مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 24/07/2015

خطبة د. توفيق البوطي: الحياء من الله ... مظاهر وأسباب


الحياء من الله .. مظاهر وأسباب
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، وقال جلَّ شأنه في قوم ضلوا وعصوا: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾، وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، روى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحياء من الإيمان"، وروى الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :" استحيوا من الله حق الحياء، فقلنا يا رسول الله إنا لنستحي، قال: ليس ذلك، ولكن من استحيى من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلا، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء "، وروى ابن المبارك في كتابه الزهد والرقائق عن مغيرة بن سليمان أنه دخل على أحد أصحابه وقد حضره الموت فوجده شديد الجزع، فعتب عليه قال أتجزع ؟ قال: ومالي لا أجزع ومن أحق مني بذلك ! والله لو أتتني المغفرة من الله للحقني الحياء من الله فيما أفضيت به إليه .
أيها المسلمون، نحن بحاجة إلى تجديد إيماننا وتوثيق صلتنا بالله سبحانه وتعالى، وتجديد الإيمان تأكيد حقائقه في القلوب وترسيخ معانيه في النفوس، وتوثيق معاني مراقبة الله تعالى والمسؤولية بين يديه في المشاعر في وعي الإنسان في سلوكه في تصرفاته، فإذا توطد الإيمان في القلوب وتمكن فيها كان حاضر القلب واعياً مستحضراً مراقبة الله سبحانه وتعالى وأنه سيقف بين يديه، يوم تبدو السريرة علانية ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾، هذا الذي أرق صاحب المغيرة بن سليمان، وهذا الذي جعل الفضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه يقول في يوم عرفة بعد ساعات طويلة من التأمل والبكاء: ( وا خجلتاه منك ياربي حتى وإن غفرت لي، بأي حال سأقف بين يديك، لذلك كان من رحمة الله عزَّ وجل أن يستر على عبده إذا صدق في التوبة إليه وأن يتجاوز عنه فلا يريه صفحاته السوداء وقد آل إلى ربه وتاب توبة صادقة .
أيها المسلمون ما أحوجنا أن نعود إلى أنفسنا فنحاسب أنفسنا و نوقظ قلوبنا بعد شهر أمضيناه ونحن نمسك عن المباح إرضاء لربنا، فأجدر بنا أن نمسك عن الحرام إرضاء لربنا، بعد شهر أحيينا ليله ونحن نتزاحم على السجود بين يدي الله عزَّ وجل في صلاة تبلغ ركعات كثيرة نبتغي بذلك رضى الله، وكم كانت ساعات ممتعة تلك الليالي التي انصرمت وكانت موسم لإحياء القلوب وإيقاظ معاني التقوى كما قال ربنا ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ في أفئدتنا وفي مشاعرنا .
أيها المسلمون، كلٌ منا على موعد مع الأجل ولو أن الأمر توقف عند الأجل لاشترينا الأجل إذ هو خير لنا من حياة كلها شدائد ومصاعب، ولكن المشكلة الأخطر أن الأجل يفضي بنا إلى الموقف بين يدي الله، إلى الحساب إلى الجزاء ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾، أجل الخطورة فيما سوف نؤل إليه أين المفر أين ستفر من أعمالك من غفلتك من معصيتك، لو أن الفضيل بن عياض رضي الله عنه تاب إلى الله عزَّ وجل بعد سنوات أمضاها كان على جانب من البعد من الله عزَّ وجل ثم استيقظ قلبه بآية واحدة عندما سمع القارئ يقرأ ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ ارتجفت أوصاله من هذه الآية وارتدعت وقال: بلى يارب آن الأوان، وعاد لتوه ليستأنف حياة الإنابة والتقوى والتوبة، ولكنه مع ذلك ظل يستشعر الحياء من الله، لذلك قال في موقف عرفة بعد ساعات من التأمل: ( و اخجلتاه منك وإن غفرت لي ) إن ربك هو الغفار إنه هو الرحيم، إنه هو التواب، ولكن ويتوب الله على من تاب، أما من استكبر وعاند وأصر فإن أمره خطير و إن مآله لشديد في وقفة ترتعد منها الفرائص وتغشاها النفوس يوم الفزع الأكبر إذا كان قادر هذا المستكبر على أن يفلت من قبضة الله فليفلت من قبضة الموت، الذي أمسك بلجامه وقاضه إلى مصيره وأدى به إلى قبره ذليلاً مهاناً جثة عفنة فليحرر نفسه وليتخلص من أجله، أما وأنه وجد بغير إرادته وسينتهي صاغراً بغير مشيئته فليعد العدة للموقف بين يدي ربه سبحانه وتعالى .
