مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 25/04/2014

خطبة الدكتور توفيق: صفات عباد الرحمن 3


صفات عباد الرحمن 3
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم : )وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا # يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا # إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا # وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا # وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا # وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا # وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا # أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا( ويقول سبحانه: )إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ( وقال سبحانه وتعالى : )ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (
أيها المسلمون: بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى من صفات عباد الرحمن تجنبهم لجرائم الشرك والقتل والزنا في سياق الصفات التي كان قد وصفهم بها، أوضح الصورة لارتكاب تلك الجرائم ومآل من يرتكبها من العذاب الشديد، والهوان في يوم القيامة والخلود في النار؛ استثنى من تلك العقوبة ومن ذلك المآل من تاب فاقلع عن ارتكاب ذلك، وسلك بدلاً من ذلك سبيل الخير، سبيل الصلاح، سبيل الرشد، سبيل الهداية والاستقامة، وهنا تبدو معالم خطة التغيير في حياة الإنسان والشعوب، خطة التغيير في حياة الفرد والمجتمع؛ فإن حال الأمة التي تعاني منها من فاقة بعد غنى، وتمزق بعد وحدة، وكراهية واكتئاب، وغير ذلك من معالم تبدلت في حياتها بعد أن كانت على خير حال، لم تصل الأمة إلى تلك الحالة البائسة إلا عندما بدلت هي من المنهج الذي ائتمنها الله عليه، ومن طريق الهداية طريق الخير إلى غيره، إلى مسالك زينها له الشيطان وزينها لهم أعداء الله عزَّ وجل، معالم التغيير لا تكون بمجرد كلمة نتشدق بها بألسنتنا بمجرد مزاعم نزعمها، التغيير تحول في السلوك، تحول في الأخلاق، تحول في المعاملة، تغيير بكل جوانب شخصية الإنسان الذي شذَّ عن الطريق ليعود إلى الطريق، إرادة التغيير تكون بالتحول من الشر إلى الخير، من الخطأ إلى الصواب، من المعصية إلى الطاعة، بسلوك المنهج المؤدي إلى تحقيق ذلك كله، هذا الشرط هو ما علق الله سبحانه وتعالى به إصلاح حال هذه الأمة، وتحول حالها من البؤس الذي تعاني منه إلى السعادة التي تتطلع إليها، من التمزق والتشتت والتشرذم الذي آلت إليه، إلى التآلف والتحابب والتعاون والمحبة التي ينبغي أن تكون حالهم عليها، كشرط لبلوغ أسمى الأهداف السامية التي يرسمها لنا الله سبحانه وتعالى، شرطٌ لتحول أحوال هذه الأمة من الضيق والشدة إلى الرخاء والسعة، من الخوف إلى الأمان، نعم عندما تتحول حال الأمة من الهداية إلى الضلالة تتبدل حالها من سعادة إلى شقاء، فإذا أرادت أن تسترد سبيل السعادة فما عليها إلا أن تترك سبيل الضلالة وتعود إلى سبيل الرشاد والهداية ليغير الله سبحانه وتعالى حالها من ضيق إلى سعة ومن شقاء إلى سعادة )أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(
