مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 13/03/2015

خطبة د. توفيق البوطي: لا أخلاق بغير دين


لا أخلاق بغير دين
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم في الثناء على المؤمنين أو في حضهم على جملة من الأخلاق الكريمة: )الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( ويقول سبحانه:) إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( وأعظم ثناء أثنى به الله تعالى على نبيه e هو قوله: ) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( روى مسلم عن النواس بن سمعان الأنصاري قال: سألت الرسول e عن البر والإثم فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" وروى الترمذي وابن حبان عن أبي الدرداء أن النبي e قال: "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء" وسئل النبي e عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: "التقوى وحسن الخلق" وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال:" الفم والفرج" وقال e:"إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضك إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهيقون" وفسر المتفيهقين بالمتكبرين، وعن النبي e أنه قال: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"
أيها المسلمون ديننا عقيدة بنيت على الفهم والعقل والعلم، ويصل المرء إليها بالاستدلال والتدبر والتفكر، وتتمثل في الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده وبقية صفاته، وبالإيمان باليوم الآخر، فالعقيدة تعريف للإنسان بحقيقة نفسه وحقيقة الكون، ليصل من خلال ذلك إلى معرفة الله الخالق القادر المنعم، ليدرك من خلال معرفته لنفسه أنه متميز عن سائر المخلوقات بالعقل، هذا العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ويهديه إلى معرفة خالقه، ويوصله إلى شاطئ الخير والحق، وإذا كان الإنسان عاقلاً ويدرك الحق والباطل والخير والشر دون غيره من المخلوقات، فإن هذا يحمله المسؤولية، مسؤولية أن يسلك سبيل الحق ويتجنب سبيل الباطل، وينهج سبيل الخير ويتباعد عن سبيل الشر ويسلك إلى المنفعة والخير والرشاد ويتجنب الفساد والضر والإساءة، والأمر الآخر هو العبادات من صلاة وصوم وزكاة وسائر وجوه التقرب إلى الله عزَّ وجل والتي توطد الصلة بينه وبين ربه، تزيده محبة لله، تزيده قرباً من الله، توقظ في قلبه خشية الله والحياء منه، وقد أشار إلى ذلك البيان الإلهي إذ قال: )إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ( وقال عن الصوم: )كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( وقال في الزكاة: )خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا( فالعبادات ليست مجرد همهمات ولا حركات ميتة ولا مجرد إمساك عن الطعام والشراب بل هي إيقاظ للقلب ليكون متصلاً بربه يخشاه ويحبه؛ لأنه المنعم المتفضل المحسن، فإذا ما مرغ جبهته على الأرض اشتد تعظيمه له وكثرت محبته له، وتنامى في قلبه الحياء من الله من أن يراه حيث نهاه أو في أن يفقده حيث أمره، ثم شريعة تنظم حياة الناس ومعاملاتهم ترتكز على العدالة والإحسان، ترتكز على إعطاء كل ذي حق حقه، فالشريعة الإسلامية ليست مجرد قوانين شكلية، بل لها أهداف عظيمة سامية ترتكز على المحافظة على حق كل ذي حق، ورسم الحواجز التي تحول بين الإنسان وحقوق غيره، ومهما يكن من قوة في التشريع وصلابة في القوانين والشكليات فإنها لن تستطيع أن تفعل شيئاً في المجتمع إذا كانت غير مرتبطة بأمرين اثنين: بمراقبة الله وبالثمرة التي ينبغي أن تتحقق من ورائها، أما الثمرة فهي حجر الزاوية من ديننا هي الهدف الأساس من شريعتنا، هي الأخلاق