مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/08/2014

خطبة د. توفيق: سبيل الخلاص هو التوبة الصادقة والعودة المخلصة


سبيل الخلاص هو التوبة الصادقة والعودة المخلصة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله عزَّ وجل في كتابه الكريم :)إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ(وقال سبحانه: )ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( وقال جلَّ شأنه :)وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ( وقال سبحانه :)إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ(، وقال سبحانه: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( وقال جلَّ شأنه: )وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ # فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ #فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ # فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(
أما بعد فيا أيها المسلمون: سنة إلهية يجب أن نتذكرها ونتأمل صور ما يجري منها في حياة الأمة اليوم؛ لنبحث عن المخرج مما نعانيه، إنه فساد النفوس وصلاحها يقول سبحانه: )حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ( لن يتغير حال الأمة من رخاء إلى شقاء إلا بسبب تغير نفوس أبنائها من صلاح إلى فساد، ولن يتغير حال الأمة من شقاءٍ إلى رخاء إلا بعد تغير نفوس أبنائها من فسادٍ إلى صلاح، إنه قانون إلهي وسنة إلهية. لو عدنا إلى التاريخ لوجدناه يترجم هذه السنة بدقة حتى الأمم غير الإسلامية نجد أن هذه السنة تتجلى في حياتها صعوداً وهبوطاً، ارتقاءً وانحداراً، لو أننا تأملنا حال الأمة الرومانية كيف أنها كانت في ارتقاء حتى إذا تسلل الفساد إلى أبناء هذه الأمة وغدا التفسخ الأخلاقي متفشياً فيها تفسخت وضعفت ثم انهارت، وجزيرة العرب قبل الإسلام كانت على حال من التمزق والضعف، والخلاف والشقاق يسري في كيانها، قبائل متناحرة تسودها المظالم والفساد، أشرق النور الإلهي في مكة فتبعه أفراد، وتزايد عددهم ثم تزايد مع شدة الاضطهاد الذي نالهم ومع قسوة الظروف التي مروا بها، ثم إن الله عزَّ وجل أبدلهم من بعد خوفهم أمنا ومن بعد ذلهم عزاً، أكرمهم الله بعزة قصعاء، ومكانة سامقة، لم تنحصر في استقرار داخلي وقوة ذاتية؛ بل امتد نور الهداية الذي أشرق في قلوبهم لينتشر في البلاد التي تجاورهم، وفتحت الأرض أمامهم، واتبعت الشعوب ذلك الهدي الرباني الذي اعتنقوه وأخلصوا له وجاهدوا في سبيله، فتح المسلمون العقول قبل أن يفتحوا القلاع، قبل أن تنهار عروش الطغاة فيها، كانت الاستجابة من شعوب الأرض استجابة لذلك الشعور الذي تربع على عرش قلوبهم وسرى في صلاحٍ واستقامةٍ وسلوكٍ سويٍ في كيانهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم، فنصرهم الله طبقاً لوعده: )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا( ربنا تبارك وتعالى حقق لهم ذلك وآتاهم من العزة ما عجب علماء التاريخ من عظيم الإعجاز التاريخي الذي حققه لهم، إنهما صورتان؛ الصورة التالية لهذا المجتمع الإسلامي بعد فترة من الزمن نال من الثراء والدنيا ما أطغى أفراده وجعلهم يميلون إلى الترف وإلى الطغيان المادي والفساد، فتمزقت وحدة الأمة وضعفت بعد قوة وانهارت بعد شموخ، فغدت لقمة سائغة بأفواه أناس هم أقرب إلى الوحوش البشرية منهم إلى البشر في غزوٍ بربري وحشي همجي عجيب قضى على دولتهم وكاد يستأصل وجودهم، وكذلك سلط الله عليهم من جهة الغرب الصليبين الذين تمكنوا في أرضنا هذه واخذوا بيت المقدس وفلسطين وشواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية، تمكنوا حتى قرنين من الزمن، كانوا سادة المنطقة وفرضوا بغيهم وظلمهم وعدوانهم على شعوب غيرت عما كانت عليه، وانحرفت عما كان قد أمرهم الله عزَّ وجل به، ضيعوا الأمانة فضاعوا، وانحرفوا عن سبيل العزة ففقدوها، ثم إن الله عزَّ وجل قيض لهذه الأمة من أعادهم إلى الطريق وردهم إلى سبيل الهداية بأن أنشأ جيلاً جديدا يتمسك بدينه ويعود إلى رشده: نور الدين زنكي الشهيد ومن بعده صلاح الدين الأيوبي الذي نهَج نهْج التعليم ونهج الإصلاح، نهجَ بناء جيل مستقيمٍ مهتدٍ متمسكٍ بدينه ملتزمٍ بأمر ربه سبحانه وتعالى، فماذا جرى؟ طُرِد الصليبيون من بلادنا بعد قرنين؛ وقد ظنوا أنهم مخلدون فيها، وتغلب المسلمون على ذلك الغزو التتري المغولي، تغلبوا عليه وانتصروا عليه، وكانوا هداةً لمن اختار طريق الهداية منهم. هناك أوامر تكوينية لكن التغير لا يكون بأمر تكويني؛ بل يكون بتكليف رباني بمعنى أن الناس عادوا إلى رشدهم فاستعادوا العزة والكرامة، استعادوا مكانتهم على هذه الأرض وعزتهم التي فقدوها.