أيها المسلمون: جدير بنا ونحن نكتوي بالحالة البائسة القاسية التي نعاني منها أن نراجع أنفسنا، أن نقرأ وضعنا مرة أخرى بتأمل، لماذا آلت حالنا إلى هذه الأوضاع البائسة التي نعاني منها، من سعة وبحبوحة وبركة وألفة، إلى هذه الحالة التي نعاني منها من فاقة وشدة وكرب وضيق، إنه تبدلٌ في سلوكنا نحن عندما أعرضنا عن أوامر رسول الله r وأوامر ربنا سبحانه وتعالى، في حياتنا الخاصة وفي أحوالنا في مجتمعاتنا وفي الأمور العامة من حياة هذه الأمة، كلما تبدل سلوكها تبدل حالها؛ فإن تبدل سلوكها من خير إلى شر تبدلت حالها من سعادة إلى شقاء، وعندما تستقيم حالها من خطأ إلى صواب ومن ضلالة إلى هداية ومن شر إلى خير تتبدل أوضاعها من كرب وضيق وشدة إلى رخاء وسعة وخير، إنها مسألة التغيير التي يجب أن نفكر بها جيداً، لعل قائلاً أن يقول: أنا فرد فماذا عسى أن يكون أثر سلوكي؟! لا يقولن أحد هذه المقولة المضللة، الإصلاح يبدأ بك، والمجتمع مجموعة أفراد إن أصلحت نفسك كنت قدوة لأسرتك، فإن صلحت أسرتك كان ذلك مؤثراً على صلاح الآخرين من حولك، وعندما تفتح أبواب الضلالة على بيتك وعلى نفسك يؤثر ذلك على سلوكك وسلوك أسرتك، فلا تظنن بأنك بمعزل عن المجتمع وأن المجتمع بمعزل عنك، ثم إنك أنت المسؤول عن نفسك )لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ( هذه مسألة قد قالها ربنا تبارك وتعالى، أمرنا أن ننظر إلى أنفسنا وأن نصلح من أنفسنا، فأنت ستأتي غداً يوم القيامة في الموقف بين يدي الله عزَّ وجل فردا؛ لأن لك عقلاً مستقلاً ولك إرادة مستقلة ولك تفكير مستقل، ولك قدرات مستقلة. فأنت مسؤول عن استقلالية قرارك، واستقلالية تفكيرك واستقلالية سلوكك، أنت لست ذيلاً، أنت لست تبعياً، ينبغي أن تكون في سلوكك متحملاً لمسؤولية نفسك، متحملاً لمسؤولية سلوكك هذا بما ينسجم مع قناعات يجب أن تكون صحيحة وسديدة؛ سواء في فهم هذا الكون، أو في فهم حياتك أو في فهم الخطأ والصواب من السلوك والتصرفات. ثمَّ إنك بعد ذلك سيكون صلاحك هذا سبباً لصلاح أوسع كما أن خطأك في سلوكك سينتشر ويتسلل إلى أسرتك ويتجاوز شخصك إلى أطفالك وزوجك ومن حولك، لك إرادة مستقلة لكنك لست منفصلاً ولست تابعاً، أنت متصل بمجتمعك من حيث التأثير المتبادل، لكن هذا لا يعني إعدام إرادتك، ولا يعني زوال اختيارك. إذ لك شخصيتك المستقلة: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) هكذا قال ربنا سبحانه وتعالى، أنت مسؤول عن نفسك، فأصلح نفسك ثم إنك مسؤول عن رعيتك التي تتمثل في أسرتك، أصلح أسرتك، ولن تستطيع أن تصلح أسرتك إلا إذا أصلحت نفسك، إرادة التغيير تبدأ بك، وإرادة الإصلاح تبدأ بك، ثم إنك ستثاب على ما كان من تأثير لسلوك الخير والتغيير وتبديل وضعك أنت بمقدار اتساع تأثير ذلك على الأسرة ومن حولك في المجتمع، ولك من الأجر بمقدر من استفاد ومن استقام بسبب سلوكك واستقامتك "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" لا يكن أحدنا ضعيفاً ولا يكنن سلبياً، وليكن منطلقاً للتغيير ولتكن إرادتك قوية فأنت أقوى بمقدار توكلك على الله وبمقدار عزيمتك الخيّرة التي تستعين بها بالله، وتسلك سبيل الخير من خلال تصميمك وعزيمتك التي أمرك الله عزَّ وجل أن تستثمرها في سلوك سبيل الخير والإصلاح والبناء، لا تكن جباناً لا تكن ذيلاً لا تكن تبعياً، هلاك الأمة والفرد في أن تكون تابعاً لزيد وعمر، كن تابعا لكتاب الله وسنة رسول الله r، لا تكن شخصية ذائبة في شخصية أي من الناس، وهنا لابد أن نقول: سواء كان هذا الإنسان قائداً أو كان شيخاً أو كان أستاذاً، أو كان والداً، لك شخصيتك لك عقلك، لك إرادتك ، ثم لديك منهج تركه رسول الله r بين يديك كتاب الله وسنة رسوله الذي يناديك إلى أن تستخدم العقل وتوظف الإرادة وتبذل الطاقة والوسع في سبيل الخير في سبيل الإصلاح في سبيل البناء في سبيل الرشاد، في سبيل ما يرضي الله عزَّ وجل.
