مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 28/02/2014

خطبة الدكتور توفيق: حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ


حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ
د. محمد توفيق رمضان البوطي
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:)له معقّبات مّن بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر اللّه إنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأَنفسهم وإذا أراد اللّه بقوم سوءًا فلا مردّ له وما لَهم مّن دونه من والٍ( وقال سبحانه: )ذلك بأنّ اللّه لم يك مغيِّرًا نّعمة أنعمها عَلى قوم حتَى يغيّروا ما بأنفسهم وأنّ اللّه سميع عليمٌ # كدأب آل فرعون والَّذين من قَبلهم كذَبوا بآيَات ربّهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكلّ كانوا ظالمِينَ( وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"
أيها المسلمون: التغيير أمرٌ أشار إليه كتاب الله عزَّ وجل بدلالة معينة سأوضحها إن شاء الله، والتغيير أيضاً بمعنى الإصلاح وإنكار المنكر، بمعنى التحول من الوضع السيئ إلى الوضع الحسن، من الوضع الفاسد إلى الوضع الصالح، من الشر إلى الخير، أمرٌ كلفنا شرعنا الحنيف بأن نبادر إليه، متخذين الوسائل التي تحقق الهدف من ذلك بأن يكون التغيير باليد، إذا كان هناك أمرٌ وضعه خطأ، أو أن هناك سلوك يجري على نحو غير صحيح فيمكن أن يكون تقويم هذا الخطأ أو هذا الأمر المعوج باليد، ويمكن أن يتم باللسان، فإن أعياه أن يغيره بيده، وعجز عن أن ينكر عن صاحب هذا الخطأ بلسانه، فلا أقل من أن يستنكر هذا الأمر بقلبه، وذلك أضعف الإيمان، أقل ما يمكن أن يصدر عن إنسان مؤمن عنده غيرة على دينه، وعلى قيم الخير والحق في هذا المجتمع. التغيير الذي نراه في الآية مرتبط بالتغيير الذي أشرت إليه في الحديث، فما يمكن أن نراه في مجتمعنا من خطأ وانحراف وشرٍ أو سوء، هو سبب لكثير من المصائب والانحرافات والشذوذات التي يعاني منها مجتمعنا، وسبب لمصائب تنزل بنا من الله عزَّ وجل، وقد كانت حالتنا على خير، فما بال الحال قد تغير من خير إلى شر، ومن بحبوحة إلى ضنك وشدة، ومن سعة وراحة وأمان إلى ضيق وقلق واضطراب وحالة لا نحسد عليها، الأمر بيانه في كتاب الله عزَّ وجل يقول فيه: )ذلك بأنّ اللّه لم يك مغيّرًا نِّعمة أنعمها على قوم حتَى يغيّروا ما بأنفسهم( إذا كنا قد سرنا على نحو سويٍ ولو إلى حد فانعطفت نفوسنا نحو السوء، كنا نربي أولادنا على خير فأهملنا تربية أولادنا، كنا نأمر بالصلاة وكنا نقيمها وكنا نستر نساءنا، وكنا نعنى بتربية بناتنا، فأهملنا ذلك وعهدنا إلى وسائل التضليل أن تتولى ذلك عنا، طبعاً هذا زرعٌ لا نحصد منه إلا المصائب والفتن والشدائد، وهذه مقدمة تفضي إلى تلك النتيجة، وهو أننا لن يضيق الأمر على ما كنا عليه من البحبوحة والسعة والخير؛ بل سيتحول الأمر بنا كلما تحولنا نحن عن خط كنا نسير عليه، والتغيير إما أن يكون من حسن إلى سوء أو من سيء إلى حسن، والتغير من السيئ إلى الحسن أشار إليه ربنا تبارك وتعالى في كتابه عندما قال: )ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات مّن السّماء والأَرض( فسلوكنا سبيل الإيمان، سبيل التقى، سبيل الرشاد، سبيل التراحم، مقدمة تفضي بنا وطريق يؤدي بنا إلى تغير الحال من السيئ إلى الصالح، ومن الشر إلى الخير، ومن المعاناة والضنك إلى السعة والبحبوحة والراحة والطمأنينة، فنحن ما نزرع نحصد، وما نعملْ نجدْ في الدنيا نتائجه، وسنجد في الآخرة أيضاً نتائجه، ولاشك أن النتائج في الآخرة أعظم إلا أن نتائج الدنيا عنوان لنتائج الآخرة، ونسأل الله تعالى العافية.
ما نحن فيه الآن عنوان خطير للخطأ في طريقة التغيير، صحيح أننا كنا على خطأ في السلوك، خطأ في التربية، خطأ في التعامل، خطأ في دوائرنا، خطأ في أسواقنا، وأن هذا الخطأ ينبغي أن يصحح، وكنا مع وجود بعض الأخطاء في مجتمعنا على حالة من الرخاء أظن أن كثيراً من بلاد العالم تفتقر إلى مثله، كنا على حالة من السعة.. من الطمأنينة..من الأمان، على نعمة أعتقد أن قليلاً من بلاد العالم يتفيأ ظلال مثل تلك النعمة، فلما تنكرنا لتلك النعمة، وجدنا عواقب ذلك التنكر.
