مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 22/08/2014

خطبة الدكتور توفيق: الأخلاق سبيلنا لتخلص من المِحن


الأخلاق سبيلنا لتخلص من الِمحن
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ويقول سبحانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( ويقول جلَّ شأنه: )وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ(
روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر"، وروى الحاكم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وقال صلى الله عليه وسلم :" لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له" ، ويقول صلى الله عليه وسلم :"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره " ويقول:"من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة "
أيها المسلمون: عندما يتأمل إنسان في أوضاعنا هذه، في عوامل النصر وأسباب الهزيمة، وفي مفتاح تجاوز ما نحن فيه من آلام ومحن وشدائد طافت بالأمة كلها وتركت ظلالها في كل أوصال هذه الأمة، ينبغي أن تعود إلى ذاتها فتقرأ دستور النصر والهزيمة، وتقرأ مفتاح السعادة والشقاء في حياتها وحياة الأمم. إن ضعف الأمة خطِر، ولكن الأخطر من ذلك انحرافها الأخلاقي بشيوع الأنانية والخيانة بين أبنائها؛ لأن ذلك يؤذن بزوالها ولو كانت مسلمة، والأمة تستطيع أن تتجاوز ضعفها بأخلاقها وتعاطف أبنائها وتعاونهم وتمسكهم بحقوق بعضهم والمحافظة على حقوق بعضهم، وهذا سبب لانتصار الأمة وقوتها وإن كانت غير مسلمة. فهناك نظم للحضارة ومفاتيح لازدهار أمة ما من الأمم، والله تعالى يقول: ) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا( سعادة الآخرة لا تكون إلا بالإيمان، أما نجاح الحياة الدنيوية فله أسباب من أبرزها: الصدق والأمانة والتعاون الانضباط بحسن السير والنظام، انتصار الأمة يوم ولادة الدولة الإسلامية الأولى تجلى في مظاهر من أبرزها ما وصفهم الله عزوجل به )يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( بهذه الأخلاق بنى النبي صلى الله عليه وسلم أمة استطاعت أن تفتح أبواب التاريخ لولادة حضارة لا نزال نتفيأ ظلال بقاياها إلى يومنا هذا، ولا نزال نتمتع بعزتها وبآثار انتصارات أولئك الذين صنعتهم الدعوة الإسلامية في الصدر الأول إلى ساعتنا هذه، وما اجتماعنا في هذا المكان من بلاد الشام، وما اجتماع المسلمين في أقصى الشرق وأقصى الغرب إلا من آثار ذلك الصدق، ومن آثار تلك الأخلاق، ومن آثار ذلك الإخلاص، ومن آثار ذلك الإيثار الذي كان قد تجسد في تلك الأمة التي صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليها الله عزوجل عندما قال: )وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( لو أننا تأملنا واقع التاريخ المعاصر: دولٌ مسلمة وغير مسلمة تجاوزت ضعفها مع شدة ما تعرضت له من مصائب، ولعلنا إذا تأملنا أساب انتصارها وتجاوزها لضعفها لوجدنا أنه يتمثل في تضامن أبنائها، وأنه قد شاع فيها خلق الإيثار والأمانة والتعاون والإخلاص فيما بين أبنائها، هي علمت أن الفرد لا ينتصر إلا من خلال الجماعة، وأنه لا يمكن أن تكون سعادته على حساب سعادة الآخرين، سعادته بسعادة الآخرين، وشقاؤه بشقاء الآخرين، من ظن نفسه أنه يستطيع أن يستأثر بالسعادة دون غيره حفر لنفسه قبر سعادته، ودفنها في ذلك القبر وانتهت سعادته وخسرها. ومن ظن أنه بالأنانية يمكن أن يصل لن يصل إلى خير ولن ينتصر أبداً، تعالوا نتأمل أمماً أودت بهم الهزيمة، ووقعت فيهم المصائب حتى انهارت وصارت دماراً كانت مظهراً للتخلف والهزيمة ثم تجاوزت ذلك كله، وها هي اليوم تقف على قدميها، وهذا قانون نجده سائداً في الأمة المسلمة وغير المسلمة، أنا لن أذكر إلا أمثلة قليلة وسأبدأ بأمة مسلمة، ولعل ذكري لهذا المثال يمكن أن يكون موضع جرح للمشاعر – مشاعرنا جميعا – وسببا لأثر يعتصر ألم القلوب كلها: غزة تلك البقعة الصغيرة التي تزدحم بأولئك الذين حوصروا وخذلوا، واعتدي عليهم، وخنقوا اقتصادياً وخنقوا من جميع الجوانب التي يمكن أن تعتبر أساساً لحضارة أو لحياة مقبولة، غزة هذه حجة على الأمة كلها، ذلك البلد الصغير في حجمه في عدد أبنائه في مساحته في إمكاناته يتحدى طغيان أميركا وإسرائيل في آن واحد، ولئن أصابهم ما أصابهم فبخذلاننا لهم لا بسبب ضعفهم، أمة صَنَعتْ، بأخلاقها وبتعاون أبنائها وبتماسكها وبإخلاصها وجودها وبإيمانها الذي أنتج ذلك كله صنعت وجودها؛ فاستطاعت أن تواجه أكبر متسلط متجبر في المنطقة وتواجهه بقوة وبأس حتى أدمت قلبه، ولئن أصاب ذلك البلد شيء من الأسى أو شيء من الجراح فبسببنا نحن لا بسببه، غزة استطاعت وهي محاصرة تعاني الجوع والحرمان والخذلان، استطاعت أن تصنع أسلحة تواجه بها أكبر ترسانة للأسلحة في المنطقة كلها واستطاعت أن تبني لنفسها اقتصاداً على شحه وضعفه وفاقته ومحاصرته استطاعت به أن تواجه مصاعب الحياة التي فرضت عليها، أما الجراح فبسببنا نحن بسبب تخاذلنا، بسبب أننا أعطينا ظهورنا لهم وواجهنا بعضنا بأسلحتنا وواجهنا بعضنا بقوتنا بدلاً من أن نواجه عدونا بتلك القوة، انظروا إلى أولئك الذين كانوا يجاهدون ولا يزالون يرفعون عقيرتهم بالجهاد، أسلحتهم أين هي؟ وهل تذكروا فلسطين؟ وهل تذكروا غزة؟ أم أنهم يتآمرون على فلسطين وغزة بآن واحد، ويقايضون بخذلانهم وتخليهم عن القدس وعن فلسطين مقابل أن تساعدهم دولة الإجرام في مواجهة أوطانهم وأبناء أمتهم، وهذا أمر لم يعد خفياً.
الصين واليابان مثالان لدولتين غير مسلمتين أودت بهم الحروب والضعف والفاقة إلى حالة من الضعف، وها هما: اليابان والصين تتحديان أكبر القوى في العالم بصناعتها باقتصادها بتجارتها وبتقدمها العلمي، وأضرب مثالاً آخر مسلماً :إيران دولة مسلمة قد تكون مختلفة معنا في المذهب، كانت محاصرة ومقاطعة ومحاربة، حوربت منذ اليوم الأول من وجودها، واجهت ذلك الحصار بإرادة التحدي في مواجهة ذلك الحصار واستطاعت أن تصل اليوم إلى تقدم علمي وتقني يفرض على الأمم أن تقف معها على طاولة المفاوضات لتضع حداً لتقدمها في مجال الطاقة النووية وغيرها، تقدمت طبياً وتقدمت صناعياً وتقدمت زراعياً وتقدمت في جميع جوانب الحياة، بعد انهيارٍ فُرض على اقتصادها وعلى مواردها الاقتصادية.
إنها قوانين رسمها الله عزوجل لتطور هذه الحياة كما أنه رَسَم الطعام دواءً للجوع والعلاج دواءً للمرض، إنها نظم كونية رسمها الله عزوجل إذا استعملت بشكل صحيح أدت إلى نتائج مجدية.
على أننا نقول إن أهم شرط من شروط تجاوز الهزيمة والضعف: صناعة الإنسان، المال قد يكون كثيراً لكن تبدده حماقة أصحابه، تبدد المال وتبدد الثروة كلها مشاعر الأنانية والإسراف والتبذير وغير ذلك من الممارسات الغبية التي نجدها في أولئك الذين أثروا فكان ثراؤهم مصيبة عليهم وعلى غيرهم.
