مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 31/10/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: من معاني عاشوراء


من معاني عاشوراء
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون: يقول الله جلَّ شانه في كتابه الكريم: )إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ( وقال سبحانه: )فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ( ويقول جلَّ شأنه: )أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(
روى البخاري عن ابن عباس t قال: قدم النبي r المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: "ما هذا؟ " قالوا: هذا يومٌ صالح يوم نجا الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال رسول الله r:" فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه " وفي مصنف ابن أبي شيبة عن قتادة قال: قال رسول الله ﷺ:" صوم عاشوراء كفارة سنة، وصوم عرفة كفارة سنة قبله وسنة بعده " وقد روى مسلم: أن يوم عاشوراء كان يصومه الناس في الجاهلية قبل الإسلام، وقد أمر النبي ﷺ الناس بصيامه في المدينة حتى كان أمراً لازماً إلى أن نزلت فريضة صيام رمضان في الآيات المعروفة فعندئذٍ خيّر الناس ولم يلزمهم، بمعنى أن صوم يوم عاشوراء غدا نافلة ولم يعد فريضة.
أيها الناس: في هذه المناسبة نقف أمام هذا الموضوع في نقاط مهمة، أما النقطة الأولى فهي قضية صيام عاشوراء والأجر العظيم الذي ادخره الله عزَّ وجل لمن صامه، على أننا نقول إن الصيام عبادة عظيمة نوه البيان النبوي بشأنها كما أشار إليها البيان القرآني، فقد روى مسلمٌ عن أبي هريرةt قال: قال رسول الله r:" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عزَّ وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي" ذلك أن فرصة الإخلاص في الصيام أعظم منها في غيره من العبادات، ولذلك ولأن الصوم عبادة سلبية يمسك فيها الإنسان عن شهواته وطعامه وشرابه كانت له تلك الفضيلة والأجر العظيم، وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري t أن النبي ﷺ قال : "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً " أي كان سببا لنجاته من عذاب يوم القيامة، ونسأل الله أن يقينا النار وعذابها، فما أعظم أن ندخر لذلك اليوم وقاية من أهواله ومن ناره، فكيف إذا كان هذا الصوم مما حض البيان الإلهي عليه، أو مما حض البيان النبوي عليه، كصيام عرفة وصيام عاشوراء وصيام النوافل المعروفة كعشر ذي الحجة وغيرها، ينبغي أن نكون حريصين كل الحرص على صيام هذه الأيام، ومن الملائم أن نذكر ما قاله النبي ﷺ :" الشتاء ربيع المؤمن – أي الفصل الذي تنتعش فيه روح الإنسان المؤمن – طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه" تنشط فيه نفس الإنسان المؤمن للعبادة، لأن طول الليل يساعده على أن يقوم جزءاً منه قبل الفجر فيتهجد فيه، ولأن قصر نهاره يعينه على أن يصومه ويكتب له أجر صيامه فيكون بذلك ربيعاً مزهراً له بالأجر والمثوبة.
