مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 17/10/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: إنما أنت أيام


إنما أنت أيام
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(ويقول سبحانه في كتابه الكريم :)وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( ويقول جلَّ شأنه واصفاً أهل النار: )وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ –ويأتي الجواب الإلهي- أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ(
ويقول جلَّ شأنه: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ# وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ # وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُون# أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ # أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ # أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ #بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ # وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ # وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بادروا بالأعمال ستاً، طلوع الشمس من مغربها أو الدخان أو الدجال أو الدابة أو خاصة أحدكم أو أمر العامة" وفي حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"بادروا بالأعمال سبعاً، ما تنتظرون إلا فقرأ منسياً أو غناً مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر".
أيها المسلمون: عام من حياتنا أوشك أن ينتهي وعام أطل علينا يبدأ من حياتنا إن قدر لنا أن نعيش الأيام المتبقية من هذا العام، كلنا يعلم كم مضى من عمره يستطيع أن يحصي السنوات والأشهر والأيام، أو الأكثر منا يدرك ذلك جيداً، ولكن من منا يعلم كم بقي له من العمر؟؟ كلنا يعلم كم مضى من عمره، ولكن كم منا يعلم كم بقي له من عمره، عام كامل دنونا إلى آجالنا بما أعددناه من خير أو من شر من صالح الأعمال أو سيئها، فهل وضعنا في اعتبارنا ذلك؟ يوشك أيها المسلمون أن تنتهي السنوات والأشهر والأسابيع والأيام والساعات، فنجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الأجل الذي لا مفر منه، حكم قضى به الله عزَّ وجل فقهر به عباده كلهم فقال : )كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ( إن كنت حراً يا من تنشد الحرية إن كنت حراً فحرر نفسك من ربقة الأجل، أرنا أين أنت عندما يدنو إليك الموت فتبرد أطرافك وتتحشرج أنفاسك، وتترقب آخر نفس من أنفاسك، وعندئذٍ تزدحم الأفكار والذكريات أمام مخليتك لتقول : )رَبِّ ارْجِعُونِ( لعلي أصلح ما أفسدت لعلي أتدارك ما فوت )رَبِّ ارْجِعُونِ # لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ( أجل تزدحم الأفكار والصور والذكريات لتقول هذا ما ادخرته لهذه الساعة، إن كنت حراً فتحرر من ربقة الأجل تحرر من ربقة الموت هذا الموت إذا كنت غنياً فقد مات من هو أغنى منك، وإن كنت قوياً فقد مات من هو أقوى منك، وإن كنت ذا مكانة وعزة وشأن فقد مات من هو أعظم منك مكانة وشرفاً ومضى تاركاً في الدنيا ما كان قد يظنه ميراثاً له، إن كنت صحيحاً في بدنك فقد مات من هو أكثر صحة وعافية وقوة منك، أجل الموت قدر لا مفر منه وكأس لابد لكلٍ منها أن يتجرعها عندما ينتهي عام ويبتدئ عام، هذه الصور ينبغي أن تكون أمام ناظرينا، وهذه النهاية يجب أن نضعها في حسبانها، أقول هذا لنفسي وأقوله لكل من أحب، وأقوله لكل من لا يحب، لأنه لا مفر منه لأن النتيجة التي لا مناص منها، ولو أن الأمر توقف عند الموت ولو بيع لاشتراه الكثيرون، ولكن الخطر كل الخطر هو في الموت وما بعده، في الموت والحساب، والحساب والجزاء )يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ( أجل