البعض ممن يريدون أن تبقى بلادنا في حالة من الأسى والدمار، أقول لقد شارفت البلاد أن تبدأ مرحلة البناء أو مرحلة إعادة البناء بإذن الله تعالى، وهي مقبلة بإذن سبحانه إلى استئناف حياة فيها الطمأنينة إن شاء الله تعالى والسلامة والأمان والطمأنينة، ولكن أرى أن من المهم جداً هنا أن نتحدث عن مرحلة إعادة البناء بمفهومها الأعم، فنحن ما أصابنا لم يصبنا بسبب زلزال عصف بالأبنية فأطاح بها، إنما أصابنا ما أصابنا بسبب فساد في النفوس وانحراف في الأخلاق، وضلالة في التفكير، بسبب انحرافات وقع المجتمع فيها فضلَّ وسلك سبيل التخريب والدمار، وارتهن كثير من شبابنا، بل ممن كنا نظن فيهم خيراً مِن مَن تولى وتسلم منابر التوجيه والإدارة، أصبحوا مرهونين لبرامج تدمر وطننا وتقتل شعبنا وتشوه ديننا، ولذلك فإن مرحلة البناء تبدأ من الإنسان، أن نعيد بناء الإنسان بناءً صحيحاً، والبناء الصحيح إنما يكون بأن تستنفر الطاقات الدعوية المخلصة البناءة الواعية التي تسعى لوجه الله لا لمصالح ذاتية والتي تعمل بمنهج رباني مستمد من كتاب الله وسنة رسوله، لا من أهواء ولا من نزعات فئوية، هذا من جماعة فلان وذاك من جماعة فلان، وأنا من الحزب الفلاني والآخر من الفئة الفلانية، كلنا ينبغي أن نعود في مرحلة البناء إلى تصحيح أوضاعنا تصحيح أنفسنا تصحيح سلوكنا تصحيح أخلاقنا، لأنه كما قال الشاعر - ولن أنطق بالشعر لكراهته - إذا الجر عولج على غير شفاء كامل تبين فيه فشل الطبيب، ينبغي أن تعالج مشاكلنا بدقة وإحكام، وهذا يقودني إلى أن نتحدث بما افتتحت به الكلام، بالدعوة إلى الله، أقول بالدعوة إلى الله وليس الدعوة إلى الأنفس أنا الشيخ أدعوكم لأن تكونوا أتباع لي، أنا الفئة أدعوكم لأن تنضو تحت رايتي، تجرد عن كل هؤلاء ابحث عمن يدعو إلى الله وينكر ذاته، فهو دلّال على بضاعة الرحمن وليس وصياً على بضاعة الرحمن، وهل أُصبنا بما أصبنا به إلا من فئات منهم من تسلم منابر الدعوة لأنفسهم فجعلوا من أنفسهم أوصياء على العقول وأوصياء على النفوس وأوصياء على الوطن وأوصياء على الدين، فعاثوا في الأرض فساداً بينما كانوا مرتهنين لبرامج معادية أرادت أن تدمر بلادنا وأن تفسد على الناس دينهم وأن تشوه معالم هذا الدين وأن تنفر الناس الآخرين من هذا الإسلام الذي أنزله الله، أنا أعلم أن الذين حركوا هذه الفتنة التي لازلنا نعاني من بقاياها أنهم في الحقيقة أكثرهم لم يكونوا من المتدين ولا من المشايخ كما يقال ؛ بل كانوا من الفئات المنحرفة الضالة من الملاحدة، من أولئك الذين عاشوا حياتهم في الغرب فصنعهم الغرب ليدمروا بلادنا، وصنعهم الغرب ليفسدوا ديننا، صنعهم الغرب لكي تصبح بلادنا لقمة سائغة في خدمة مصالحهم، هؤلاء قطيع من أشباه البشر أرادوا أن يدمروا سوريا وأرادوا أن يدمروا البلاد الإسلامية ببرامج رسمتها الصهيونية ففعلت ما فعلت، ولذلك فإن أهم ما ينبغي أن نسعى إليه الآن الرؤية الصحيحة إلى حقائق هذا الكون، إلى معرفة حقيقة هذا الدين، إلى تصحيح المفاهيم إلى تقويم الأخلاق، إلى التجرد عن الأنا، أنا الفرد وأنا الفئة لأننا جميعاً ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، لا للشيخ ولا لفئة ولا لحزب ولا لغير ذلك، حياتنا كلها مرهونة لمن خلقها فقط وليس لغيره، هذا الأمر يقتضي منا أن ندعو إلى الله على بينة، ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ والبصيرة البينة، الدليل الواضح والبرهان الجليل، الشمس في يوم الصيف وفي وضح النهار والتي لا يتردد المرء في أن يؤمن بوجودها بهذا أمرنا ربنا تبارك وتعالى ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ نحن أيضاً ندعو إلى الله على بينة، ندعو إلى سبيل دين الله على وضوح كوضوح الشمس وأوضح من لشمس، وهذا يعني أننا ينبغي أن ندعو أولاً لنضع خطوات العمل لدعوي، من ندعو ؟ أجدر من تدعو أيها لإنسان لمسلم هو أنت، أن تدعو نفسك الله تعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ فالرسول r قبل أن يدعو الآخرين آمن هو بدعوته وتجلت له حقائق هذه الدعوة قناعة راسخة في قلبه ووجدانه فانطلق من تلك القناعة إلى الآخرين ليدعوهم إلى هذه البينة، هذه الشمس الساطعة، هذه الحقائق البينة، أجل هذا هو النقطة البدء، أما أن نبدأ بالآخرين قبل أن نبدأ بأنفسنا!! لو بدأت بولدك ولم تبدأ بنفسك لاحتج ولدك عليك، تأمرني وتخالف!! تنهاني أن أفعل كذا وترتكب!! والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ نعم، ودعوتنا لأنفسنا دعوة شاملة إلى أن نؤمن إلى أن نطبق إلى أن نجسد الأخلاق لقويمة في سلوكنا وشخصيتنا، إلى أن تصطبغ قلوبنا بمحبة الله بالحياء من الله بالإقبال على الله بهذا نبدأ الطريق، عندما تكون على خير وهدى ربما كنا لا حاجة لنا في أن تلقي علينا موعظة، فأنت خير داعية بسلوكك، أنت باستقامتك تجعل الناس كلهم ينظرون إلى مظهر هذه الاستقامة فيندفعون نحوها لأنها الخير كله، عبق الخير يفوح من المستقيم، أما نتن النفاق فإنه ينفر المرء من أي دين يريد أن يدعو إليه، النفاق لا يمكن أن يأتي بخير، النفاق هو أن يكون لسانك بخلاف ما في قلبك، سلوكك يناقض ما تدعو إليه ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾، ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتناهنا عن المنكر ؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) هذا قال النبي r في حديث رواه البخاري، إذاً أدع نفسي إلى العقيدة إلى السلوك إلى الأخلاق إلى توثيق الصلة بالله عزَّ وجل حتى يصبح قلبي وعاءً لمحبة الله لخشية الله، وأنا لا أدعي أن هذا لإنسان سيصبح منزهاً عن كل عيب، قد تذل منه القدم، ولكنه سرعان ما يعود إلى ربه ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ المرحلة الثانية، أن تبدأ بمن هم أدنى إليك الله تعالى ماذا قال لنبيه عليه الصلاة والسلام ؟ قال: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ الذين هم من حولك أقرباءك وأصدقاءك ومن يلوذون بك، هؤلاء هم الأجدر بدعوتك، هم الأحق بأن تنقذهم من حالة الضياع، ثم بعد ذلك بالمرحلة الثالثة تنطلق بدعوتك إلى الآفاق هنا وهناك، أذكر أيها الأخوة أني كنت في بلد أجنبي، فطلب مني أن أتحدث عن واجب الدعوة - لأنهم كلهم يعملون في الدعوة – فقالوا لي: لو حدثتنا عن .. قلت: أنتم لستم بحاجة لا إلى كلمات ولا إلى خطب ولا إلى مطويات قالوا: كيف ؟ قلت أنتم بحاجة إلى شيء واحد فقط، أنتم بحاجة إلى أن تكونوا مسلمين ؛ لأن إسلامكم حتى لو لم تتحدثوا ولم تقولوا افعلوا ولا تفعلوا وتعال لأدلك على الله، استقامتك على هذا الإسلام أعظم دعوة يمكن أن توجهها إلى الآخرين، تماسك أسرتك، صدقك في حديثك، أمانتك، استقامتك، وفاؤك، لطفك، حسن معشرك، حسن جوارك، كل هذه الأشياء تجعل هذا الإنسان يعشق هذا المبدأ الذي تعتنقه، ولقد علمتم أن الإسلام انتشر في جنوب شرق آسيا بواسطة التجار، تجار كانت معاملتهم مستقيمة فعشق الناس هؤلاء التجار، قالوا لي في جنوب شرق آسيا: هؤلاء الأولياء التسعة، هم تجار لكن استقامتهم جعلتهم في نظر أولئك الناس قديسين، وكانوا بداية انطلاقة الإسلام في تلك البلاد التي هي العمق البشري للأمة الإسلامية، اندونيسيا وحدها 250 مليون نسمة مسلمون، كيف انتشر الإسلام فيهم ؟ باستقامة التجار الذين كانوا يتعاملون معهم بأخلاقهم، طبعاً هذا لا يعني أننا لسنا بحاجة إلى أن نأمر وننهى، النبي r وقف على جبل الصفا وقال لقريش: "أرأيتم لو أني أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي مغيرة عليكم أكنتم مصدقي ؟؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، أجل دعا، دعا إلى الله ولكن بأي لغة ؟؟ ما قال لتفعلنَّ ولتطيعنَّ أمري وإلا أعملت السيف في رقابكم لا لا، انظر إلى هذه اللغة التي تحدث بها، قال في رواية أخرى :"أرأيتم لو أني أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي مغيرة عليكم أكنتم مصدقي؟؟" هو أولاً كان موضع الثقة والأمانة هو كان موضع ثقة من الناس، الشيء الثاني أنه أتى ليدلهم برفق، أنا أريد أن أحذركم من خطر، أريد أن أدلكم على باب السلامة، أريد أن أدلكم على باب الهداية، أكنتم مصدقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذباً " هكذا بدأ رسول الله دعوته، ولقد قال النبي r في حديث آخر مبيناً أسلوب الداعية في الدعوة إلى الله "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في هذه النار، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يتقحمون فيها"، النبي r يريد أن ينقذنا من الشقاء يريد أن ينقذنا من التعاسة يريد أن ينقذنا من النار، فهو منقذ وليس سفاحاً ولا قتلاً ولا غير ذلك، هو ربنا تبارك وتعالى لخص دعوته إليه قال ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾
خطبة الجمعة 07/08/2015


تشغيل

صوتي