وهل ينسى أحدنا ما كانت عليه بلادنا هذه من النعمة من الرخاء من الأمان من الألفة؟ بلادنا هذه استقبلت المشردين فآوتهم دون أن تشعر بكللٍ أو مللٍ أو ثقلٍ باستقبالهم، وأولتهم الكرامة وجعلتهم جزءاً من تكوينها، والهجرات إلى بلاد الشام كثيرة، وأنا وكثير مثلي من جملة من هاجر إلى هذه البلاد يتفيأ فيها ظلال الخير والأمن والأمان، والفلسطينيون كذلك، وفيما نذكره نحن خلال هذه الحقبة الزمنية القصيرة من لبنان ومن العراق ومن فلسطين الكثير والكثير ممن عاشوا في هذا الوطن وعاشوا فيه آمنين تحن عليهم القلوب؛ بل تنقلهم إلى سدة المواطنة الصالحة وسط هذا المجتمع، ما الذي جرى بعد ذلك؟ عودوا إلى الآية القرآنية الكريمة: )وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ( جحدت وضيعت أوامر الله عزَّ وجل وانحرفت عن جادة الأخلاق الكريمة، ولقد تكرر الكلام الذي يقول – وهو صحيح –: الأزمة التي نعاني منها ليست أزمة سياسية ولا أزمة عسكرية، إنها أزمة أخلاقية. بمعنى أننا انحرفنا عن نهج الصلاح إلى نهج الفساد، وأننا ضيعنا الأمانة وضيعنا الحقوق وانحرفنا عن جادة الخلق القويم والشرع السليم، ضيعنا الأمانة فضاعت عزتنا وضاعت وحدتنا وضاع أمننا وضاعت أرزاقنا، فصارت حالنا إلى ما نحن نراه اليوم.
ما السبيل وما المخرج؟ لاحظوا أيها المسلمون أن الله سبحانه وتعالى ربط التغيير لا بالتغير الاجتماعي إنما التغير الفردي؛ لأن المجتمع يتكون من أفراد إذ قال:)إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ( النفس تطلق على الفرد لا تطلق على المجتمع، ينبغي أن نبحث عن المخرج من خلال إصلاح الفرد لنفسه، من خلال العودة إلى الله، نقول هذا لكل أبناء وطننا ولكل أبناء أمتنا، فأزمتنا جزء من أزمة الأمة برمتها التي كانت أمة واحدة متماسكة فغدت أشلاء تتناوشها الشعوب وتنال من كرامتها وحقوقها أمم الأرض أصبحت مطمع لكل طامع، من المفارقات أن أصغر دولة أوربية تحتل أكبر دولة إسلامية، أصغر دولة أوربية: هولندا تحتل أكبر دولة إسلامية هي إندونيسيا وهذا من مظهر الذل الذي حاق بأمتنا، وأن شذاذ الشعوب ونفايات الأرض ممن أذلهم الله عزَّ وجل وكتب عليهم الذلة والمهانة تمكنوا من أن يدنسوا أقدس أرض بعد كعبة الله ومسجد نبيه، المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، أإلى هذا الحال يؤول الأمر بنا؟
فما المخرج؟ لا سبيل لليأس لمن كان قد عرف سنة الله في هذه الحياة، قانون: (حتى يغيروا ما في أنفسهم) ،يخبرنا الله سبحانه وتعالى أن ما أصابنا من مصيبة هو بما كسبت أيدينا، أن سبيل الخلاص هو التوبة الصادقة والعودة المخلصة الراشدة إلى سبيل الهداية، وأنا لا أنظر هنا إلى المجتمع، فالمجتمع إنما هو مجموعة الأفراد، أنت والآخر لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، أنت هنا مفتاح النجاة أنت أيها الفرد بداية المجتمع، أنت الفرد المتكرر منكم يتكون المجتمع، أنت ينبغي أن تبحث عن المخرج من خلال ذاتك من خلال شخصك من خلال العودة الراشدة إلى الله عزَّ وجل في سلوكك في تصرفاتك