الدكتور محمد توفيق رمضان
الخطيب:
التاريخ: 29/08/2014
خطبة الدكتور توفيق: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بعد قوله في بداية الآية الأولى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ... قال: )إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا( وقال سبحانه:)فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( وقال جلَّ شأنه: ) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( وروى البخاري عن ابن عمرt قال: سمعت رسول الله r يقول: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع ومسؤول عن رعيته" وفي رواية زاد "والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته" وقال أنس بن مالك t: " خطبنا رسول اللهr فقال:" لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن عهد له " وقالr:" إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عزَّ وجلّ يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب – ليس من ضرورة الغنى أن يكون صاحبه محبوباً عند الله، فقد يعطي الله الدنيا لمن لا يحبهم من الناس - ولا يعطي الدين -بكل معانيه - إلا لمن أحبه الله فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبدٌ حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا رسول الله؟ قال: غشمه وظلمه. ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه ولا يترك خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث"
أيها المسلمون: مع المرحلة الجديدة من حياة أمتنا كلنا يفكر كيف نتجاوز آلامنا ومشاكلنا وأزمتنا؟ إن تجاوزها لا يكون إلا بالإصلاح، لا يكون إلا بالعودة الراشدة إلى الله، لا يكون إلا بالتوبة الصحيحة النصوح، لا بالتمادي في المعصية، ولا بالاستغراق بالظلم، فما أصابنا إذ أصابنا إنما أصابنا بما كسبت أيدينا، أقول هذا لكل فرد من أبناء مجتمعنا في أي موقع كان، كلنا ينبغي أن يعود إلى ذاته فيحاسب نفسه ويتأمل صفحة أعماله، لأنه ما أصابنا من مصيبة في قانون الله عزَّ وجلّ إلا بسبب معصية ارتكبت منا، وبالإخلاص لله تعالى يمكن أن نتجاوز الأزمة، وبالتوبة والإصلاح الحقيقي في حياتنا؛ كلٌ في حياته: في بيته في سوقه في متجره في مصنعه في دائرته هو مسؤول عن الإصلاح، لأننا جميعاً رعاة وليس المسؤول الأول وحده راعياً، بل كلنا رعاة وكلنا مسؤول عن رعيته، هو المسؤول عن الأمة كلها ومسؤوليته إنما تنعكس عن مدى تحملنا لمسؤولياتنا نحن، ولن يجعل الله تعالى المتقين له في سعيهم وإخلاصهم كالفجار والمفسدين. إن تجاوز الأزمة لا يكون لا بالإصلاح، بإصلاح الفرد لأسرته، وبإصلاح المؤسسة، وبإصلاح الدائرة، وبإصلاح المعاملات المادية والاجتماعية، بالإصلاح بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، بأن يعود المجتمع إلى نفسه فيضع حداً لكل من يبغي الفساد في الأرض، وهي مسؤولية مشتركة بين الفرد والمجتمع، وبين المجتمع وقيادته فكلنا شركاء في المسؤولية كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول" أي رئيس الدولة والمسؤول في دائرته أو مؤسسته راع "ومسؤول عن رعيته" وأنت في بيتك راع ومسؤول عن رعيتك، لا تُسائل من هو أعلى منك لأن موقعه إنما هو انعكاس لموقعك، وإصلاحه إنما هو ثمرة لإصلاحك، ابدأ بنفسك وانظر إلى وضعك وإلى بيتك وإلى دائرتك، إلى أسرتك إلى مدى رعايتك لأبنائك وبناتك وزوجتك، إلى مدى رعايتك لنفسك... إلى اللقمة التي تكسبها إلى العمل الذي تؤديه.. إلى سلوكك الشخصي.. فكلنا عاصٍ وكلنا مقصر، وإننا لئن صدقنا مع أنفسنا ليكونن لذلك أثره في مجتمعنا وأثره في حياتنا، وأثره في إزاحة كابوس الأزمة عن صدرنا وعن وطننا بإذن الله عزَّ وجلّ، والقانون الإلهي في هذا واضح.
