مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 17/04/2015

خطبة د. توفيق البوطي: أهمية الذكر في حياة المسلم


أهمية الذكر في حياة المسلم
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ( ويقول سبحانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا # وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا #هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا( ويقول جلَّ شأنه:)كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ # فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ( ووصف المنافقين بأنهم: ) يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً( ويقول النبي e فيما يرويه عن ربه وأخرجه البخاري:" أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملأه، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ".
أيها المسلمون نعاني جميعاً من كثير من الآفات والآلام، نعاني من مصائب من ضائقة في العيش، من خوف استبد بالبلاد وانتشر بين العباد، نعاني من تسلط أجنبي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نعاني من سوء العلاقات فيما بيننا، حتى غدا الأخ مقطوع العلاقة مع أخيه في كثيرٍ من الأحيان، فسدت العلاقات الاجتماعية وساءت علاقة الرحم برحمه والجار بجاه، وصرنا أنكاثاً يضرب بعضنا رقاب بعض، ومثل هذه الأدواء التي تعاني منها الأمة ينبغي أن تدفع بها إلى البحث عن حقيقة المرض الذي تعاني منه، ترى لماذا أصبنا بما أصبنا به، ولماذا حلت بنا كل هذه المصائب، لو أننا عدنا إلى كتاب الله تعالى لتشخيص الداء وبيان الدواء لوجدنا أن ربنا تبارك وتعالى يقول في كتابه:)وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى # قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا # قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى( وعندما نرى سوء العلاقات فيما بيننا نجد ربنا تبارك وتعالى يشخص الداء لنا ويقول: )وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ( ويبين لنا حرفة الشيطان ووظفته وشأنه في حياتنا إذ يقول: )إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ( يفسد العلاقة فيما بينكم وينشر الكراهية فيما بين أبناء المجتمع، إن الشيطان ينزغ بينكم، يفسد بين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، وبين الاب وأبنائه، وبين الجار وجاره حتى يعود مجتمعنا أنكاثا؛ إنه الشيطان سواء تمثل بشكل إنسان أو كانت له وساوسه التي تفعل فعلها في نفس ابن آدم، وكل ذلك ناشئ عن الغفلة عن ذكر الله تعالى.
المرض الحقيقي فيما نعاني منه إنما هو الغفلة عن الله، والغفلة تؤدي إلى البعد، والبعد يؤدي إلى هذه النتائج التي نرى، فإذا أردنا لأنفسنا خلاصاً، وسعة في العيش بعد ضائقة، ونصراً على العدو بعد معاناة من تسلطه وجرائمه وأفاعيله، إذا أردنا أن يعود مجتمعنا إلى الألفة والمحبة بعد تدابر وتقاطع فإن علينا أن نعود إلى الله، علينا أن نعود إلى استحضار ذكر الله، أن تكون قلوبنا أوعية لمحبة الله، الجندي في موقعه، والموظف في دائرته، والطالب في مدرسته، والعامل في مصنعه ومعمله، كل امرئ منا بحاجة إلى أن يكون قلبه وعاء لذكر الله، فإذا ذكر الله ذكره الله بالتأييد، ذكره الله تعالى بالنصر، ذكره الله تعالى بسعة العيش، ذكره الله تعالى بالتأييد ذكره بالنصر على عدوه وغسل من قلبه أوضار الحقد وأسباب الكراهية، وأعاد بناء المجتمع على حالة من الود والصفاء، نعم، وهذا ما يبينه ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، إلا أن مشكلتنا الحقيقية أننا إنما نعاني من ضعف في إيماننا، فلقد رانت الذنوب على قلوبنا، وتراكمت على أفئدتنا، حتى قست القلوب، وصار الشك مكان اليقين وتبوأت في نفوسنا أمراض من أشدها ضعف اليقين، مع أن هذه القلوب لو أنها اهتزت بشيء من الوجل، واستعادت قوة يقينها بالله عزَّ وجل لرأت أمامها معالم طريق النجاة والنصر والتأييد والفتح بإذن الله. اعتقد أن كثيرين قد يتشككون في هذا الكلام إلا أن واقع الأمر يصدقه، وعودتنا إلى كتاب الله إن كنا مؤمنين تدل عليه، أما واقع الأمر فصفحات التاريخ أمامنا واضحة، يقول ربنا تبارك وتعالى في شأن مواجهة العدو )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ( فذكر الله أحد مفاتيح النصر على العدو، لنكن مع الله ليكون معنا، لنكن ذاكرين، فإذا ذكرته ذكرك بعونه قال تعالى )فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ( وفي الحديث القدسي: "إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه" "أنا جليس من ذكرني" "أنا معه إذا ذكرني" نعم هو معنا إذا ذكرناه، معنا بالتأييد، معنا بغسل قلوبنا من أوضار الكراهية، معنا بإعادتنا إلى جادة الاستقامة، معنا بإيقاظ هذه القلوب وعودتها إلى طريق الهدى والرشاد )فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ( والذكر هو الجانب الذي هجرناه في حياتنا وللأسف، ربنا تبارك وتعالى يبين لنا في الأحاديث القدسية التي رواها النبي e عنه، أو في الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية يبينها لنا النبي e، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي e قال: " وهو عائد إلى المدينة من بعض الوقائع "هذا جمدان" –جبل مطل على مشارف المدينة – ثم قال:"سبق المفردون" قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال:" المولعون بذكر الله" وفي رواية مسلم "الذاكرون الله والذاكرات" هؤلاء السابقون إلى عناية المولى إلى رحمة المولى إلى مغفرة المولى إلى نصر الله، إلى الانتصار، بوابة النصر إنما هي ذكر الله عزَّ وجل، فلمن كان حتى هذه الساعة معرضاً ليعلم أن بوابة النصر إنما هي أن تكون هذه القلوب أوعية لذكر الله، والذاكر لله كما وصفه ربنا تبارك وتعالى في كتابه في أول سورة الأنفال:)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ( خشعت القلوب هو يذكر رب العزة، هو يذكر خالق السموات والأرض، هو يذكر من بيده الأمر، المطلع على حقائق ما في قلوبنا وعلى نوايانا، ومن بيده مصيرنا وإليه مآلنا وبين يديه وقوفنا غداً يوم القيامة، نعم من بيده أمر السموات والأرض وأمر الدنيا والآخرة )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا(
أيها المسلمون، إن ذكر الله هو مدار كل ديننا، كل ديننا ذكر لله. وبصورة أخص: الصلاة ذكر والصيام ذكر والحج ذكر، وتلاوة القرآن ذكر، وأوراد الصباح والمساء التي لابد منها لأنها المورد العذب الذي يداوي قلبك ويعالج أدواءك ويصحح مسارك، أيضاً هي العمود الفقري للذكر، والدعاء شكل مهم من أشكال الذكر، وذكر الله ليس كلمة ميتة على اللسان، إنما هي حالة تذكر من العبد لمولاه، لمن أعطاه، لمن أنفاسه بيده لمن مصيره إليه، لمن بيده الأمر وإليه المآل، نعم ذكر الله مفتاح سعادتنا، فإذا ذكرته وقلبك حاضر تستحضر عظمة من تذكر واهتز كيانك بذكر الله عزَّ وجل وجدت أثر ذلك وبركته في حياتك. لماذا تضعف نفوسنا أمام شهواتنا؟ لغفلتنا، لأننا إذا غفلنا استبد الشيطان بنا، قال تعالى: )وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( والشيطان من شأنه أن يبعدنا عن الله ويجرّنا إلى مهالكنا، والله تعالى حذرنا منه إذ قال: )إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ( )الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( فأي باب تطرق، وأياً تقصد؟ إذا اتخذت الشيطان ولياً فهو كفيل بإهلاكك، أما إذا اتخذت ربك سبحانه وتعالى ولياً وكانت صلتك به وثيقة من خلال ذكرك له وتبتلك بين يديه فاعلم أنك قد أمسكت مفتاح السعادة ومفتاح النصر ومفتاح التقوى ومفتاح الألفة والمحبة في مجتمعك.
أيها المسلمون، أختم هذه الخطبة بحديث قدسي رواه لنا النبي e يقول :" إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون مجالس الذكر - بين قوسين أقول: قولوا لأولئك الجهلة الذين نشروا الفتن بين المسلمين من التكفيريين الضلاليين الذين إذا جلسنا مجلس ذكر قالوا بدعة، قل أنتم المبتدعة الضالون، أنتم الذين تصدون عن سبيل الله، هذا ما يقوله النبي e فيما صح عنه في البخاري – فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال فيقول: وهل رأوني؟ قالوا: والله ما رأوك، قال فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وتحميداً وأكثر لك تسبيحاً، قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقول: لا والله يارب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال يقولون من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً وأشد منها مخافة قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".
أيها المسلمون، مجلسكم هذا مجلس ذكر فأبشروا، واجعلوا بيتكم مضاءة بالذكر لأن الملائكة تلتمس نور الذكر، تبحث عن نور الذكر لتستضيء به فتنقل رسالته إلى ربها وتقول: يا رب عبدك فلان وعبدك فلان كان يخلو إلى نفسه فيذكرك ليذكر الله عند ملئه إذا ذكره في ملأ، ويذكره في نفسه بالرحمة والمغفرة والعطاء والنصر والتأييد والهداية والمغفرة إذا كان قد ذكره
الذكر مع حضور القلب، الذكر بتلاوة القرآن، الذكر بالأوراد، الذكر بعد الصلاة والتسبيحات، والذكر يطول بنا لو أننا تحدثنا عن تفاصيله، نحن بحاجة إلى دواء ينتشلنا من واقعنا الذي نعاني منه، وينقذنا من الآلام التي نعاني منها، أسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين له كثيراً وأن يجعلنا ممن تغمدهم بعفوه ولطفه وكرمه ورحمته إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 17-04-2015


تشغيل

صوتي