في عقيدتك في صلتك بالله عزَّ وجل، ولئن فعلت ستصلح أسرتك؛ لأنك أنت الذي تملك المقود في تلك الأسرة؛ فلتكن أنت مفتاح هداية الأسرة وبداية صلاح هذا المجتمع، لا ينبغي لليأس أن يتسلل إلى قلوبنا، فالدعوة الإسلامية التي بدأت في مكة المكرمة برجل، نحن اليوم امتداد وأثر له، الشعوب التي تمتد من شرق إندونيسيا إلى المغرب العربي وهناك من قد انتشر ونشر الهداية حتى في عقر دور الكفر وبلاد الكفر كل ذلك هو امتداد لذلك الرجل للفرد، ابتدأت الدعوة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سيدنا أبي بكر إلى سيدتنا خديجة إلى سيدنا علي ثم انتشر وانتشر. الهداية والصلاح في مجتمعاتنا تبدأ بالفرد فإن استقمنا استعدنا موقعنا وعزتنا وكرامتنا على هذه الأرض، ولئن أمعنا خسرنا أمرين: خسرنا عزتنا في الدنيا وهو أمر خطير لكنه ليس بذلك الخطر الجسيم، الخطورة كل الخطورة أن نخسر آخرتنا، وإنها للنار أبداً، وعندئذٍ لا سبيل إلى الرجوع ولا مجال لاستدراك الأمر. ربنا تبارك وتعالى منحنا فرصة الحياة للإصلاح فإذا فرطنا في هذه الحياة بالإصلاح فرطنا بسعادتنا الأخروية وأشقينا أنفسنا شقاوة خالدة لا نهاية لها، لنبحث عن مخرج لنا من المأزق الذي نحن فيه لنستعيد عزتنا في الدنيا، وليكون ذلك ضمانة سعادتنا في الآخرة )وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ( كما يقول ربنا تبارك وتعالى، لن يضيع الله سبحانه وتعالى جهد من أحسن عملا وليس من عدل الله عزَّ وجل أن يضيع أجر المحسنين، لنبدأ أيها المسلمون بالعودة الراشدة إلى الله .
بقيت مسألة لابد من الإشارة إليها قد يقول قائل إن أمماً في الأرض هي أ كثر وأشد سوءاً وفساداً منا، تلك الدول لديها من النعيم والرخاء ما لديها، أقول: هي ليست موضع بحث هنا، فهي أصلاً تخلت عن الأمانة، ومن تخلى عن الأمانة تركه الله عزَّ وجل للموقف بين يديه وحسابه هناك في الآخرة، هنا يجني ثمرة جهده في هذه الدنيا )كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا(، والأمر الآخر أن أهم ما ينبغي أن يُعلم أن ذلك الرخاء الذي تراه هو غطاء لشقاء يعيشونه، فالأزمات النفسية التي تتفشى فيهم هي أكثر من أن تحصى، والأمراض الجنسية التي تفشت فيهم غدت مرعبة بظلالها وبنتائجها، وانهيار الأسرة في مجتمعهم غدا سببا لقلق قد استبد بهم، ولكنهم عندما وجدوا أنفسهم وأقدامهم تقودهم إلى هاوية الهلاك قالوا كما يقال: (لئن متُّ ظمآناً فلا نزل القطرُ) حكموا علينا أن نموت مثلهم، وأن نهلك بما يهلكون به، لم يبحثوا عن المخرج وإنما بحثوا عن إهلاك الآخرين كما يهلكون، بالتخطيط لإفسادنا؛ فلئن خضعنا لمخططاتهم إذاً فقد ارتضينا لأنفسنا أن نكون تبعاً لهم في هلاكهم كما ارتضينا لأنفسهم أن نكون تبعاً لهم في انحرافاتهم .
أسأل الله أن يلهمنا السداد والرشاد وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يلهمنا أن نعود إلى أنفسنا فنحاسبها ونعزم على توبة صادقة نصوح ، يستقيم بها أمرنا ويصلح بها حالنا ، ويفرج الله تعالى بها كربنا إنه سميع مجيب .


تشغيل

صوتي