مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 26/09/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: كيف نغتنم هذا العشر


كيف نغتنم هذا العشر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله تعالى في كتابه الكريم ) وَالْفَجْرِ # وَلَيَالٍ عَشْرٍ # وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ # وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( ويقول سبحانه: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( ويقول جلَّ شأنه: ) وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ # فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( وروى مسلم والترمذي والطبراني وغيرهم عن معقل بن يسار أن النبي r قال: "العبادة في الهرج –وفي رواية في الفتنة– كهجرة إلي" وروي بأسانيد صحيحة ومتعددة عن جابر بن عبد الله وغيره ، عن النبي r أنه قال :"ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة وفي رواية ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله من العمل في هذا العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله في سبيل الله ولم يرجع من ذلك بشيء" وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته "
أيها المسلمون: أكرمنا الله عزَّ وجل فمد لنا في العمر إلى هذا العشر الذي تتوافد فيه ضيوف الرحمن إلى بيته، إلا بالنسبة لبلدنا هذا فهو مستثنى، فقد عوقب أبناء هذا الوطن من قبل السلطات الغاشمة فحرموا من الحج إلى بيت الله الحرام، لكن رحمة الله أوسع من أن تحد في زمان أو أن يحدها مكان، فهو معكم أينما كنتم، وإذا ذكرت الله عزَّ وجل كنت مع الله وفي الحديث القدسي: "وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملأه " أجل ضيوف الرحمن هنا يفدون إلى بيوته حيثما كانوا فيذكرونه ويذكرهم، ويستعيذون به فيعيذهم ويلتجئون إليه فيحميهم، نعم العبادة ليست منحصرة بزمان ولا مكان، العبادة تكمن في سر الإخلاص، فإذا كان قلبك مخلصاً لله عزَّ وجل كنت معه وكان معك حيثما كنت، وهذه أيام العشر فرصة للمقبلين على الله عزَّ وجل، كيف ونحن نعيش في حالة قاربت السنوات الأربع نعاني فيها من فتنة سوداء هاجت رياحها الصفراء على بلادنا وبلاد أخرى إلا أنها حطت رحالها في بلادنا لتفعل فيها ما نرى ونسمع، وفي هذه الحالة عندما تطوف الفتنة في بلد وتموج أمواج الهرج – أي القتل وسفك الدماء- في بلد ما؛ ليس لنا من ملجأ من نار هذه الفتنة ورياحها العاتية إلا أن نلتجئ إلى الله عزَّ وجل ونلوذ بحماه ونعتصم به سبحانه وتعالى فنحن ليس لنا من مفر إلا إلى الله. والله يقول )فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ( نفر من ذنوبنا إلى رحمته، ونفر من بلائنا إلى عظيم فضله وإحسانه وفرجه، نفر منه إليه من قضائه إلى رحمته ومن عقابه إلى عفوه ومن الشدة التي تطوف بنا إلى الرخاء الذي لا يملكه سواه، ولذلك بيّن النبي r أن العبادة في الهرج أو في الفتنة كهجرة إلى رسول الله r، إذا أردت أن تكون في ميزان الله عزَّ وجل في المكانة التي تبوأها الصحابة الكرام الأجلاء الذين فروا من فتنة الشرك في مكة، من وطأة فتنة أبي جهل وأبي لهب وعقبة ابن أبي معيط وغيرهم من صناديد الشرك... إذا أردت أن تفر من الفتنة التي تطوف ببلدك كما فر أولئك من فتنة في دينهم وفي أجسادهم وأعراضهم وأموالهم، إذا أردت ذلك فما عليك إلا أن تلوذ بمحراب العبادة والعبودية لله عزَّ وجل، والعبادة في أيام الفتنة إدراك صحيح لطريق المخرج من الفتنة التي تطوف بنا، خلاصنا من هذه الفتنة ليس بقوى البغي التي تطوف هنا وهناك، ليست بتلك القوى الضاربة التي يظن البعض أن فيها ملاذاً لنا من هذه الفتنة، لا ملاذ لنا من معصيتنا إلا إلى عفوه، ولا ملاذ لنا من نتائج معصيتنا إلا باللجوء إلى بابه إلا بالتوبة إليه إلا بالعودة إلى عبادته إلا بالانصراف الصحيح عن نهج الشذوذ والضلال والانحراف والمعصية إلى نهج الطاعة إلى باب التوبة إلى العبادة إلى )فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ( أجل إلى باب الله عزَّ وجل فهو الطريق للفرج مما نعاني منه، وللتخلص من معاناتنا ومن الفتنة التي تطوف بنا.