أيها المسلمون، ما أحوجنا على أن نعود إلى قلوبنا ونستحضر بذكر الله الموقف بين يديه، حتى إذا جاءت ساعة الأجل بشرتنا الملائكة لتقول للعبد منا إن الله يحب لقائك فهل تحب لقاءه ؟ من تزود أحب، ولكن من هدم مستقبله ماذا عساه أن يفعل، إلى أين المفر ؟ وكيف يفلت من زمام الأجل وقد أحكم قبضته عليه، لذلك الملائكة تبشر العبد الصالح تبشر العبد التائب بأن الله عزَّ وجل قد أحب لقاءه وأن في انتظاره سعادة أبدية عظيمة لا نهاية لها، يتوجها أن يرى حبيبه، رؤية الله عزَّ وجل تتوج سعادة العبد الذي طالما رفع كفيه إلى الله وهو لا يراه، وناجاه وهو لايراه، وناداه وقال له الله عزَّ وجل لبيك عبدي وهو لا يسمعه ولكن قلبه كان يسمعه، لكن عقله كان يسمعه، لكن وجدانه كان يحس بمراقبة الله عزَّ وجل في كل لحظة .
أيها المسلمون، هل عسى أن نعود إلى أنفسنا فنحاسبها؟ هل استشعرنا مراقبة الله لأنفسنا لنا في سلوكنا وتصرفاتنا و معاملاتنا، هناك بين يدي تحقيق هذه المشاعر ينبغي أن نستحضرها و نهتم بها قبل أن تفوت الفرصة ونندم ولات ساعة مندم، ونأسف حيث لا يجدي الندم، ونفر إلى أين ؟؟؟ ليس لنا مفر إلا إلى بابه، فإن كان آبقاً فمن زاوية الدار إلى هاوية النار، وإن كان صالحاً فعصفوراً انطلق من قفص جسده إلى ملكوت رضوان الله سبحانه وتعالى، هناك أمور أنصح نفسي وإياكم بها، الأمر الأول: إن الحياء من الله سبحانه وتعالى إنما يكون بأن نستحي منه من أن يرانا حيث نهانا أو أن يفقدنا حيث أمرنا، أن نكون دائما في حالة حضور نستحضر مراقبته والموقف بين يديه أجل والموقف بين يديه هناك يوم تبدو السريرة علانية كما ذكرنا، إلا أن هذا الحياء إنما يكون كما ذكرت أن يرانا حيث نهانا أو أن يفقدنا حيث أمرنا، بين الطائعين لم يرانا أين هذا العبد ؟، لذلك إبدأ من معرفة ما أمر الله تعالى وفصل، فحضور مجالس العلم التي تعرفنا بحدود الله بأوامره ونواهيه أمر في مقدمة الحياء من الله عزَّ وجل، لأنك تستحي من الله أن تعصيه، ومعصية الله أن تخالف أمره أو أن تفعل ما نهاك عنه، الأمر الآخر هناك سبل لإيقاظ مشاعر الحياء ومحبة الله والحرص على رضاه والسعي في سبل طاعته أولها كثرة الذكر هناك أذكار في الصباح والمساء، وأذكار في أعقاب الصلوات، وأذكار في تقلبات حياة الإنسان في دخوله وخروجه وطعامه وانتهاء طعامه وغير ذلك، هل كان لسانك رطباً بذكر الله في كل أوقاتك وكل أحوالك، جدير بمن كان كثير الذكر لله أن يكون كثير يقظة القلب دائماً يقظ القلب مع الله سبحانه وتعالى، أما من كان معرضاً تمر عليه الساعات يأكل ويشرب ويدخل ويخرج وليس لديه أي شعور بأنه بنعمة الله يستمتع وبفضل الله تعالى ينال ما ينال، لذلك لابد أن نحيي قلوبنا بذكره، وليس الذكر اللساني فحسب ؛ بل الذكر لساني و وجداني بآن واحد، الأمر الآخر كثرة الاستغفار كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ، ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ ﴾ الذكر يفضي إلى ماذا ؟ ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾، الأمر الثالث شرط لهذا الأمر وهو أن تجلس بين يدي ربك عزَّ وجل لحظات خلوة تعود فيها إلى نفسك فتحاسب نفسك، وكا قال سيدنا عمر رضي الله عنه: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم )، ومن المهم جداً الحرص على صلاة الجماعة ؛ بل وأن تكون لك لحظات مناجاة لله عزَّ وجل في وقت السحر ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ الأمر الآخر وهو أمر في غاية الأهمية البعد عن مجالس الغفلة، لابد أن نتجنب مجالس الغفلة ومجالس المعصية، لأنها تظلم القلب وتفسد النفس وتستنزل غضب الله عزَّ وجل، قاطعوها أياً كانت طبيعتها، و أياً كانت أنواعها سواء كنت منفرداً في غرفتك تجلس إلى الشاشة الصغيرة أو غيرها، أو كنت مع مجموعة من الغافلين عن الله عزَّ وجل، لذلك هذا الأمر يفضي إلى شيء آخر وهو البعد عن أصدقاء السوء الذين يضلونك بعد هداية ويفسدونك بعد صلاح ويجرونك إلى الإثم، لا ينبغي أبداً أن تجالسهم ولا أن تجلس معهم، والأمر الأخير لدعوة إلى الله ولكن لا تدعو الناس إلى شيء إلا بعد أن تباشره أنت، ولا تنهى عن شيء إلا بعد أن تجتنبه أنت، فإن زلت من القدم عدت إلى ربك خجلاً حيياً نادماً مستغفراً تقول يا رب زلت مني القدم وأنت التواب الرحيم وكل ابن آدم خطاء لكن خير الخطائين التوابون، أم يقل ربنا سبحانه :﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾
خطبة الجمعة 24-07-2015


تشغيل

صوتي