سيندم الجميع سيندم الصالح أن لم يزدد صلاحاً وكان بوسعه، ويندم العاصي أن لم يكن قد أقلع ولم يكن قد تاب .. قبل أن يفاجئه الأجل وهو على حين غرة، في نهاية كل عام يعود التاجر إلى دفاتر حساباته وسجلات صادراته ووارداته ومصاريفه وما قد جنا أو اكتسب؛ لينظر هل هو في الرابحين أم هو في الخاسرين، فإن كان رابحاً تابع المسيرة على ما كان قد خطط في العام المنصرم وطور عمله على النهج نفسه، أما إن كان خاسراً فسوف يعيد النظر في خطة عمله كلها، التاجر يستطيع أن يستدرك في العام القادم، وأنت وأنا ينبغي في نهاية عام من حياتنا أن نلتفت إلى الوراء فننظر ماذا قدمنا )وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ( فلتنظر كل نفس ما قدمت لغد، هنا العناد غباء، والمكابرة حماقة لأنه يكابر على نفسه وعلى حساب مصيره، فإنه الجنة أبدا أو النار أبداً، المكابرة أرني إياها وأنت ممد على فراش الموت وقد بردت منك الأطراف وتحشرجت منك الأنفاس، عندئذٍ قلي : أنا مصرٌ على ما كنت عليه، والله لن تقولها ولن تقول )إلا رَبِّ ارْجِعُونِ # لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ( أياً كنت فقيراً كنت أم غنياً، قوياً كنت أم ضعيفاً مريضاً كنت أو صحيحاً لابد أن تقول تلك الكلمة، لماذا لا ننظر إلى غروب الشمس كل يوم من حياتنا أنه جزء منا قد مضى إلى الله ليشهد لنا أو يشهد علينا بما ملأنا به بياض نهارنا وسواد ليلينا ؟؟ لماذا لا نفكر فيما قاله السلف الصالح: (يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما مضى يوم نقص بعضك، ويوشك أن تنتهي الأيام فتنتهي) ... إلى حصاد الأيام لتجني ما زرعت وتنال جزاء ما فعلت، فإن كنت قد أحسنت فهنيئاً لك بما أحسنت، وإن كنت قد أسأت فتب قبل فوات الأوان وعد إلى مولاك فقد ناداك وقال: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(، يغفر الذنوب جميعاً إذا كانت بينك وبين الله غفرها الله لك، ولكن إذا كانت بينك وبين الخلق، كيف لك أن تبرئ الذمة، كيف لأولئك الذين يسفكون الدماء أن يبرئوا الذمة إذا وقفوا بين يدي الله وأول ما يسأل العبد يوم القيامة من حقوق الخلق الدماء، وإن كنت قد تعديت على أموال الناس فلن تنجو هناك إلا برد الحقوق إلى أصحابها، وهناك لا يوجد مال، " أتدرون من المفلس؟ "قال الصحابة: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال:"إن المفلس من أمتي من يأتي بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد ضرب هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار" إن الحسابات المتداولة في يوم القيامة ليست الليرة ولا الدولار، وإنما حسناتك يا من أنت اليوم في أشد الحاجة إلى حسنة، إلى معروف صغير لعل الله يجعله سبباً في رحمتك، أما إذا كنت قد أتيته مثقلاً بأوزار من حقوق الخلق فأنى لك النجاة؟ أنى له النجاة إذا كان قد اعتدى على دماء الناس؟ أنى له النجاة إذا كان قد اعتدى على أموال الناس؟ أنى له النجاة إذا كان قد اعتدى على هذه الأمة، على دماء هذه الأمة على تراب هذه الأمة، إذا خان هذه الأمة فتعامل مع العدو على حساب أهله وعلى حساب وطنه وعلى حساب إخوانه وجيرانه، قدم الولاء للعدو وتخلى عن أخيه وأمه وأبيه وعرضه ودينه أيضا، لأن من كفر بحق الله عزَّ وجل بذلك كله فقد تخلى عن دينه، يقول:) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( ويتوب الله على من تاب، ولعل من ظلم نفسه فندم فتداركته رحمة الله عزَّ وجل إذ ندم، فإذا صدقت ندامته فلابد أن يرضي الله له خصومه، نعم قد ينتقم منه، ولكنه في نهاية المطاف يؤمل له النجاة، أما إذا مات مصراً فليعد العدة للموقف الخطير بين يدي قيوم السموات والأرض .
خطبة الجمعة 17-10-2014


تشغيل

صوتي