أيها المسلمون: إن مما ينبغي أن يستوقفنا في موضوع صيام عاشوراء ما أشار إليه النبي r من أنه سأل اليهود عن صيام يوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم نجا الله فيه موسى، فأجابهم نحن أولى بموسى منكم، نشير أولاً: إلى أن الرسالات السماوية التي أنزلها الله عزَّ وجل على الأنبياء كافة مصدرها واحد، ومضمونها الاعتقادي واحد، وهي دين واحد كما قال الله عزَّ وجل: )إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ( جميع الأنبياء نادوا بالإسلام، أي نادوا بالانقياد لله سبحانه وتعالى، ونادوا بتوحيد الله عزَّ وجل، ونادوا بالانصياع لأوامر واجتناب نواهيه، فهي عقيدة واحدة، مصدرها واحد. والأنبياء كلهم إخوة حملة رسالة واحدة دينهم واحد وشرائعهم شتى، وإنما اختلفت الشرائع لأن كل الشرائع السابقة كانت ذات صفة محلية، أو صفة مؤقتة، فكانت تلائم تلك الفترة، أو كانت تلائم أولئك القوم، فما يمكن أن يكون مشدداً على قوم قد يكون ميسراً على قوم آخرين، ألم يقل الله سبحانه وتعالى عن سيدنا عيسى في البيان: ) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( فهو تابع رسالة الله تعالى التي أنزلها على سيدنا موسى في أصلها الاعتقادي )وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ( تضمنت رسالته عليه الصلاة والسلام تخفيفاً لأحكام كانت شديدة في التوراة على بني إسرائيل، اختلف الأنبياء في الشرائع؛ لأن شرائع الأنبياء السابقين كانت ذات صفة مؤقتة ومحلية، أما رسالة سيدنا ﷺ فهي عالمية للناس كافة )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (ودائمة، فلا نبي بعد رسول الله r قال الله تعالى )وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ( وصف النبي ﷺ بأنه خاتم النبيين، فليس من نبي بعد رسول الله r ولا من شريعة ولا رسالة تعقب رسالة سيدنا محمد ﷺ، إذاً فالصلة ما بين الأنبياء صلة أخوة وتعاون كلهم كانوا يدعون إلى حقيقة اعتقادية واحدة، ولذلك وبما أن رسالة سيدنا محمد ﷺ تأكيد لرسالة الأنبياء من قبله، وأقوام الأنبياء خالفوا أنبيائهم، ولاسيما بنو إسرائيل الذين نقل الله تعالى لنا عنهم الكثير من مخالفاتهم وتجاوزاتهم على أنبيائهم حتى على نبيهم سيدنا موسى عليه السلام الذي نجاهم الله به من قهر فرعون واستعباده، ومما نالهم منه من الظلم والبغي والعدوان، ما كاد بنو إسرائيل ينجون من فرعون حتى انقلبوا إلى شرك وعبادة فيها من الضلالة ما فيها، هؤلاء الذين يدعون انتسابهم إلى سيدنا موسى كانوا يصومون في يوم عاشوراء كأثر من آثار دينهم الذي بعث به سيدنا موسى، قال: كان سيدنا موسى يصومه شكرا لله على أنه اليوم الذي نجا الله تعالى فيه بني إسرائيل من فرعون - فصامه، النبي r يقول:" نحن أولى بموسى منكم" ، لأننا نحن على الحق الذي خالفتموه أنتم، وعلى النهج الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على موسى وعيسى وإبراهيم ونوح وعلى سيدنا محمد r، فالصلة بين سيدنا موسى وسيدنا محمد وسائر الأنبياء صلة وثيقة وقوية فهم يستقون من منبع واحد وينهلون من معين واحد، كما وصف النجاشي: (إن هذا والذي جاء به موسى يخرج من مشكاة واحدة) يستضيء من منبع واحد للهداية من رب العزة جلَّ شأنه.
إذاً هذه النقطة نقف عندها لنؤكد أن العلاقة بين الرسل أو العلاقة بين جميع الرسالات التي بعث الله تعالى بها الأنبياء هي علاقة تكامل وتأكيد لمضمون الحق الذي بعث به الأنبياء جميعاً، الشرائع تختلف واختلاف الشرائع لما ذكرت حتى استقر على ما بعث به سيدنا محمد r؛ لأن رسالة سيدنا محمد r عالمية وباقية فلا رسول بعده ﷺ، هذا الخلاف لم يقتض من النبي ولا من هذا الدين أن يقهر الآخرين على اتباعه، هو ناداهم ودعاهم إلى اتباع هذا الحق وإلى اتباع هذا النور الذي بشر به جميع الأنبياء من قبل ) وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا( النقطة التي أكد عليها سبحانه وتعالى لتؤمنن به ولتنصرنه، ومع ذلك كانت معاملة النبي r ومعاملة هذا الدين لجميع أتباع الرسالات السماوية السابقة معاملة إقرار لهم ومحاورة لأن يتبعوا الحق الذي بعث به سيدنا محمد r.
