مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 28/03/2014

خطبة الدكتور توفيق: الإصلاح والبناء يبدأ من الإنسان


الإصلاح والبناء يبدأ من الإنسان
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد: فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )إنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار ولن تجد لهم نصيرًا # إلاّ الّذين تابوا وأصلحوا واعتصموا باللّه وأَخلصوا دينهم للّه فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت اللّه المؤمنين أجرًا عظيمًا( ويقول جلَّ شأنه: )فمن تاب من بعد ظلمه وأصْلح فإنّ اللّه يتوب عليه إنّ اللّه غفورٌ رّحيم( ويقول سبحانه :)إنَّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم: "الإيمان بضع وسبعون – أو يضع وستون – شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان "
أيها المسلمون: عانينا الكثير من الإفساد والفساد في البُنا التحتية، في العلاقات الاجتماعية، في التصورات والمفاهيم، فسادٌ أودى بنا إلى حالة أشفق العالم علينا بسببها، آن الأوان لأن يستيقظ الجميع إلى خطة رشد نصلح فيها ما أفسد أو ما فسد، ونعيد الأمر إلى نصابه الصحيح. آن الأوان إن قيل: لنبدأ خطة الإصلاح فخطة الإصلاح، وإن قيل إعادة البناء فإعادة البناء، والمهم أن تعود العافية لهذه الأمة ولهذه البلاد، إن من واجب الأمة بكل فئاتها أن تفكر اليوم بخطة راشدة للغد الذي نرجو أن تكون قد بدت ملامحه لإعادة البناء أو للإصلاح، والإصلاح أساس في الإسلام؛ بل الإصلاح هو الإسلام، والإفساد هو مظهر النفاق؛ بل هو الكفر: كفر النعمة، هو من مفرزات كفر الاعتقاد، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى عندما خاطب المنافقين، وتوعدهم بأن يكونوا في الدرك الأسفل من النار أتاح لهم مجال المراجعة للذات فقال :)إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ( وقرن بالتوبة الإصلاح، وعندما فتح باب التوبة مطلقاً من الظلم أو من أي معصية قال: )فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ( ونحن مكلفون بأن نصلح البناء الاجتماعي الذي يقوم عليه وينهض عليه بناء أمتنا، إذ قال ربنا تبارك وتعالى: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ (
إن من واجب الأمة بكل فئاتها أن تفكر اليوم بخطة راشدة للغد الذي نتفاءل به، لكي نعيد البناء ولنصلح ما فسد ، وإعادة البناء واجب على الجميع ، والمهم أن نعيد البناء على أسس صحيحة لمستقبل يصلح ولا يفسد ، ويهدي ولا يضل ؛ لأن الجرح إذا ما رمم على فساد انتكس وجاء بأسوء النتائج ، والحديث عن إعادة البناء قد يرى البعض أنه سابق؛ لأوانه لأنه اعتاد على الارتجال، هذه الرؤية غير صحيحة على الرغم من أننا اعتدنا عليها، ولأننا لا نفكر إلا بعد فوات الأوان، ولأن التشاؤم هو الذي يقودنا في كثير من تصرفاتنا ويشل حركتنا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة – قامت الساعة وانتهت الحياة في الكون، ومع ذلك فإن منطق البناء والإصلاح مطلوب – قال: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل" لأننا مكلفون بأن نبني، بأن نصلح بأن نعيد البناء السليم الصحيح فإن لم نستطع أن نفعل؛ فلتكن منا العزيمة الصادقة على أن نفعل، كيف ونحن نرى اليوم أن المحنة التي ابتليت بها أمتنا تتجه بعون الله إلى الانحسار، إن إعادة البناء خطة متكاملة تتناول الإنسان والأرض والبيئة والمصالح الصناعية وكل مرافق الحياة في هذه البلاد، إلا أن خطة الإصلاح يجب أن تبدأ من الإنسان، فالخلل بدأ بالإنسان الذي تحول بسبب هذا الخلل إلى أداة هدم وإفساد، والإصلاح يبدأ بالإنسان من خلال تربية وتوجيه وخطة راشدة تحوله إلى أداة إصلاح، إلى أداة بناء، إلى أداة خير؛ بدلاً من أن يكون أداة شر. التربية الإيمانية هي الرصيد الذي يمكن أن يحول هذا الإنسان إلى الصفة التي نتحدث عنها، ألم تروا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تحدث عن الإيمان قال: "الإيمان بضع وسبعون –أو بضع وستون– شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله -وجعل إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان– وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" فالذي يجد الخلل في مجتمعه وفي الشارع وفي البيت، ولم ينهض لإصلاح هذا الخلل لم يكتمل إيمانه، ولم يتحرك هذا الإيمان في قلبه ليتحول إلى سلوك، إلى إنجاز إلى عطاء إلى تصرف بناء، إعادة البناء خطة متكاملة، لا شك أن الأهم – الجانب الأهم، أنا لا أقول مراحل، ولكن أقول جوانب، فهي كلها تمشي بخطة موحدة متكاملة تتناول جميع جوانب الحياة في هذه البلاد والمجتمع، الإنسان بناء الإنسان السوي بغرس العقيدة الصحيحة، بغرس القيم الأخلاقية الكريمة، وهذا الأمر مسؤولية الأسرة بالدرجة الأولى، لكن الإنسان لا ينحصر التأثير في تكوين شخصيته بالأسرة، وإن كانت الأسرة هي المسؤولة الأولى عن سلامة وتكوين شخصية الإنسان، فالأبوان قد أناط الله بهما مسؤولية حسن تربية هذا الإنسان، والرجل راع في أهل و مسؤول عن رعيته، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: )قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ( وأرانا كيف تمارس هذه التربية بصورة عملية عندما نقل لنا كلام سيدنا لقمان:) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ( الأسرة هي المصنع الأول للإنسان السوي؛ ولكن هناك مؤثرات يجب أن لا ننساها، ويجب أن تتحمل مسؤولياتها في بناء الإنسان، إنها المؤسسة التعليمية التي ينبغي أن تنهض بمسؤولياتها في بناء الإنسان السوي بالأخلاق الكريمة، بالعقيدة الصحيحة، بالوازع الأخلاقي والوازع الإيماني، الذي يدفع إلى الخير ويكبح جماح الإنسان نحو الشر، المؤسسة الإعلامية يجب أن تتحمل مسؤولياتها في بناء الإنسان، إنسان الغد لهذه الأمة؛ بل إنسان الغد للعالم الإسلامي بالدرجة الأولى وللعالم كله. الإنسان الهدام، الإنسان السيئ الإنسان المجرم خطر على نفسه وعلى بيته وعلى وطنه وعلى العالم كله، ومالم ننهض بتكوينه تكويناً صالحاً فإن هذا الإنسان يغدوا وورماً سرطانياً في جسم الأمة والبشرية، أجل المؤسسة الإعلامية لا ينبغي أن يكون دورها وصف الواقع، نحن في غنى عن وصف واقعنا، وصف الواقع تكريس للواقع وواقعنا ليس صالحاً، والفن في هذا الإعلام لا ينبغي أن يكون صورة للواقع؛ بل ينبغي أن يكون صورة لما ينبغي أن يكون عليه الواقع، إرشاداً لما يجب أن يكون عليه الأمر، لا تكريساً لما هو في واقع الأمر، أين دور المؤسسة التعليمية والمؤسسة الإعلامية؟ ونحن مسؤولون عن مؤسستنا الإعلامية، ومسؤولون عن مؤسستنا التربوية، من أودع ابنه عند مؤسسات تربوية أخرى فذاك شأنه؛ لكن المؤسسة التربوية في أمتنا وفي بلادنا ينبغي أن تتحمل مسؤولية الإسهام بدورها الفعال في تكوين الإنسان السوي الإنسان الذي ينهض بمسؤولياته لبناء هذه الأمة ولبناء وهذا الوطن، المؤسسة القضائية والمؤسسة الأمنية، كل هذه المؤسسات ينبغي أن تمارس دوراً متكاملاً في تكوين إنسان ينهض بمسؤولياته في بناء وطن وأمة سليمين على النحو الذي أمر الله عزَّ وجل به، وأن يكونوا أداة إصلاح لا أداة إفساد، أداة بناء لا أداة هدم، الإنسان هو المؤثر الأول في سلامة هذه الأمة، والإنسان هو أداة الإصلاح إذا صلحت، وهو أداة الإفساد إذا فسدت.