نحن في سورية في أخطر مرحلة من مراحل المحنة التي نعيشها، لا أعني الأخطر بمعنى الأسوأ، وإنما أعني أنها الأهم، هي مرحلة إعادة الإعمار، هل يا ترى في هذه المرحلة سنتمادى في التمزيق والتشتيت، ونخدم عدونا بمزيد من التشرذم؟ أم أننا سنعود إلى بعضنا ونعيد لحمة هذا الوطن كما كان؟ بتعاون وتآخٍ وصفاء سريرة، وبأن ننبذ عوامل الكراهية التي اصطنعت فيما بين أبناء أمتنا. وعندما أقول عوامل الكراهية، أقول لكل أصناف أبناء هذا الوطن: إننا عشنا قروناً في هذا الوطن وهو متلون الأطياف، وغني بتلونه، هذا الوطن لا يمكن أن يتجاوز المحنة التي هو فيها بسوء النية وبخيانة بعضنا لبعض، و لا بأن نستغل هذه الفرصة لكي نزيد في مشاعر الكراهية والحقد التي فرضت على هذا الوطن لتمزيقه وتشتيته.
هل سنعيد بناء وطننا ومستقبلنا بنفوس يصنعها الإيمان؟ تجمع ولا تفرق، وتوحد ولا تمزق، تبني ولا تهدم ؟ أم أننا سنترك أمم الأرض تتكالب علينا فنساعد عدونا بقتل بعضنا لبعض ونهْبِ بعضنا وبث مشاعر الكراهية بين أبناء وطننا؟ لا ينبغي أن يجعل المسلمون من مشاعر الكراهية تجاه الآخر سداً بيننا، بين فهمنا لبعضنا، وبين فهمنا لمبادئنا، وسداً دون بث مشاعر المحبة والألفة فيما بين أبناء الدين الواحد، والتعاون بين أبناء الوطن الواحد، إن الحالة التي نعاني منها اليوم قد أطلقت يد الإجرام في تمزيق هذا الوطن حتى على حساب البيت الواحد، فكره الأخ أخاه والأب ولده والجار جاره، فتمزق الوطن أنكاثا بهذه المشاعر، وبالأنانية التي ولدتها المحنة، وجدير بالمحنة أن توجد الإيثار بدلاً من الأنانية، أن تدفع إلى البذل والعطاء، وانتشال الضعيف. أنا ضعيف وأنت ضعيف نمسك بأيدي بعضنا لنصبح أقوياء، لا نجعل من القوة سبباً في إضعاف بعضنا؛ بل نجعل من الضعف عاملاً يدفعنا إلى تقوية بعضنا، ضعيف وضعيف أقوياء، وقوي ضد قوي محقٌ لهذه القوة وزوال لهذه الأمة، علينا أن نتعاون وعلينا أن نتجاوز تلك المشاعر التي يثيرها البعض لتمزيق هذا الوطن، وأقول في الوقت ذاته: على المسؤولين أن يبتروا تلك الأيدي التي تحاول أن تجعل من أنانيتها سبباً لبث مشاعر الكراهية والأنانية والأثرة فيما بين أبناء الوطن، لا ينبغي أن نسمح للنهب والسلب والقتل عاملاً يزيد في تفاقم محنتنا، إن مشروع المصالحة ينبغي أن يكون مشروعاً فعالاً في وطننا، مشروع المصالحة ينبغي أن يكون فعالاً ومثمراً، لكي نتجاوز المحنة التي نحن فيها، ولكي نجعل من المحنة التي عانينا منها منحة تدفع بنا إلى النصر إلى القوة إلى العزة إلى الرفاهية إلى حياة كريمة يتمتع بها أبناء وطننا.
أسأل الله تعالى أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً ، وأن يوفقنا لتجاوز المحنة التي نعاني منها بعونه ورحمته إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين
خطبة الجمعة 22-08-2014


تشغيل

صوتي