مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 13/02/2015

خطبة د. توفيق البوطي: إنما بعثت رحمة


إنما بعثت رحمة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول ربنا جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( ويقول سبحانه: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة tعنه قال: قيل يا رسول الله ادع الله على المشركين –آذوا رسول الله وآذوا أصحابه وأساءوا إليهم كل الإساءة، فطلبوا من رسول الله r أن يدعو على المشركين – فقال رسول الله r :" إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة" وروى الترمذي عن جابر tقال: قال بعض الصحابة يوم حاصر ثقيف في الطائف: يا رسول الله قد أحرقتنا - أو أخرقتنا - نبال ثقيف فادع الله عليهم، فقال: " اللهم اهدِ ثقيفاً " - وفي رواية- " اللهم اهدِ ثقيفاً وائتِ بهم مسلمين ".
أيها المسلمون: يقول ربنا سبحانه وتعالى في حق نبيه: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( ليس للعرب فقط، ولا للعرب والعجم فقط، ولا للبشرية فقط، بل للعوالم كلها، لهذا الكون بكل ما فيه وبكل من فيه. هو الرحمة المهداة، وسيرة المصطفى r العطرة تترجم هذا المعنى بوضوح، أساء المشركون للنبي r أيما إساءة، وظلموه أيما ظلم، ونكلوا بأصحابه، وكان عمه أبو طالب يحميه قدر وسعه، ثم إن عمه توفي فتجرأت قريش كما لم تتجرأ من قبل وأساءت للنبي r كما لم تسئ من قبل ، فخرج إلى الطائف يبحث عن مناخ يتيح له تبليغ كلمة الله، فأساءوا استقباله أيما إساءة، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة، حتى خرج وحجارة سفهاءهم تطارده، شج رأسه وأدميت قدماه، حتى إذا أظله حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة رفع يديه إلى السماء متضرعاً إلى ربه سبحانه وتعالى يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أأنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟" لم يقل هذا تضجراً وإنما لأن سبل الدعوة قد ضاقت عليه، ثم قال معلناً عبوديته ورضاه: "إنْ لَمْ يكُنْ بك علي غَضْبَ فَلا أُبَالِي، ولكنّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَضَاءَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ وَ الاَرْضُ، وَصَلحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحُلُّ علي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى" وجاءه ملك الجبال برفقة جبريل يعرض عليه أن يهلك قريشاً فيطبق عليهم الأخشبين، فقال: " لا.. بل إني لأرجو أن يأتي من ظهورهم من يؤمن بي فيدخل الجنة" هذه هي الرحمة المهداة وعندما قيل له: ادع الله على المشركين قال: "إن الله لم يبعثني لعاناً إنما بعثت رحمة" بينما يصف مفتئتوا هذا العصر الذين صنعتهم دول البغي والاستكبار ليشوهوا الإسلام، نبينا الكريم r بالقتَّال، خسئوا، النبي r رحمة مهداة. أما بالنسبة لثقيف التي فعلت به ذلك الفعل، ثم ما لبثت أن أسلمت طواعية.
وهاجر النبي r إلى المدينة وبعد سنوات عاد إلى مكة فاتحاً... إلا أن النبي r أهدر دم عدد من الأشخاص لشدة عدائهم للإسلام والمسلمين لا يتجاوزون ستاً، ومنهم هند بنت عتبة وعكرمة بن أبي جهل الذي نكَّل بالمسلمين كما نكَّل أبوه من قبل، وفعل بهم ما فعل، وأساء ما أساء، أما هند فقد تنقبت وأتت في نسوة من قريش أتين ليبايعن رسول الله r على الإسلام فبايعته معهن، وألمحت إلى النبي r بوجودها من خلال كلامها عندما قال r: "ولا تقتلوا أولادكم" ((فقالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً )) وعندما قال: "ولا تسرقوا" ((قالت: إن كنت لآخذ من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة)) عندها قال النبي r :" أوَ هند"؟ ((قالت: أجل يا رسول الله)) أتته مسلمة، وانتهى تاريخ من الكراهية والحقد. وانتهى كل شيء حتى صرنا نقول: هند بنت عتبة رضي الله عنها، هذا هو الإسلام: يجبّ ما قبله، رحمة للعالمين وليس تنكيلاً ولا تحريقاً ولا حقداً ولا كراهية، أما عكرمة بن أبي جهل فقد ضاقت به الأرض بما رحبت، وأرسل إلى النبي r ((أرأيت إن جاء عكرمة مسلماً))؟ قال:"إذاً ينتهي كل شيء" ويأتي عكرمة ويقول أحد الصحابة: ((هذا عكرمة بن عدو الله)) فينهاهم النبي r ويمسح تاريخاً مضى كله؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله، النبي r جاء ليهدي لا ليصد، بينما بعض أبناء عصرنا اليوم من أدعياء بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية جاءوا ليصدوا لا ليهدوا، ليبثوا في قلوب الناس الكراهية والحقد، وليس بهذا بعث رسول الله r النبي r أحسن استقبال عكرمة وتاب عكرمة، وفتح صفحة جديدة يقف فيها عكرمة حصناً للدعوة الإسلامية بعد أن كان يداً لضرب الدعوة الإسلامية، حتى ولاه سيدنا أبو بكر على عُمان ثم نقله إلى اليمن، صار من أمراء المسلمين وهو عكرمة بن أبي جهل، أما صفوان فقد فرَّ من مكة عندما جاء النبي r مكة، ثم إن ابن عمه أتى إلى النبي r يسأله فيما إذا ما جاء إلى مكة، قال: "إذاً تتسع له مكة" ولكن كيف يأمن على نفسه؟ هو لم يكن أسلم بعد، كيف يأمن على نفسه وهو عدو، لأن المسلمين إذا رأوه في مكة قد يقتلونه، أرسل النبي r ضمانة لسلامته عمامته، ليضع على رأسه عمامة رسول الله r إيذاناً بأنه في أمان فلا ينبغي لأحد أن يناله بأذى، هذا هو إسلامنا، هذا هو ديننا )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( وصار صفوان من الصادقين في إسلامهم المقبلين تألفه النبي r بالهدية، تألفه بالكلمة الطيبة، تألفه بالابتسامة المشرقة، تألفه بالبشارة لا بالإنذار، ودخل صفوان الإسلام، هذه رحمته rبالناس ... وإن كانوا غير مسلمين.
ومن مظاهر رحمة النبي الكريم r بغير البشر: يقول لنا نحن المسلمين: "اتقوا الله في البهائم – لا في البشر – فاركبوها صالحة وكلوها صالحة" "إذا ذبحت أحد شفرتك" رأى أحد الصحابة يحد شفرته وقد أضجع ضحيته، فقال: "ويحك قتلتها مرتين" أين الرحمة؟ حرك الإسلام في القلوب مشاعر الشفقة مشاعر الحب مشاعر الرحمة، وقال r فيما رواه البخاري ومسلم: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت" دخلت النار لأنها بلغت بها القسوة أن فعلت هذا بهرة لا بإنسان، فكيف إذا فعل هذا بإنسان ظلماً وعدواناً ؟ كيف بمن صد عن سبيل الله وبغّض الدين إلى الناس؟ وقال r فيما رواه البخاري عن أبي هريرة t: "بينما رجل في طريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث – يأكل الثرى الرطب على طرف البئر من شدة العطش - فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له" لماذا؟ بكلب سقاه، وتلك دخلت النار بهرة أجاعتها حتى ماتت، وقال r عندما سأله بعض الصحابة عن مغفرة الله لمن سقى كلباً: "أوَ إن لنا في البهائم أجرا؟ قال:" في كل ذي كبد رطبة أجر" وحرم النبي r أن يجعل المرءُ الحيوانَ هدفاً في تعلم الرماية وقال: "لعن الله من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً" أي هدفاً يسدد إليه.
أيها المسلمون: إذا كان النبي r قد فتح ذراعيه واستقبل عكرمة بن أبي جهل وهو من أشد الناس كراهية للنبي r ورث الكراهية والحقد من أبيه، فمسح بهذه الابتسامة وبهذا الاستقبال ما في قلبه من سخيمة الحقد، وإذا كان النبي r قد صفح ونسي ما كان من هند التي لاكت كبد حمزة t عنه سيد الشهداء إذ أسلمت، وإذا كان النبي r قد أعطى عمامته أماناً لصفوان وهو من ألد الناس عداء للنبي r.
فإنا لنرفع الأكف إلى ربنا تبارك وتعالى مستشفعين بهذا النبي العظيم، وهذا النبي الكريم الذي أرسله الله رحمة للعالمين ونقول له: يا سيدي يا رسول الله إن كان صدرك قد اتسع لهند وصفوان وعكرمة ألا يتسع لنا نحن المحبين لك؟ اللهم فشفعه فينا، شفعه فينا في الدنيا، وشفعه فينا في الآخرة.
إن لنا لطمعاً ورجاءً أن يكون الرحمة المهداة رحيماً بنا وشفيعاً لنا وسببا لتفريج كربنا وسبباً لنجاتنا غداً يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين
خطبة الجمعة 2015-02-13


تشغيل

صوتي