هناك من يستثمر الأزمة لنفسه ويتمتع بالأزمة لأنه يجعلها متجراً له، ووسيلة لاستغلال الضعفاء لصالح جيبه، ولصالح أنانيته، أمثال هؤلاء الطفيليات في مجتمعنا هم جزء من الأزمة. وكما قالوا الأزمة في بلادنا وفي أمتنا أزمة أخلاقية، قبل أن تكون أزمة سياسية أو عسكرية أو أمنية. الأزمة في مجتمعنا أزمة أخلاقية تبدو في كل موقع من مواقع وطننا، في كل جزء من أجزاء وطننا وفي كل فريق وطيف من أطياف أمتنا. وما لم تبدأ المعالجة من الفرد بذاته إلى أسرته إلى حيه إلى دائرته لن نستطيع الإصلاح.
أقول: نحن أمام مرحلة جديدة وزارة جديدة وحكومة جديدة؛ ترى هل يعني ذلك أن ولادة جديدة ستغير الأمور بعصاً سحرية؟ هذا الأمر ليس من قوانين التغير في الكون كله، وليس من شأن البلاد أن يتغير بتغيير حكومة أو وزارة، إن المسؤولية يتحملها كل فرد وكلنا شركاء فيها، إن على من كلف بأمانة أن يكون أمنياً عليها أياً كان موقعه، المدير في مدرسته والمدرس في صفه والموظف في دائرته، والوزير الذي يرعى هؤلاء جميعاً هو مسؤول مسؤولية كبيرة، ولكنه لن يستطيع أن يغير مالم يتغير الموجودون تحت سلطانه، مالم يغيروا هم بأنفسهم ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ( ما قال في مجتمعهم قال بأنفسهم؛ لأن المجتمع ما هو إلا أفراد والفرد إذا لم يصلح لم يصلح المجتمع، لذلك فإننا بمقدار ما نقول إننا أمام هذه المرحلة الجديدة نطالب أو ننتظر ونتوقع من هؤلاء الذين كلفوا بحمل مسؤولية هذا الوطن أن يكونوا أمناء على مسؤولياتهم، نقول: إن تحملهم مسؤولياتهم هو انعكاس لمدى تحملنا نحن لمسؤولياتنا، لا شك أنهم يُحمَّلون مسؤولية كبيرة وعبءاً عظيما سيسألون عنه يوم يقفون بين يدي الله عزَّ وجلّ، ولكم تنصل أناس كلفوا بولايات أو بمناصب بعذر واحد هو أنه عاجز، أنها مسؤولية كبيرة أكبر من حجمه، أمثال هؤلاء إن كان اعتذارهم خشية لله عزَّ وجلّ فهم يكافؤون على اعتذارهم، وإن كان تهربا من المسؤولية فسيحاسبون على تهربهم، أما من تحمل المسؤولية فعليه أن يتحملها بكل أمانة وبكل صدق. وعلى الأمة أيضاً أن تساعد هؤلاء على تحمل مسؤولياتهم، إننا ينبغي أن نعرف بداية الطريق، بداية الطريق بالتوبة إلى الله بالرجوع إلى الله بمحاسبة أنفسنا، فكلنا يدرك لو أنه صدق في تأمله وفي محاسبة نفسه يدرك جيداً أن ما أصاب الأمة إنما هو بسبب ذنوبها، بالظلم الذي ظلموا به بعضهم، وبتخليهم عن مسؤولياتهم عن أبنائهم وبناتهم، وبتهربهم من مسؤولياتهم حتى عن أنفسهم، لئن كانت المسؤولية أمام الدولة وأمام القضاء وأمام المسؤولين المباشرين عنك.. هذا أمر سهل تستطيع أن تخدع وتستطيع أن تتنصل وتستطيع أن تتلاعب وتتهرب من المسؤولية، ولكن ألم يعلم بأن الله يرى الأمر بين يدي الله عزَّ وجلّ أخطر، ولن يفلت من قبضة الله عزَّ وجلّ أحد )يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ( إن سياط التأديب التي تلهب ظهور الناس اليوم سياط رحمة إذا ما استيقظوا؛ لأنها من شأنها أن تردهم إلى صوابهم وإلى رشدهم، أما الذين يتمادون في الفساد والظلم )وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ( هؤلاء يحفرون قبور سعادتهم بأيديهم، وسيصل بهم الأمر إلى شقاء وندامة ما مثلها شقاء وندامة، إن الذين يستثمرون أزمة لأنفسهم بشكل أو بآخر سوف يؤدي ذلك بهم إلى شقاء ما مثله شقاء. فليتقوا الله في حق أنفسهم قبل أن يتقوا الله في حق مجتمعهم ، فهم في الحقيقة إنما يحفرون قبر سعادتهم بأيديهم.
ولنتأمل وصية عمر بن الخطاب t بعد فهمنا لحديث النبي rعندما قال:"إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ " نحن نشكو مساوئ كثيرة من مؤامرات أتت إلينا من الخارج وفساد ظهر عندنا في الداخل وأمور كثيرة كلنا يطلع عليها، ومعاناتنا اليوم قد تكون أشد منها في الأمس. نحن اليوم نعاني، وإن كنا نرى أن آفاق الخير قد بدأت، إلا أنه لا ينبغي أن يكون ذلك سبباً لغفلة في أنفسنا عن خطورة المستقبل، إن ما أصابنا كما هو واضح إنما أصابنا بفسادٍ سرى في مجتمعنا في علاقاتنا في أوساط حياتنا، وإننا إذا ما أردنا أن نعود إلى حالة الطمأنينة والسعادة والاستقرار وبركة العيش والأمن والأمان التي كنا نتمتع بها قبل سنوات؛ فإننا ينبغي أن نحفظ هذه القاعدة التي بينها النبي r في حديثه الذي سبق أن قرأته عليكم قال: " إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، والخبيث لا يمحو الخبيث" لذلك ينبغي أن تكون الأمة كلها يداً واحدة في مواجهة السيئ والخبيث، في مواجهة من يستثمر الأزمة لأجل ذاته من أجل أنانيته، وهنا أذكّر بنصيحة سيدنا عمر بن الخطاب عندما خاطب جيش سعد بن أبي وقاص المتوجه إلى بلاد العراق ليضرب طغيان كسرى وظلم أولئك الذين ظلموا الأمة ليمحوا ظلمَهم بعدالة الإسلام ونور الهداية قال: ( أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله في كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو – أجل، أفضل سلاح نواجه به أزمتنا هو تقوى الله عزَّ وجلّ، نقول هذا للناس في الحياة المدنية وفي السلك الأمني، وفي الجانب العسكري وفي كل أطياف مجتمعنا، نقول: إن تقوى الله أعظم سلاح في مواجهة أعداء هذا الوطن وأعداء هذه الأمة- قال: فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم _ المعصية عدو أشد من عداء داعش وغير داعش – فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم – وذنوب الشعب أيضاً، المسألة عامة كما سبق أن أشرت – وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله – سبب انتصارنا على أعدائنا أننا مطيعون لله وأنهم عصاة مستكبرون على الله، فإذا ستوينا في المعصية – قال: ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان الفضل لهم علينا بالقوة وإن لا نُنْصَر عليهم بفضلنالم نغلبهم بقوتنا - إذا لم ننتصر على عدونا بصلاحنا بتقوانا بالعدالة بالخير بالإصلاح، فلن ننتصر عليهم بقوة لأن قوتهم في حربهم الكونية التي شنت على بلدنا فهم أقوى مادياً وأقوى عسكرياً، ولكننا والله لن نغلب أمام عدوٍ غاشم كان سلاحه المعصية والاستكبار في الأرض، إذا كنا نحن مؤمنين صالحين متقين لله عزَّ وجلّ – واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون – إيقاظ رقابة الله في القلوب، راقب الله في قلبك - فاستحيوا منهم - )مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(- ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله – نحن اليوم في أزمة نواجه أعداء كثر فلا ينبغي أن تكون مواجهتنا لهم مترافقة لهم بمعصية الله عندئذ لن ينصرنا الله لأن الله تعالى يقول: )إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ( - ولا تقولوا إن عدونا شرٌ منا فلن يسلط علينا، وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سَلّط على بني إسرائيل - لما عملوا بمساخط الله كفار مجوس )فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم.
اللهم انصرنا على أنفسنا لننتصر على عدونا ولنتجاوز محنتنا إنه سميع مجيب
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 29-08-2014
تشغيل
صوتي