التي عبر عن أهميتها النبي e عندما قال:"إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم" إن قسوة القلب تتنافى مع حسن الخلق، وجلافة الطبع تتنافى مع رقة القلب، ورقة القلب مع التقصير في العبادة قد توصل إلى الله عزَّ وجل، وقد تبلغ بصاحبها مغفرة الله سبحانه، أو ما سمعتم أن النبي e قال:"دخلت امرأة النار في هرة حبستها ، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" دخلت بسببها النار لأن قسوة قلبها تدل على أنه لم يتذوق حلاوة معرفة الله ومراقبة الله ومحبة الله، و"غفر الله لرجل في كلب سقاه" وقد سبق أن شرحت قصة من غفر له في كلب سقاه، عندما نزل بئراً وقد اشتد به العطش فشرب منه وخرج من البئر فرأى كلباً يلعق الثرى من شدة العطش، فقال: لقد بلغ بهذا الكلب من العطش مثل ما بلغ مني، فنزل فملأ خفه ماءً ثم سقى الكلب فغفر الله له، إنها الرحمة، وقلبٌ خلا من الرحمة قلب حرم من حسن الخلق وحرم من رحمة الله عزَّ وجل، وقلب فاض بالرحمة وفاض بمحاسن الأخلاق يرقى به صاحبه إلى درجة محبة الله عزَّ وجل والقبول لديه.
أيها المسلمون، ديننا يهدف إلى بناء مجتمع، والمجتمع لا يمكن أن يبنى إلا من خلال صلة تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس والمودة فيما بينهم، أما صلة الثقة بين الناس فتتنامى من خلال الصدق، من خلال الأمانة، من خلال الوفاء، هذه القيم هي التي تمثل الإسلام، وهي التي دعا إليها الإسلام، فهي التي تمثل حجر الزاوية من إسلامنا، فمن أراد أن يعرف الإسلام فليتمثل الوفاء والصدق والأمانة، وحسن الجوار وبر الوالدين، وبر الوالدين وحسن الجوار ترجمة عملية للصدق والوفاء والأمانة، وإذا ما صدق الناس فيما بينهم وتراحموا وتعاونوا وتعاطفوا ونبذوا مما بينهم أسباب الشقاق فإن المحبة هي اللغة التي تسري فيما بينهم، فإذا تحابوا كانوا مؤمنين "لن تؤمنوا حتى تحابوا" هكذا يقول النبي e، المجتمع الإسلامي لا ينهض إلا بمحاسن الأخلاق، أما الشراسة والقسوة، أما لغيبة والنميمة، أما الروح العدوانية التي سرت في مجتمعاتنا اليوم فإنها حالة تدل على مدى بعدنا عن الله، وبعدنا عن الإسلام، نعم، إن الله يأمر بالعدل، والعدل لا يكون إلا عندما تتنزه النفوس عن الظلم، أعطيك حقك بل وأحسن، وتعطيني حقي بل وتتجاوز؛ لذلك قال:)بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ( والمسؤولية في حسن التعامل تبدأ من الأقرب من الوالدين والأرحام ثم إلى الدائرة الأوسع في المجتمع كله، فهل بحثنا عن إسلامنا في التزامنا بمحاسن الأخلاق؟
إن أناساً يريدون أن يبعدوا التربية الإسلامية عن مجتمعنا هم أناس يريدون أن ينشروا مساوئ الأخلاق فيه، إذ لا أخلاق بدون دين، ولا أخلاق بدون تقوى، ولا أخلاق بدون معرفة الله، ولا أخلاق بدون شعور بالمسؤولية، إن الأخلاق الاقتصادية تنضبط بشاشات المراقبة وعدسات التصوير وسطوة القانون، فإذا غابت اضمحلت. أما الأخلاق الإيمانية فهي تندفع من داخل الإنسان تدفع به إلى الأمانة والاستقامة والوفاء، إلا أننا اليوم في الحقيقة نشكو ازدواجية في كثير من المسلمين ينبغي أن يعالجوها وإلا فالموقف بين يدي الله لن يكونوا سعداء فيه، أن أكون في الصف الأول في المسجد و أغش في معاملتي، وأن أكون دائما ممسكاً بكتاب الله وأضيع الأمانة التي عهد إلي بها، أن أتمتم وأمسك بالسبحة وأسبح طيلة مجلسي ثم أكذب على الناس وأخون الأمانة وأعق الوالدين وأسيء الجوار، أي إسلام هذا!! هذا ليس إسلاماً، بل هذا هو النفاق بعينه، فالنفاق أن يظهر إلى الناس تقربه إلى الله بينما يكون سلوكه بعيداً عن منهج الله. أسأل الله أن يرزقنا حسن الخلق حتى نكون لديه من المقبولين.
خطبة الجمعة 2015-03-13


تشغيل

صوتي