إذا أردت أن تكون بمثابة أولئك الصحابة الكرام مصعب بن عمير وعبد الله بن مسعود وبلال الحبشي وأبي بكر الصديق عمر بن الخطاب كل أولئك الذين هاجروا من مكة إلى المدينة إلى حيث كان رسول الله r متجهاً لبناء دولته ولإنشاء مجتمع قائم على العدل والتراحم فما عليك إلا أن تهجر المعاصي وتلوذ بالعبادة، إلا أن تهجر الشذوذ والانحراف وتلوذ بباب الله عزَّ وجل بالطاعات التي يتقرب بها إلى الله عزَّ وجل ويرضيه منك أن يراك عليها من عبادات وطاعات واستغفار وإنابة، العبادة في الهرج كهجرة إلى رسول اللهr وهل أعظم من الهجرة إلى رسول الله إلى باب الله إلى أعتاب الله عزَّ وجل!
أيها المسلمون: إن الدعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى والإكثار من طاعته تعددت وتكررت في كتاب الله وسنة رسوله، ومن أجمع ما ورد في هذا الصدد الحديث القدسي الذي أوردته قبل قليل، يقول الله عزَّ وجل: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" الذين يعادون أولياء الله ...عباد الله المعتصمين بحبل الله المتمسكين بهدي الله المتمسكين بسنة رسول الله في وقت الفتنة وغير وقت الفتنة؛ الذين يحاربون أولياء الله فإن أولياء الله لن يستنصروا بأميركا ولا بغيرها، إنما يستنصرون بالله وحده، لن يستنصروا بقوىً هنا وهناك بل سيستنصرون بالله وحده والله ناصرهم، قال: فقد آذنته بالحرب، الحرب التي ستشن على أعداء الله الذين نشروا الفتنة في أرجاء هذه البلاد وغيرها من البلاد حرب من الله. هم قد بارزوا رب العزة جلَّ شأنه، والذي سيتولى أمرهم عقاب إلهي لابد أن يحيق بهم بأيدي عباد الله أو بسابقة من تأييد الله سبحانه وتعالى لأوليائه، ولن يكل الله عزَّ وجل عباده الذين لاذوا ببابه ودعوا في الظلمات اللهَ واستغاثوا به واستجاروا بأعتابه إلى غيره .. أولئك الذين ظلموا واعتدي عليهم في هذه الفتنة لن يجدوا ملجأً إلا على باب الله والله ناصرهم والله مؤيدهم.
كيف يمكن أن يكون شأننا صحيحاً وقويماً وسليماً في هذا العشر؟
أولاً: أن لا ننساق وراء الناعقين بصيغة أو بأخرى لتأجيج الفتنة في هذه البلاد والاستجارة بأعداء الله على عباد الله فيها، بأن نتوب إلى الله وبأن نصحح تصرفاتنا.. أن نصحح معاملاتنا أن نصحح علاقتنا مع أهلينا وإخواننا وجيراننا وأبناء وطننا، أن نتخلق بالأخلاق الإسلامية في تعاملنا مع بعضنا، أن نحافظ على حقوق الله وأن نحافظ على حقوق الخلق. فالتوبة الصادقة إلى الله عزَّ وجل من كل الذنوب ومن كل الأوزار، ومن إساءة الظن بالله، ومن الإعراض عن هدي الله وسنة رسول الله في المواقف، وفيما ينبغي أن يفعله الإنسان في أيام الفتنة من الإعراض عنها وعن أهلها والاعتصام بحبل الله عزَّ وجل، التوبة إلى الله عزَّ وجل من أخطائنا التي ارتكبناها في حق بعضنا، في حق وطننا في حق أمتنا في حق فلسطين في حق قضايانا، في حق أسرتنا من زوجة وولد وأخت وأخ ورحم وجار، في التوبة إلى الله عزَّ وجل من كل تجاوز ارتكبناه في حق هؤلاء جميعاً، والله سبحانه وتعالى يقول: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا # يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا #وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا( إذا أردتم السعة في العيش والبركة في الرزق والخلاص من نار هذه الفتنة فإن أول خطوة ينبغي أن نخطوها جميعاً هي التوبة إلى الله، هي اللجوء إلى باب الله، هي الاعتصام بنهج الله وليس بنهج الفتنة ولا بالظلم الذي نمارسه في ليلنا ونهارنا في حالنا نحن اليوم.
الأمر الآخر: الإقبال على الطاعات والإقبال على الطاعات يبدأ بالإقلاع عن المعاصي " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه " الإقلاع عن المعاصي والتزام الفرائض وحسن أدائها، ثم نضيف إلى ذلك الرواتب ونلتزم بها، ونضيف إليها النوافل ونحرص عليها، ونكثر من ذكر الله والاستغفار وتلاوة القرآن مع التدبر، فمن كان مكثراً لتلاوة القرآن مع التدبر أشرقت أنوار محبة الله في قلبه، وكان بذلك يستنير بمصباح الهداية في حياته.
