مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/06/2015

خطبة د. توفيق البوطي: تلازم العلم والعبادة


تلازم العلم والعبادة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فياأيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، وبقول سبحانه :﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾، ويقول سبحانه: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾، روى البخاري عن معاوية أنه خطب فقال: سمعت رسول الله r يقول:"من يرد الله به خيرا يفقه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يرهم من خالهم حتى يأتي أمر الله"، ويقول النبي r: "من سلط طريقاً يلتمس يه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"
أيها المسلمون، في شهر رمضان شهر القرآن الذي أنزل يه القرآن هدىٍ للناس سأبدأ بمواضع تبين تلازم بين الإسلام وأسس الفضائل والمحاسن، ومن أجل الفضائل والمحاسن العلم والأخلاق والطهارة والحرص على الوقت وحسن استعماله والتعاون على الخير بكل أبوابه، وقد وجدت من الأهمية بمكان أن أبدأ بالعلم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى بدأ تنزيله بذا الدين ورسالته إلى النبي r بالتنويه بالعلم، فقد أنزل ي أول آية نزلت من كتاب الله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ # خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ # اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ # الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ # عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾،فحيث وجد الإسلام الصحيح انتعش العلم وانتقلت أنشطته، وحيث وجد الجهل دل ذلك على البعد عن الإسلام ومناهضته، ولذلك نجد أن الذين يرتدون لباس الإسلام اليوم، والذين يرفعون راية لا إله إلا الله تجد أن العدو الأول لهم إنما هو المؤسسات التعليمية، ولذلك تجد أنهم يستهدفونها بالقصف والتدمير، ولابد أن أشير إلى مسألة مهمة قبل أن أخوض في الموضوع المتخصص بالعلم فأقول: هما متلازمتان العلم يثمر التقوى، إن لم يثمر التقوى أثمر الشقاء؛ لأن بين العلم والتقى ضرورة التلازم، فعلم بلا تقى شيطان رجيم، وتقوى بغير علم تخبط وضلالة، عبادة بدون علم لاشك أنها ستوقع صاحبها في كثير من المبطلات، كم من حاجٍ حج بدون علم عاد مأزوراً بدل أن يعود مأجوراً، وكم من صائم صام وهو لا يعلم حدود وضوابط الصوم أفطر وهو لا يدري، وكذلك علم بلا تقوى يدفع صاحبه إلى الجرأة على دين الله وإصدار الفتاوى المضللة والمخربة والمدمرة، كثيرون من الذين لبسوا زي العلم وخلت قلوبهم وتصرفاتهم عن ضوابط التقوى فضلوا وأضلوا وعاثوا بفتاواهم في الأرض فساداً، لابد بادئ ذي بدأ أن أقول: العلم فيما عرف به هو إدراك الشيء على حقيقته، والعلم علم شرعي يعرفنا على عقيدتنا وعبادتنا وضوابط معاملاتنا وأحكام الحلال والحرام في تصرفاتنا، وعلم أعم من ذلك يعرف الإنسان على حقائق الأمور سواء فيما يتعلق بالطبيعة، أو الصحة، أو مكونات هذه لطبيعة وخصائصها، أو ما يتعلق بالهندسة والطب والصيدلة والقانون وغير ذلك، فهناك علم مهم وضروري نصحح به أمور دنيانا وحياتنا وعلاقاتنا وهو فرض كفاية بمعنى أنه يجب على الأمة أن تحقق توافر هذا العلم فيها، فإن لم تسعى إلى ذلك أثمت وإلا استأثر بالأجر من تفرغ لذلك ،كل العلوم مطلوبة منا إلا أنَّ علماً من العلوم هو فرض عين، هو العلم الذي يصحح عقيدتك ،ويصحح عبادتك، ويصحح لمعاملات التي تمارسها، فالمرء الذي يقدم على صلاة وهو لا يعرف أحكامها لن يصلي، وهو مقصر في شأن نفسه مقصر في صلاته مقصر في عبادته، وإن دخل رمضان وهو لا يعرف أحكام صيامه فهو آثم ومقصر وعليه أن يتدارك نفسه وأن يسعى لمعرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بعبادته التي هي في هذه الأيام يمارسها في كل يوم، فكم سمعنا من إنسان صائم أسد صومه ببعض المفسدات وهو لا يدري ولا يعلم أنه قد أفسد بذلك صومه، والجهل في البلد الإسلامي ليس عذراً، أما الجهل بالنسبة لحديث عهدٍ بالإسلام في بلاد كفر فقد يلتمس له العذر ريثما يجد الفرصة ليتعلم، أجل إن تصحيح عقيدتنا وتصحيح معاملاتنا وتصحيح عباداتنا كل ذلك يتطلب منا الحرص على العلم بمقدار ما نمارس من تلك العبادات، أنا ليس مطلوب مني الآن أن أتعلم الحج وما يفرض علي، ولكن إذا وجب علي الحج وتوفرت لي أسبابه، فإن علي قبل أن أسافر إلى مكة والمدينة لأداء مناسك الحج والزيارة أن أتعلم أحكام الحج والزيارة وأن