أيها المسلمون: أي جهد خيِّر تبذله لن يضيع، لئن ضاع هنا أمام الناس فأنت لا ينبغي أن ترجو الأجر والمثوبة والنتيجة من الناس، الأجر والمثوبة والنتيجة كل ذلك من الله، ليكن عملك خالصاً لوجه الله، وستجد أن عملك هذا سيكون بمثابة تلك البذرة التي رميتها في الأرض فأنبتت، وأعطت وأثمرت، وغيرت معالم الأرض كلها، سلوكك.. استقامتك.. عملك الطيب.. كل ذلك سيكون بمثابة تلك الحبة الطيبة البذرة الصالحة التي بذرتها في أرض طيبة هي أرض الإخلاص، أرض الجدِّية، أرض العمل الطيب، لتجد آثارها سنابل خير، سنابل بركة سنابل عطاء، ستجد أثر ذلك، ولكن إذا كنت ذيلاً فستصبح صفراً، ستصبح لا شيء، وتصبح طاقة مدمرة لنفسك، طاقة مدمرة لمجتمعك، انطلق إلى البناء انطلق إلى الإصلاح، نحن اليوم نعاني من الذيلية لزيد وعمر ممن أخطأوا.. ممن شذوا... ممن انحرفوا فانحرف شبابنا معهم، وضلوا مع ضلالتهم فانتهى المجتمع بذلك إلى الحالة التي نرى إلى البؤس الذي نعاني منه، ولكن عندما تكون لك إرادتك الخيرة التي تنطلق من قوله سبحانه وتعالى )كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ( وقوله )لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ( وقوله تبارك وتعالى )فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ( أنت مسؤول عن الدعوة بالنسبة لنفسك اسلك سبيل الخير. وبالنسبة للآخرين: انصح، وخير نصيحة وخير دعوة أن تسلك أنت سبيل الخير والدعوة، عندما تستقيم يستقيم مجتمعك، لأنك ستكون كالعطر الذي يفوح فتنتعش به المجتمعات، ولكن إذا كنت ذيلاً كما قلت لكم ستبقى صفرا؛ بل ستبقى خسارة لنفسك وخسارة لمجتمعك.
ثم يقول ربنا سبحانه وتعالى: )وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ(، وقبل أن أصل إلى (والذين لا يشهدون الزور) لاحظ ما قاله الله سبحانه وتعالى: )إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا( التوبة رجوع عن الخطأ وندم، عليه وآمن: أدرك بعقله الحقيقة التي ينبغي أن يعود إليها من مسؤولية وإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، ثم يدفعه هذا الإيمان إلى العمل الإيجابي الصالح، العمل الخيِّر )إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلَئك يبدِّل اللَّه سيِّئَاتِهم حسناتٍ( تأتي هذه بمعنيين، المعنى الأول أن الله يعين هذا الإنسان على أن يبدل السلوك الشرير.. السلوك المنحرف.. السلوك الضال إلى السلوك القويم الصالح الطيب، يبدل الله أعمالهم السيئة إلى عمل صالح، وهناك معنى أعظم وأعجب، هذا الإنسان إذا صدق في توبته وصدق في ندامته وصدق في إرادة الإصلاح لنفسه وسلك السبيل بجدية وصدق يأتي يوم القيامة فيمثل بين يدي الله عزَّ وجل وتعرض أمامه أعماله، فتعرض أعماله الصالحة وبعض الهفوات وينتهي الحساب فيقول هذا الإنسان يا رب إن لي أعمالاً أخرى خائفاً منها مقراً بخطئه فيها فتفتح له تلك الأعمال الأخرى فإذا بالأعمال السيئة قد كتبت له حسنات، أيُّ كرمٍ.. أيُّ رحمةٍ.. أي عظمة.. أي إحسان.. يكرمك الله عزَّ وجل به إذا صدقت في العودة إلى سبيل الخير.. سبيل الصلاح سبيل العودة إلى نهج الله عزَّ وجل وطريق مرضاته) يبدّل اللَّه سيّئاتهم حسناتٍ وكان اللّه غفورًا رَّحيمًا( والمعنى الثاني بشارة لكل إنسان أراد أن يغير فجدَّ بالتغيير واستقام بالتغيير فسلك سبيله واستقام على ذلك ليلقى غداً وجه الله عزَّ وجل وإذا بكرم الله سبحانه يجعل من أخطائه حسنات، ومن سيئاته قربات بمقدار صدقك يكون إكرام الله عزَّ وجل لك، إرادة التغيير ستكون لها نتائجها، فهلا أيها المسلمون قلنا يا رب عهداً أن نبدأ في حياتنا التغيير من الخطأ إلى الصواب من المعصية إلى الطاعة من الشر إلى الخير، عسى الله أن يبدل حال أمتنا ويبدل حالتنا وينقذنا مما نعاني ويعيد إلينا الرخاء الذي فقدنا والسعة التي افتقدنا والله على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 25-4-2014


تشغيل

صوتي