بقيت نقطة مهمة أقف عندها، أرأيتم كيف أن النبي r وجه إلى مخالفة اليهود حتى في هذا الجانب، اليهود يصومون يوم عاشوراء، النبي r قال:"لئن عشت إلى قابل لأصومنَّ تاسوعاء" مخالفة لليهود، وهذا يقتضي منا أن تتميز الشخصية الإسلامية، وأن تكون ذات هوية مستقلة في سلوكها في تصرفاتها في التزامها بما بعث الله تعالى به أنبيائه، بما بعث به النبي ﷺ، اليهود شذوا عن سيدنا موسى، وبناء على ذلك فإن علينا أن نخالف اليهود فيما ساروا عليه لتتميز الشخصية الإسلامية عن غيرها، في أنها تتبع الحق، ولا ترضى أن تكون تبعاً لغيرها، ولا تبعاً لأي فئة أخرى، اليوم وقد فقدنا البوصلة، فقدنا الهوية، وصارت الأمة الإسلامية ذيلاً مهيناً للأمم الأخرى؛ تتبع الأمم الأخرى في ضلالاتها، تتبع الأمم الأخرى في أمراضها، تتبع الأمم الأخرى في خزعبلاتها وضلالاتها حتى في ثيابها وتقاليدها ومظهرها، في سلوكها وتصرفاتها. فقدان الهوية هذا انهزام حضاري، وانهزام ثقافي وانهزام فكري، الذيلية التي يأبى البعض إلا أن يرتضيها بنفسه بأن يكون تبعاً لأولئك الغربيين حتى في أمراضهم الاجتماعية، حتى في شذوذاتهم الفكرية.
يا حبذا لو أننا اتبعناهم في تقدمهم العلمي، لأن لغة العلم لغة مفتوحة للجميع، هي ليست تقليداً هي مفتاح معرفة الكون، مفتاح معرفة الكون باب متاح للجميع، أما التبعية في السلوك والأمراض الاجتماعية في الانحرافات السلوكية فهي ذيلية مهينة ما ينبغي أن نكون عليها، وينبغي أن نتميز عنهم في ذلك كل التميز لا ينبغي أن يكون الإنسان المسلم ذيلاً مهيناً للآخرين في تصرفاتهم ولا في تقاليدهم، ولا حتى في طريقة تعاملهم الاقتصادية ونحوها، اليوم اقتصادنا تبع لهم، اليوم تعليمنا تبع لهم، ويريد البعض أن تكون الأسرة التي كانت متماسكة رصينة سعيدة، يريد أن تتمزق وتنهار كما انهارت الأسرة الغربية، وكما تحطم المجتمع الغربي، هذه التبعية المهينة مرض يجب أن ننأى بأنفسنا عنه، ويجب أن نحمي مجتمعنا الإسلامي من أن يسقط في المستنقع الذي سقط فيه الغرب، كما قال النبي ﷺ :" لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، حتى لو دخل أحدهم جحر ضب لدخلتموه" ، هذه التبعية المهينة يجب أن ننأى بأنفسنا عنها، ويجب أن لا نرتضيها لأنفسنا بحال من الأحوال، علمنا النبي r أن تتميز الشخصية الإسلامية حتى بالعبادة التي قلنا نحن أولى بموسى منهم فيها، ولكن بالوقت ذاته حذرنا من أن نكون تبعاً لهم، ولذلك أضاف إلى صيام يوم عاشوراء يوم تاسوعاء أو يوم الحادي عشر لكي تتميز الشخصية الإسلامية، فإذا تميزت الشخصية الإسلامية في العبادة التي نتقرب بها إلى الله عزَّ وجل والتي أقررناهم عليها، فكيف لا نستقل عنهم في ضلالاتهم، وكيف لا نتميز عنهم في أمراضهم، وكيف لا نستقل عنهم في تفسخ مجتمعهم، اليوم يفتخر البعض في التبعية المذلة في عاداتهم فينحو نحوهم ويسقط في مستنقعهم، ويستطيب أمراضهم التي تفسخت فيها مجتمعاتهم وصارت رائحتها نتنة فيما تبعثها في فساد وانحراف وضلال.
أسأل الله أن يلهمنا السداد والرشاد وأن يرنا إلى دينه رداً جميلاً .
خطبة الجمعة 31 / 10/ 2014


تشغيل

صوتي