مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 20/06/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: السبيل إلى الإخلاص


السبيل إلى الإخلاص
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم:
)قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي # فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (
ويقول جلَّ شأنه: )قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(
ويقول عز وجل:
)وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(
روى البخاري عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه "
أيها المسلمون: كان الحديث في الخطبة السابقة عن التلازم بين العمل الصالح أو العبادات التي فرضها الله تبارك وتعالى علينا وبين الأثر الذي يتوخى، أو الذي أشار القرآن الكريم إلى ترتب هذا الأثر عليها، فالله سبحانه وتعالى يقول: )إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ( وربنا جلَّ شأنه يقول: )كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( والانتهاء عن الفحشاء والمنكر ثمرة ينبغي أن تترتب على الصلاة إذا استوفت مقوماتها، والتقوى بالتزام أوامر الله واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده والتخلق بالأخلاق التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضَّ عليها، ثمرة لابد أن يجنيها الصائم إذا صام بحق، وإذا صام الصيام الذي أمر الله عز وجل به، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم يورث التقوى، ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ترى ما الذي يجعل صلاتنا تنهانا عن الفحشاء والمنكر؟ وما الذي يجعل صيامنا يورثنا التقوى؟ ما الذي يجعل أعمالنا ترقى إلى الله تعالى بالقبول؟ إنه الإخلاص، الإخلاص لوجه الله عز وجل. وقد قال الإمام الغزالي في معنى الإخلاص: (تخليص العمل من كل الشوائب، حتى يتجرد فيه قصد التقرب، فلا يكون فيه باعث سواه) وهذا لا يتصور إلا من محب لله مولع القلب به سبحانه، مستغرق الهم بالآخرة بحيث لم يبق لحب الدنيا في قلبه قرار.
أيها المسلمون: إذا كان للعمل شكله فإن الإخلاص معناه، وإذا كان العمل جسداً فالإخلاص هو الروح التي تسري في ذلك الجسد، وقد قال الصالحون: (إن الإخلاص سرٌ يقذفه الله في قلب من يحب من عباده) والله سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين، ترى ما السبيل إلى أن نتحقق من مرتبة الإخلاص أو أن نجتهد في الوصول إليها؟ وربنا تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، ويقول: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ( الأمر يتطلب منا مجاهدة وسعياً لنصل إلى النتيجة التي نرجو الله عز وجل أن يكرمنا بها، سبيل بلوغ مرتبة الإخلاص بحيث لا يقصد العبد إلا الله سبحانه وتعالى في عمله أولُها: كثرة الذكر والمراد بكثرة الذكر حضورُ القلب مع الله، ويقظتُه، والتدبرُ بحكيم صنعه وعظيم إحسانه وبديع تدبيره وجزيل نعمه، وليس الذكر مجرد تمتمة والقلب ساهٍ لاه، نعم هناك أذكار لفظية تعبده الله عز وجل بها، ومنها أركان الصلاة القولية، إلا أن هذا الأمر يبقى جسداً روحه أن يكون منبعه القلب ومحط آثاره الجوارح.
الأمر الآخر: محاسبة النفس قال سيدنا عمر رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم" ومن عرف أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وأدرك أنه على موعد بين يدي رب السموات والأرض، حيث تبدو السريرة علانية )يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ( )وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا( إذا وضعت نصب عيني الموقف بين يدي الله عز وجل، أوقد هذا التصور في قلبي وهذا التذكر لذلك الموقف، أوقد في قلبي حالة من الخشوع والتبتل والإخلاص وانعقاد هذا القلب بحبال محبة الله عز وجل وتقواه.
الأمر الثالث: ذكر الموت، والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن نتذكر الموت فقال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات " وفي الحديث: "أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، فإنه ما ذكر في قليل إلا كثّره، ولا في كثيرٍ إلا قلله " ما ذكر في كثير من محبة الدنيا والانصراف إليها، إلا كبح جماح النفس عن ذلك، ولا ذكر في قليل من الأعمال والطاعات إلا دفع صاحبه إلى الاستزادة منها قبل أن تختم الحياة فلا نجد فرصة لتدارك أنفسنا.
ومن الأدوية التي يمكن أن تكسب قلوبنا الإخلاص في العمل ليثمر حسن الخلق والقبول عند الله عز وجل كثرة الاستغفار، إنه الثمرة التي تترتب على تذكر الموت ومحاسبة النفس: بأن أبسط كفي الندامة بين يدي ربي سبحانه وتعالى متضرعاً بين يديه متبتلاً إليه، خاشعاً خاضعاً مستذكراً هول الموقف فأندم على ما فعلت، وأعزم على أن لا أعود، وأفرّ من الله تعالى إليه، أفر من عذابه إلى رحمته، ومن سطوته إلى مغفرته )فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ( الاستغفار ولا سيما في وقت السحر، ألم يثن ربنا تبارك وتعالى على المستغفرين بالأسحار.


تشغيل

صوتي