مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 15/05/2015

خطبة د. توفيق البوطي: واقعنا في ظل الإسراء والمعراج


واقعنا في ظل الإسراء والمعراج
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ # وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً # ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا #وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا # فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً # ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا # إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا( وروى مسلم عن أنس بن مالك t أن رسول الله r قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل r اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال: جبريل، قيل: ومن معك قال: محمد قيل: وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية .."، إلى آخر حديث الإسراء والمعراج من رواية مسلم رحمه الله تعالى.
أيها المسلمون تمر بنا هذه الأيام ذكرى معجزة الإسراء والمعراج التي يحتفي ويحتفل بها كثيرٌ من أبناء العالم الإسلامي لما لها من أهمية عظيمة من حيث دلالات كثيرة فيها، ولابد أن نقف عند بعض هذه الدلالات، أوّلها الظرف الذي أكرم الله تعالى فيه النبي r بهذه المعجزة، بعد عشر سنوات من الدعوة إلى الله من تاريخ البعثة النبوية توفي عمه وتوفيت زوجته في عام واحد مما جرأ قريشاً على النبي r كما لم تكن تتجرأ من قبل، واشتد الكرب على النبي r لأن منافذ الدعوة قد سدت في وجهه، فرصة استجابة قريش للنبي r إثر تلك الظروف قد ضاقت، ولم تعد متاحة كما كان يرجو، فتوجه شطر الطائف كما هو معلوم، فلقي من أهل الطائف أشد مما يلقى من أهل مكة، حيث قابلوه بأسوأ ما يمكن أن يقابل إنسان لجأ إلى قبيلة عربية، فقد صدوه وردوه وسلطوا عليه سفهاءهم بالشتائم والحجارة وغير ذلك من الإساءات، وعاد النبي r إلى مكة بجوار المطعم بن عدي ليستأنف الدعوة الإسلامية هناك، على الرغم من المصاعب التي لقيها إزاء إساءة أهل مكة، والمعاملة السيئة التي عومل بها من قبل ثقيف في الطائف، واشتداد الضيق عليه r جاءت معجزة الإسراء والمعراج تقول له: لئن ضاقت بك الأرض فتحت لك السموات أبوابها لتكون في ضيافة كريمة من رب العزة جلَّ شأنه، يكرمك فيها بكثير من الآيات، وكثير من التأييدات التي تثبت قلبك وتؤيد مسارك وتنور دربك وتكون دعماً وتأييداً لمسيرة الدعوة التي قد تجشمت مصاعبها وتحملت لأواءها، جاء التأييد الرباني للنبي r، هذه هي الملابسات التي وقعت فيها هذه المعجزة العظيمة، الدلالة الثانية التي أقف أمامها إزاء معجزة الإسراء والمعراج، ونحن نكرر الحديث ولكن في كل مرة تستوقفنا من هذه الحادثة ملامح ينبغي أن نقف عندها بتأمل، هذا الربط ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، أول معبدين أقيما ليكونا رمزاً لعبادة الله وحده في تاريخ البشرية، أما الأول فقد بني بأمر الله تعالى في مكة هو المسجد الحرام والكعبة المشرفة، أما الثاني فهو المسجد الأقصى، وقد صحت الأحاديث أن بين المسجدين أربعين عاماً ما بين بناء المسجد الأول وبناء المسجد الثاني، ولست بصدد التحليل التاريخي لهذه المسألة، لكن المسجدين يرمزان إلى توحيد الله عزَّ وجل وإلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وكان في إقامة هذين المسجدين معنى ندركه نحن اليوم من خلال هذا الربط الذي كان في رحلة الإسراء والمعراج، ما هو المعنى الذي يشير إليه هذا الربط والذي أكد وحدة الرسالات السماوية من جهة؟ وأن منبعها واحد وأنها قد بعث الله تعالى بها الأنبياء ليؤكدوا حقيقة اعتقادية واحدة وإن تباينت الشرائع بحسب المرحلة التي تصل إليها البشرية من حيث علاقاتها وتطوراتها هذا الربط ندركه اليوم نحن، نعم، أشارت الآيات مباشرة بعد قوله تعالى: )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ # وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ( جاء تأكيد وحدة مصدر الرسالات السماوية مع آية رحلة الإسراء والمعراج، فإذا كان المسجد الأقصى رمزا لتوحيد الله وعبادته في حياة بني إسرائيل والرسل الذين بعثوا فيهم فكان هذا المسجد مثابة لهم ورمزاً لتوحيد الله في حياتهم، فإن المسجد الحرام متصل بذلك المسجد؛ لأن المصدر واحد والرب واحد والوجهة واحدة، وهناك إشارة إلى تمرد بني إسرائيل وسوء أخلاقهم التي عاملوا بها أنبياءهم؛ بل عاملوا بها من كانوا سبباً في نجاتهم، بنو إسرائيل كانوا يعانون من ظلم فرعون الذي استحيى نساءهم وقتل أولادهم واستعبد شعبهم وأساء إليهم أيما إساءة، ما أن نجاهم الله سبحانه وتعالى على يد موسى عليه الصلاة والسلام من ظلم فرعون، حتى انحرفوا وعادوا إلى المعصية والانحراف والشذوذ وعبدوا العجل وعبدوا من دون الله آلهة مزيفة، تمردوا على موسى الذي كان سبباً في نجاتهم، شعب أثبت على امتداد التاريخ أنه لم يتخلق بأخلاق الوفاء، ولم يتخلق بأخلاق العبودية، كان مظهراً للخيانة مظهراً للغدر مظهراً للتنكر للنعمة، هل يا ترى هذه مسألة عرقية؟ لا ليست عرقية إنها إشارة لنا أن بني إسرائيل نالهم من الذل والبلاء ما نالهم لأنهم تنكروا لنعمة الله عزَّ وجل، وقابلوا النعمة بالكفر والجحود والمعصية وعبادة العجل وغير ذلك، وأن أي أمة من الأمم تسير مسار الانحراف والتنكر والجحود للنعمة وتخرج عن طاعة الله عزَّ وجل ستصيبها اللعنات التي أصابت بني إسرائيل، وسينالها الذل الذي ينال بني إسرائيل، وإن النسب لا علاقة له في هذه المسألة، إذا أردنا أن ننظر إلى نسب بني إسرائيل هم أبناء سيدنا يعقوب u، هم أبناء الأنبياء وإذا نظرنا إلى أمتنا نحن التي جعلها الله تعالى أمة وسطى، فإن كل من تنكر لنعمة الله عزَّ وجل وخرج على أوامر الله سبحانه وتعالى وخان الأمانة التي عهد الله بها إلينا، فإنه سيصيبه ما أصاب بني إسرائيل، ويصيبهم أكثر أيضاً، وهذا ما نراه بأم عيننا، الأمر يشير في الآيات إلى فساد وقع من بني إسرائيل قال )وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ( في تفسير القرطبي يقول رحمه الله تعالى – بعد أن ذكر وجوهاً من إفساد بني إسرائيل للمرة الثانية: ( ويحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد r أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة، المرة الأولى سلط الله عليهم بختنصَّر، فنكل بهم أيما تنكيل فالإفساد الثاني، يقول: سيكون في عصر هذه الأمة المحمدية، عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله) نعم سينال بني إسرائيل على إفسادهم في الأرض ونشرهم للحروب ونشرهم للفتن ما نال أسلافهم في الزمن السحيق الماضي من الذل والدمار والهلاك، ولكن على يد من؟ على يد من يكونون أوفياء للرسالة لا على يد الذين تخلوا عن الرسالة، على يد من استقاموا على العهد لا على يد الذين خانوا العهد، على يد الذين عرفوا أن المسار هو على نهج الله وعلى الاستقامة والهدى لا على موالاة أعداء الله تعالى ومحاربة الأهل والوطن والأمة، لن يكون فلاح هذه الأمة على يد الخونة، ولن يكون فلاح هذه الأمة على يد أولئك الذين يقاتلون أبناء أمتهم ويخونونها ويدمرون البلاد بفتنة سوداء، نسأل الله تعالى أن يجعل كيد من يكيد هذه الأمة في نحره ومكر من يمكر بها عائداً عليه.
