مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 08/08/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: البر حسن الخلق


البر حسن الخلق
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (
بهذا وصف الله تعالى نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويقول الله سبحانه وتعالى في ذم أسوأ الأخلاق: )إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ(
ويقول سبحانه في سرد قيم أخلاقية يجب أن تترسخ في مجتمعنا الإسلامي: )وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً # وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا # وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً # وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً # وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً # وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً # كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (
هذه الآيات من جملة آيات بدأت بقوله: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا(
روى ابن حبان في صحيحه والترمذي وغيرهما عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني في الآخرة أسوأكم أخلاقاً المتشدقون المتفيهقون الثرثارون – أي المتكبرون" وفي رواية الإمام أحمد بن حنبل: "إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقاً " ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلمبأسانيد متعددة عن أبي هريرة رضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وشهد بين يدي سيدنا عمر رضي الله عنه رجلٌ بشهادة، والشاهد لابد أن يزكّى أنه ثقة لتقبل شهادته، فلا تقبل شهادة من ليس عدلاً، فقال له عمر: « لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك ائتِ بمن يعرفك - حتى يزكيه لتقبل شهادته - فقال رجل من القوم أنا أعرفه، فقال: بأي شيء تعرفه؟ بالعدالة والفضل؟ فقال: أهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ -يعني جاورته لتعرف دخائل نفسه وعدالته وفضله _ قال: لا، قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذين بهما يستدل على الورع؟ قال: لا، قال: فهو رفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائتِ بمن يعرفك » إذاً فالأخلاق هي التي تسموا بالإنسان إلى القبول، أو تهبط به إلى الرد وعدم القبول. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها" وهنا لابد أن نذكر ركيزة الأخلاق التي أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر أنموذجاً هو المظهر الذي يدل على ركيزة الأخلاق في المجتمع الإسلامي قال: " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله " إذاً فالدافع والرادع هو هذا الإيمان الذي استكن في القلب "ورجل ذكر الله خالياً – وليس أمام الناس ليخدع الناس بذلك – ففاضت عيناه " وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال : " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ".
أيها المسلمون: إعادة الإعمار أمر شاع ذكره في أيامنا؛ لأننا نَأمَل أن المحنة آذنت بإذن الله تعالى على الانقشاع، وإعادة الإعمار مسؤولية المرحلة القادمة، إعادة الإعمار لا تبدأ بالإسمنت والحديد، إعادة الإعمار تبدأ بالإنسان، لأن الذي دمر وخرب وقتل إنما هو الإنسان، ومسؤولية إعادة بناء الإنسان ليؤهل لإعادة بناء الأرض والحضارة، مسؤولية إعادة بناء الإنسان مسؤولية عامة، وليست مسؤولية جهة خاصة، ليست مسؤولية البيت وحده، ولا مسؤولية المسجد وحده، ولا مسؤولية المدرسة وحدها؛ بل هي مسؤولية عامة تتحملها جميع مكونات المجتمع والدولة، من البيت إلى المسجد إلى المدرسة و المؤسسات التربوية إلى المؤسسة الإعلامية إلى المؤسسة القضائية إلى الجهة الأمنية، لأن البيت قد يبني، على ما فيه من التقصير اليوم، قد يبني وتكون المؤسسة التربوية في اتجاه مناقض، فماذا يمكن أن تكون النتيجة عند ذلك؟ النتيجة حالة فصام في شخصية الجيل، أو: أن تكون المؤسسة الإعلامية تتجه في اتجاه معاكس ووجهة مخالفة، إن إعمار الإنسان يكون ببنائه الأخلاقي، بحيث تسمو أخلاقه بالرحمة بالعدل بالأمانة بالصدق بالبر، بحسن التعامل. هذا البناء الأخلاقي لا يمكن أن ينهض نهوضاً صحيحاً صادقاً في ظاهر الإنسان وباطنه إلا إذا كان مرتكزاً على قاعدة إيمانية صحيحة، أو لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم :"ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " أي أن استقامته على الخير ليست نفاقاً ولا مظهراً يتظاهر به بين الناس، بل هو حقيقة بينه وبين ربه تتجلى في سلوك قويم أمام الناس؛ لا نفاقاً بل ترتكز على أساسٍ تربويٍ وإيماني، كذلك الرادع يردعه عن الانحراف مع أن الفرصة متاحة والإمكانية ميسرة، و إنما يردعه عن ذلك مخافة الله "رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين " هو الرادع الذي يؤمن جانبه.