أتقه في ذلك كله، فلربما وقعت في مخالفات جعلت عباداتي كلها باطلة والبطلان في الحج مشكلة خطيرة وعواقبها سيئة ، وكذلك في الصلاة وكذلك في كل معاملة تقدم عليها، إذا أردت أن تتزوج فعليك أن تتفقه في أحكام الزواج في أحكام المعاشرة وما يترتب عليها ،وفي الحقوق الزوجية وفي الواجبات المتعلقة في كل من الزوجين وفي الحقوق التي يملكها والتي تحق لكل من الزوجين إلى آخر ما هنالك مما أوجب الله علينا في حياتنا الزوجية، وكذلك في البيع والإجارة والرهن، كم من الناس يشاركون شراكة لا أصل لها في الشرع، توقع صاحبها في بطلان في المعاملة والله تعالى حرم علينا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فالتجارة وجه من الوجوه التي تصحح بها المعاملة ،وينبغي أن يدرك المرء أصول التعامل الصحيح والتجارة الصحيحة ليرتفع شأن هذا الإنسان ليكون عند الله تعالى من المقربين بتجارته، فالتجار الصدوق مع رسول الله r في الجنة، ولكن التاجر الذي يتخبط في معاملته فيقع في المعاملات الباطلة وقع في محذور قوله تعالى ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾، إنه أمر محرم حتى وإن صادف المعاملة الصحيحة، إن العلم إذاً في ميزان الحكم الشرعي إما أن يكون فرض عين وهو أن يتعلم الإنسان ما يمارس من دينه بعد أن يتعلم عقيدته ويتعلم الأشياء التي يصحح بها حياته اليومية، وهناك تلازم بالنسبة للعلوم الأخرى الكونية بين مقتضى قوله تعالى إن ي جاعل في الأرض خليفة وبين ضرورة تعلم هذه العلوم، فالخلافة هي تلك المهمة التي عهد الله تعالى بها للإنسان أن يبني هذه الأرض على النحو الذي يحقق مصالح الإنسان وبرز مدى عناية الله عزَّ وجل وحكمته في خلق هذا الكون، إن تعلم العلوم الكونية أمر مهم وعلى جانب من الضرورة بمقدار ما نحتاج إليه من تلك العلوم التي نستطيع بها أداء مهماتنا في هذه الحياة وتحقيق مصادرنا فيها، ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ عهد إليه بإعمار هذه الأرض وباستثمارها ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ﴾، ما الفرق بين الإنسان والحيوان في هذه المسألة حتى خصص التسخير للإنسان ؟ الإنسان قادر على التعلم، فهو يستثمر الأرض بكل مكنوناتها، أما الحيوان فهو لا يستفيد إلا مما فطر عليه وتوجهت غريزته إليه من الاستثمار في هذه الأرض، هو يستدفئ بالمس ويشرب من لماء ويأكل من البرسيم، ولكن العلم إنما اختص به الإنسان ليستطيع أن يستخرج كنوز هذه الأرض ويستفيد من خصائصها ومن أسرارها لأن الله استعمره فيها ﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ﴾.
أيها المسلمون إن هناك من يحاول أن يروج للجهل باسم العلم فيجعل الجهل قريناً لترك الدين والتدين قريناً للجهل، لأنه يريد أن يضيف إلى جهله جهلاً وهذا هو الجهل المركب، الذين يدعون العلم من خصوم الدين إنما هم الجهلة جهلاً مركباً والإسلام هو الذي رعى لنهضة العلمية التي غدت أوربا فيما بعد نهضتنا وقبل أن نتخلى عن شريعتنا وديننا كانت أوربا قد استفادت من نهضتنا العلمية التي نشأت في أحضان ديننا وفي ظل النهضة الإسلامية والحضارة الإسلامية، حتى إذا تخلى المسلمون عن دينهم تمكن أولئك أن يستمروا العلم بشكله الحسن والسيئ، والشكل السيئ هو الذي يسيطر اليوم على ساحة الكرة الأرضية من خلال سوء التصرف الذي نراه من قوى البغي والعدوان في هذه الأرض
أيها المسلمون، أؤكد على مدى التلازم بين العلم والتقى، فعالم ليس فيه تقى هو إنسان خطير على دين الله وعلى خلق الله، وعابد لم يقم عبادته على أسس علمية عباداته يغلب أن تكون باطلة لا تقربه إلى الله شرو نقير، مجالس العلم مجالس عبادة، ومجلس العلم خير من عبادة سبعين سنة، والنبي r دخل على المسجد وقوم يذكرون الله وقوم يتذاكرون الفقه فقال النبي r:" كلا المجلسين على خير، أما الذين يذكرون – لا يذكرون وهم جهلة، كانوا على مائدة مجالس رسول الله r– أما الذين يذكرون الله يسألون ربهم إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يعلمون الناس ويتعلمون وإنما بعثت معلماً وهو أفضل "، مجلس العلم هو أفضل من مجل الذكر ؛ لأن مجلس العلم يولد مجلس الذكر، لكن مجلس الذكر ليس بالضرورة أن ينتج مجلس علم .
أسأل الله أن يفقهنا في ديننا وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن يجعل من شهر رمضان الذي أظلنا شهر إقبال على المعرة، شهر إقبال على العلم والفقه والدين والعلوم بشتى أنواعها .
خطبة الجمعة 19-06-2015
لمشاهدة الخطبة على اليوتيوب


تشغيل

صوتي