الأمر الآخر الإكثار من التصدق وبذل المستطاع من مال ومتاع لذوي الحاجة، والسعي بالنهوض بحاجات الناس بشتى الوسائل المتاحة التي من شأنها أن تنهض بشأن أبناء وطننا أبناء أمتنا، يعاني الناس اليوم من بطالة، يعاني الناس من فقر وضنك. ولاشك أن من بحث عن مخرج لن تعجزه الحيلة ، وإذا كان النبي r بعد الهجرة إلى المدينة قد قال لأصحابه: " من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لازاد له ، ومن كان عنده فضل أرض فليعد به على من لا أرض له " وعدد أصنافاً من المال يقول الصحابي : " حتى ظننا أن لا حق لأحد منا في فضل من ماله " ولئن كان هذا أمر رسول الله r لأصحابه بسبب الشدة التي لحقت بهم، فإن الشدة التي يعاني منها أبناء مجتمعنا اليوم لعلها لا تقل شدة عن تلك الأيام، ولن تضيع أمة تراحم أبناؤها، فالراحمون يرحمهم الرحمن، أما قساة القلوب فلن يجدوا رحمة من الله عزَّ وجل بشأنهم، من قست قلوبهم على إخوانهم فاستغلوا حاجتهم فدفعوا بهم إلى الاضطرار هؤلاء مسؤولون بين يدي الله عزَّ وجل. وهنا لا بد أن تغص الكلمات في حلقي وأنا أتذكر أولئك الذين دفع بهم أهل الفتنة إلى الخروج من وطنهم ليتشردوا هنا وهناك، زينوا لهم الخروج من وطنهم ليصوروا للأمم والناس أن سوريا في شر، وأنها في طغيان وأنها في كذا وكذا، هم أشعلوا النار ثم الذين دفعوا بالناس للخروج من وطنهم فضيعوا أعراضهم وضيعوا دماءهم، ورموهم في البحار وساقوهم إلى المهالك، اسمعوا ما يجري في مخيم الزعتريّ، اسمعوا ما يجري في شوارع بيروت، انظروا ما يجري هنا وهناك في شأن أبناء أمتكم أبناء وطنكم أبناء بلدكم، سوّل لهم أولئك الأوغاد الخروج من بلدهم ليضيعوا هناك؛ ومن ثم تضيع أعراضهم، ثم مضوا يستغيثون من الذي يستغيث؟ هم الذي دفعوا بهم إلى الخروج إلى الضياع إلى الركوب في البحر والغرق فيه ثم يرفعون عقيرتهم بالاستغاثة، في كل يوم نسمع بزورق قد غرق ركابه، ما الذي دفعهم لذلك ها نحن نعيش في وطننا بخير و لله الحمد، لن تحرق الفتنة إلا من تعرض لها، إلا من انساق وراءها، ونحن إذا اجتنبنا الفتنة سيجنبنا الله عزَّ وجل نيرانها، أما إذا انساقت نفوسنا وراء أولئك الناعقين فسوف نحترق بنارهم وسوف يؤدي بنا الأمر إلى ما أدى به أولئك الذين ضاعوا هنا وهناك. سلوا عن مصيرهم وانظروا إلى ما أصابهم إن الإنسان ليتمزق حزناً على أولئك الضحايا بمقدار ما يتميز غضباً وحنقاً على الذين سولوا لهم الخروج والتشرد هنا وهناك.
أيها المسلمون: إننا نبحث عن مخرج، وهذه الأيام أيام فضل ورحمة أيام عبادة أيام طاعة أيام تقرب إلى الله عزَّ وجل، أسأل الله عزَّ وجل أن يجعلها سبباً للفرج عن البلاد والعباد، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعقب هذه الأيام بعيدين، عيد الأضحى وعيد الفرج إن شاء الله عزَّ وجل.
أيها المسلمون: مادام الظلم شائعاً فيما بيننا فلابد أن يحصد الظالمون في حياتهم شقاءً وتعاسة ومرارة ظلمهم، فظلمهم ليس إلا سموماً يتجرعونها ثم ينالون مرارتها ومهالكها، يقول الله عزَّ وجل في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " الظلم ظلمات يوم القيامة، والظلم مهالك في الدنيا أيضاً، فاتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العشر عشر إنابة إليه وتوبة إليه واصطلاح معه، وعشر فرج وسعة وبركة وقبول عند الله عزَّ وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين
خطبة الجمعة 26-09-2014


تشغيل

صوتي