وهنا لابد أن أشير إلى أن الغرب قد توجد فيه قيم أخلاقية، هذه القيم الأخلاقية استطاع الغرب أن يصل بها إلى مستوى حضاري ما، وهذا أمر لا يمكن أن ننكره؛ ولكن هذه القيم الأخلاقية الموجودة فيه هي قيم مصلحية، إذا ما اصطدمت بالمصالح داسوا على تلك القيم بأقدامهم وتجاوزوها، فالمجتمع الغربي فيه حالة مزدوجة، فيه أقذر أنواع الأخلاق، والتي تتجلى في الموقف الإجرامي الذي يتخذه الغرب في عهره السياسي من قضية أبناء شعبنا في فلسطين، و غيرها من قضايا هذه الأمة، حيث لا يبالي بالمشاعر الإنسانية والمصائب وغير ذلك أمام المعايير التي يؤمن بها، إنها الذرائعية، إنها المصالح التي تدور حولها قيمه التي يسمونها أخلاقاً، إنها ليست أخلاقاً، إنها مصالح دنيوية تدور حولها سياستهم وتصرفاتهم وأعمالهم، سلوهم إن كان بوسع الإنسان الأمريكي أن يضع في جيبه قطعة نقدية بسيطة، مائة دولار، ويمشي في الطريق وهو آمن على نفسه في ليل أو نهار؟ أي حضارة هذه تلك الحضارة التي لا يأمن فيها الإنسان على نفسه أن يكون في جيبه قطعة نقدية واحدة؛ لأن ثمنها حياة هذا الإنسان؟ أي قيمة أو حضارة في بلد لا يأمن فيه الإنسان أن يبقي نافذة سيارته مفتوحاً وهو في الشارع على أي إشارة ضوئية؛ لأنه لا يأمن على نفسه، في أرقى دولة توزع على الناس دروس الحضارة دروس الإنسانية دروس حقوق الإنسان. خسئوا، إنما يلقنون العالم دروس الوحشية والهمجية، يقتلون الإنسان ويقتلون الحضارة باسم حقوق الإنسان وباسم الحضارة، أتلك هي حقوق الإنسان؟ أتلك هي الحضارة؟ أتلك هي القيم الإنسانية؟
أيها المسلمون: إن الغرب يربط الأمور بسطوة القانون، والقانون عندهم ليس ثوابت أخلاقية ولا يستند إلى قيم ذات أسس أخلاقية صحيحة، القانون عندهم تأطير للواقع، ضبط للواقع فقط. وكلما فسد الواقع اتسعت دائرة القانون لتحتوي ذلك الواقع وتقوّمه. نعم ذلك هو الغرب بنفاقه، ذلك هو الغرب بانحلاله. لقد انهارت الأسرة في الغرب اليوم فصار انهيار الأسرة قانوناً شُرع لهم، وأبيحت الموبقات وصارت الموبقات أمراً مشروعاً عندهم، أتلك هي الثوابت الأخلاقية التي يستندون إليها؟ الغربي لا يسرق الجريدة ولكن يسرق البنك كله، هو لا يعتدي على إنسان في الشارع، ولكنه يعتدي على أمة برمتها. أي قيمة أخلاقية في ذلك المجتمع القذر، أقول الفطرة موجودة طبعاً، وأنا لا أعمم في الحكم على المجتمع الغربي؛ لأن هذا يناقض فطرتهم التي فطر الله تعالى النفوس عليها، ولكن واقعهم لا يبشر بخير مالم يوقظهم الإسلام من معاناتهم، وهذا الذي يدفع بالكثير منهم إلى الإقبال على الإسلام الذي شوهه عملاؤهم في بلادنا من خلال ممارساتهم الوحشية لكي ينفروهم من الإسلام، باسم الإسلام يحارب الإسلام، عندما نتحدث عن القيم الأخلاقية لا يمكن أن تقوم القيم الأخلاقية إلا بوازع إيماني، لا تقوم الأخلاق إلا بحب لله يدفع إلى التزام أوامره والحياء منه والإقبال على طاعته والتمسك بهديه، إلا بمخافة من الله عزَّ وجل تمنع من التجاوز على الحقوق والتعدي عليها، لا يمكن أن تسمو بالإنسان أخلاقه إلا بحب أو خوف مقلق كلاهما يسموان بالإنسان، أما هذا النفاق الذي نراه في الشارع في الغرب أو في الشرق أو في الشمال أو في الجنوب، فهو سراب لا يمكن أن يستند إليه، هو بناء هش ينهار أمام أول مصلحة يقتنع هذا الإنسان بأهميتها بالنسبة لمستقبله ومآله.
أيها المسلمون: لا يخدعنَّ أحدنا أولئك الذين ينادون بالأخلاق بديلاً عن الدين، فالأخلاق ثمرة الدين وليست بديلاً عن الدين، ولا خلق بدون دين، ولا يوثق بأخلاق لا تكون مرتكزة على وازع داخلي يردع عن الظلم والتعدي والانحراف ممن لا تخفى عليه خافية ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ( لا يمكن أن يردع الإنسان إلا مخافة من الله، مخافة من وقفة بين يديه غداً بعد الموت، فالموت بوابة الحساب وليس منا أحد ينجو منه؛ ولذلك فإن الوازع الأخلاقي لا يمكن أن يكون ذا تأثير إلا إذا كان مرتكزاً على إيمان وعقيدة راسخة في القلوب، وعلى جميع المؤسسات من المسجد إلى البيت إلى المدرسة إلى الإعلام إلى غير ذلك، أن تتضافر الجهود منهم جميعاً في مسار واحد يكرس للاستقامة الأخلاقية، يكرس إلى السمو إلى الإيمان الذي يردع.
ولا يقولنَّ قائل: إن المشايخ متدينون وقد فعلوا ما فعلوا، أقول: إن ظاهرة النفاق وجدت في عصر النبوة، ولكن أمام الحق الذي تمسك به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انقشعت غمامة النفاق واندثرت وفضحت ونبذت وداست عليها أقدام الصحابة، اندثرت برمتها، أين عبد الله بن أبي بن سلول من مسيرة الإيمان التي انتصرت؟ انخذل فلم تنخذل الدعوة، وانسحب، ولم ينهزم الجيش، خسر ولم تخسر الأمة، بقي الحق )فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ (
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا من الأخلاق ما يسمو بنا إلى إعادة بناء هذا الوطن وبناء هذه الأمة بناءً يعيننا على تحمل مسؤوليات مستقبلنا، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 10-08-2014


تشغيل

صوتي