لاحظوا تلك الإشارة العظيمة التي هي بشارة لنا بمقدار ما نعتز بها وبمقدار ما نتمسك بها قال: )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ( هذه الأرض المباركة، الأرض التي هي من حول المسجد الأقصى هي بلاد الشام، وذروة الخير من بلاد الشام في مدينة دمشق التي تحفها العناية، والتي تكفل بها الله تعالى بها لنبيه r وبأهلها، رضي من رضي وكره من كره، وأطاع من أطاع وعصى من عصى، هذه الأرض باركها الله عزَّ وجل، وهي محط عنايته ومحط تأيده ولا شك أن الأرض قد ينالها من الشدة والأذى بمقدار ما تستحق من التأديب لا سيما إذا كانت أرضاً مباركة ودنست بمعصية في أهلها الذين لم يراعوا أمانة البركة فيها، ولكن لابد أن تستعيد عافيتها بإذن الله تعالى؛ لأن الله تعالى تكفل بها وبأهلها، ورد في شأن بلاد الشام الكثير من الأحاديث، وأقتصر منها على حديثين وهو البخاري، ورفعه ابن حبان والترمذي وغيرهما إلى النبي r: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قال: قالوا : وفي نجدنا، قال: اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا: وفي نجدنا، قال: هنالك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان " فلا يطمئنن أهل نجد إلى سطوة تمتعوا بها فعاثوا بسببها فساداً هنا وهناك، هذه البلاد قد باركها الله عزَّ وجل، ولابد أن ينال الأيدي الخسيسة التي تمتد إليها بطش الله سبحانه وتعالى، كل من أراد أن يدنس هذه البلاد سواء كانت الشام أو كانت اليمن، وللشام أفضلية معروفة في الأحاديث ومقدمة بشكل واضح وصريح، فإن كل يد تمتد إلى بلاد الشام ستقطع وسينالها بطش ربنا سبحانه وتعالى، هنالك الزلازل والفتن، فليترقبوا زلازل تمحقهم، وليترقبوا فتناً تجعل الحليم منهم حيران، وقد بدت وذر قرنها، روى الحاكم في مستدركه عن أبي أمامة الباهلي أن النبي r قال:" الشام صفوة الله من بلاده، يسوق إليها صفوة عباده " النبي r عندما قال هذا الحديث كانت الشام ترزح تحت سيطرة الروم، ولكنه لم يكن يتحدث عن الوقت الذي هو فيه، لكنه يتحدث عن مستقبل هذه البلاد، لأن مستقبل هذه البلاد أنها ستكون محط عمود الإيمان وموضع عناية الله تعالى ورعايته قال:" الشام صفوة الله من بلاده، يسوق إليها صفوة عباده، من خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه، ومن دخل من غيرها فبرحمته" صحيح على شرط مسلم
أيها المسلمون، إن الأحداث التي تمر بها منطقتنا ليست بعيدة عن مسار قصة الإسراء والمعراج، والربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى يشير إلى مسؤولية الأمة عن المسجد الأقصى وعن حماية بيت المقدس، إن الأحداث التي تمر بها منطقتنا إنما تهدف إلى تثبيت الوجود الصهيوني في أرض فلسطين ودعم تدنيسهم للمسجد الأقصى، إنما يراد للأحداث التي تجري في منطقتنا أن تعيش عصابات الصهيونية في أرض فلسطين آمنة مطمئنة تعيث في الأرض فساداً وتنشر الفتن هنا وهناك بأيدٍ تلبس عباءة الإسلام وتدعي الانتماء إلى الإسلام.
الذين يؤججون نار الفتنة هنا وهناك ليحرقوا بلاد الشام وغيرها تحت اسم الجهاد قد فقدوا البوصلة، فالجهاد يكون ضد الذين دنسوا المسجد الأقصى، الجهاد يكون ضد أولئك الأوغاد الذين يقتلون أبناء فلسطين ويدنسون أرضها بجرائمهم وفتنهم، في كل يوم يبنون مستعمرات لليهود ويطردون الأسر من بيوتها ويغتصبون المزارع ليجعلوها موطنا لأولئك الأوغاد المستوردين من مشارق الأرض ومغاربها، الجهاد يكون ضد أولئك، والحرب ينبغي أن تشن لاسترداد المسجد الأقصى الذي تدنسه عاهرات اليهود وجنوده، الجهاد يكون هناك، يكون بتوجيه البنادق والقوة إلى صدور العدو، الجهاد لا يكون في دمشق، الجهاد لا يكون في إدلب، الجهاد لا يكون في حلب، الجهاد لا يكون في اليمن، الجهاد لا يكون في ليبيا، الجهاد يجب أن يتجه إلى جهة واحدة... لاسترداد الأرض والمقدسات ولجمع كلمة الأمة لا لتمزيقها، انظروا إليهم هم أنفسهم أصبحوا مزقاً وأحزاباً يشتم بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا، لأنهم أهل فتنة، وأهل الفتنة دائما يحترقون بنار فتنهم، إنهم بفتنتهم إنما ينفذون برنامجاً وضعه أسيادهم؛ من أجل تثبيت أقدام اليهود في فلسطين وتمكين سيطرتهم على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية، ولاشك أنه إذا أتيح لهم سيكون لهم طغيان أكبر، ولكن خسئوا فإن شمسهم قد غربت وشمس الإسلام قد بزغت.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 2015-05-15
لمشاهدة الخطبة على اليوتيوب


تشغيل

صوتي