إن دور المؤسسة التربوية دور عظيم، ويجب أن تتحمل مسؤولياتها في هذا، هناك قيم لا يختلف عليها اثنان سويان طبعاً – كالأخلاق القويمة من حسن الجوار والإخلاص، والصدق والأمانة وبر الوالدين وصلة الرحم، والطهارة ، دوافع الخير، هذه أمور مشتركة من أنكرها أنكر الخير كله، فإذا كان له عقيدة مخالفة لعقيدتنا، فليوظف عقيدته في ذلك لتصب في النتيجة المشتركة، فالله تعالى خاطب أهل الكتاب قائلاً :)قلْ يا أهل الكتاب تعالوا إِلى كلمة سواء بيننا وبينكم(، ونحن نقول لكل طيف من أطياف مجتمعنا أسهِمْ من خلال ما تعتقد: في البناء وفي الإصلاح.. في الخير.. في تكريس القيم الصالحة لهذا المجتمع؛ ولكن ليس على حساب إلغاء الحقيقة الثابتة في معتقداتنا، وفي شريعتنا، وفي القيم الأخلاقية الراشدة التي دعا إليها ديننا. هي قيم مشتركة، فلنرسخها ولنكرس لها، والدافع الديني هو من أقوى الدوافع للإصلاح إذا ما وظف توظيفاً صحيحاً، لئلا يقول قائل إن التربية الدينية تدعو إلى التعصب أو إلى التطرف، خسئ من دعا إلى التعصب أو التطرف باسم الدين. الدين الحق هو ما أمر به الله عزَّ وجل لا ما يدعو إليه المضللون، ولا ما تدعو إليه فئات هدمت بدلا من أن تبني، وخربت وأفسدت بدلاً من أن تصلح، الدين الحق هو الذي أنزله الله عزَّ وجل وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما تجده من تطرف يتقنع باسم الدين فهو أول عدو لهذا الدين، وهو أول محارب لهذا الدين، ومصدر محاربته للدين واضحة، ألم تروا ما فعلوا في الأمس من انتهاكٍ لحرمة قبرين، قبر سيدنا أويس القرني الذي أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر عمار بن ياسر رضي الله عنه، وباسم الإسلام انتهكوا حرمة صحابي وتابعي، أهذا هو الإصلاح؟ هذا تصرف لا علاقة له بالدين ، هذا تصرف أوحت به الدوائر الأجنبية لتشويه هذا الدين، واستعملتهم مخلباً قذراً للإساءة لهذا الدين وقيم هذا الدين، عندما يصور الدين على أنه قتل وذبح وتدمير وإفساد وتهديم أو ممارسة لتهديم الوطن بكل مقوماته؛ هذا ليس ديناً، والدين بريء منه، وما رأينا ديناً يأمر بذلك، هذه خيانة للدين وهذه محاربة للدين ونأسف أن يرتضي بعض رموز الدين أن يكونوا قناعاً أو غطاء لهؤلاء أو وسيلة وصولهم إلى بلادنا وليعيثوا فيها فساداً.
أقول الإصلاح والبناء يبدأ بالإنسان وينتهي بالإنسان وكل الجوانب الأخرى إنما هي نتيجة لتكوين الإنسان السوي إن قلنا البيئة فالإنسان هو من يصلح البيئة وهو من يتأثر بالبيئة، وإن قلنا الزراع فالزراعة تبدأ بالإنسان، فهو الذي يزرع وهو الذي يحصد، وإن قلنا الصناعة فإن الصناعة هي صنع الإنسان والذي يستفيد منها هو الإنسان، فالإنسان هو الأداة الأولى للبناء، وهو الأداة الأولى للإصلاح، وهو الذي ينبغي أن تركز الاهتمامات كلها في سبيل بنائه بناءً سوياً .
خطبة الجمعة 28-3-2014


تشغيل

صوتي