ولننتقل إلى مسألة التغيير الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، التغيير تحول من وضع مُنكر إلى وضع معروف، من وضعٍ خطأ إلى وضعٍ صواب، من وضعٍ سيئ إلى وضعٍ حسن، فالتغيير لا يسمى تغييراً إلا إذا كان تحولاً من وضعٍ إلى نقيضه. إذا كنا في حالة من الخطأ فالتغيير يقتضي أن نتحول من الخطأ إلى الصواب، أما إذا كنا على حالة من الخطأ فتمادى بنا الخطأ؛ فهذا لا يسمى تغييراً، هذا يسمى إمعاناً في الخطأ، إذا كنا على حالة من السوء فقامت جهودٌ أدت إلى بنا إلى ما هو أسوأ فهذا لا يسمى تغييراً، ولا يسمى إصلاحاً، هذا يسمى إمعاناً في السوء ومعاندةً ومكابرةً وتكريساً وترسيخاً لمنطق السوء والشر في المجتمع، ولقد تكلم العلماء عن قضية إنكار المنكر، فقالوا: أولاً ينبغي أن يكون المنكَر منكَراً متفقاً على إنكاره، فقد يكون في اجتهاد البعض هذا الأمر منكراً، وفي اجتهاد الآخرين يعتقد أنه صواب – أي في الميزان الشرعي - فهناك أمور ليس متفقاً على أنها خطأ، الجمع بين الظهر والعصر في السفر عند السادة الشافعية مشروع، وعند السادة الحنفية لا يشرع إلا في يوم عرفة، فقد ينكر إنسان حنفي على واحد مثلي أن أجمع بين الظهر والعصر في سفر إلى مدينة بعيدة ما؛ لأنه ينظر من زاوية واحدة. الجاهل ليس له أن ينكر، الجاهل يتعلم، الذي ينكر هو ذلك الرجل العالم الذي عرف أن هذا منكر في المقياس الشرعي كله، لا في نظر بعض الفقهاء دون البعض الآخر؛ هذه نقطة.
النقطة الثانية: أنا أريد أن أنكر أي أن أغير، والتغيير كما قلت هو تحول من منكر إلى معروف، من خطأ إلى صواب، من سيئ إلى حسن، فإذا أدى إنكاري إلى زيادة الشر، زيادة المنكر، زيادة السوء فإن إنكاري هو منكرٌ بحد ذاته، إن إنكار المنكر بأسلوب أو بآخر إذا كان يؤدي إلى ترسيخ هذا المنكر، وتزايده وتناميه، فهو بحد ذاته منكر. الذين ادعوا أنهم يريدون الإصلاح ورفعوا عقيرتهم في الشوارع وعلى المنابر وفي الأزقة، وعلى وسائل الإعلام ينادون بالإصلاح، أي إصلاح هذا الذي أدى بنا إلى ما نرى ؟! أي إصلاح هذا الذي أوصلنا إلى الحالة البائسة التي نعاني منها ؟! أي إصلاح هذا الذي يقتضينا أن نستجير من الرمضاء بالنار، لننتقل من ولي أمر لنا في بلادنا إلى عدوٍ على بعد آلاف الكيلو مترات يأتي ويتوعد بلادنا بالاحتلال والقصف والنسف وغير ذلك ؟! أي إصلاح هذا إذا كان يمر عبر تدمير المنشآت، وقصف المساجد، وقتل الناس، وسفك الدماء؟! أي إصلاح هذا؟! هذا هو إنكار المنكر؟! هذا هو التغيير؟ أهذا هو الإصلاح؟ أين عقولنا؟ أين الموازين الشرعية؛ بل الموازين العقلية؟ أنا عندما أريد أن أصلح وطني لا آتي بإسرائيل لتصلح وطني، إسرائيل لا تصلح وطني، إسرائيل تدمر وطني. الذين يصفقون اليوم، نعم الذين يصفقون اليوم لما يدعى أنه إصلاح وبأنه تغيير، وبأنه .... يصفقون للعدو في اعتداءاته، وفي تهديده وفي توعده لوطننا هذا، هم المنكر بحد ذاته )هم الْعدوّ فاحذرهم قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون( الإصلاح لا يمر عبر قصف المصانع، ونسف الجسور، وإحراق المنشآت، وضرب المساجد، أجل إن أنكروا فهذا مشاهد، ورأيناه بأم أعيننا كيف يستهدفون المساجد والمصانع، وكلنا يعاني من أزمة الكهرباء، وأزمات كثيرة أخرى، بل لقد توعدوا بنسف السدود، وكلكم يعلم ذلك، أهذا هو الإصلاح؟ أهذا هو التغيير؟ هذا هو الإفساد بعينه.
منطق الإصلاح عندنا مشروط بأن لا يترتب على المنكر منكر أكبر، فإذا ترتب على إنكار المنكر منكر أشد، فإن إنكاره هو المنكر، ثم إن لإنكار المنكر أسلوباً، ربنا تبارك وتعالى عندما علم موسى عليه الصلاة السلام أن ينكر على فرعون؛ لا أقول عامة الناس، ولا أقول مسؤول ولا غير ذلك، على من قال أنا ربكم الأعلى قال: )فقولا له قولًا لّيّنًا لّعلّه يتذكّر أو يخشى( وحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما أرسل إلى ملوك عصره يدعوهم فيه إلى هذا الدين، لم يرسل إليهم: ارحل، ولا تنازل، أرسل إليه: ((من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم – أقره على صفته التي هو عليها – أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن لم تفعل؛ فإن عليك إثم الأريسيين)) وباللغة نفسها خاطب المقوقس، وباللغة نفسها خاطب كسرى، وكسرى وهرقل وقيصر وغيرهم، كلهم كانوا طغاة بغاة مفسدين في الأرض كفرة متألهين في الأرض. منطق الإصلاح لا يمكن أن يمر الإصلاح عبر قنطرة الإفساد، الغاية لا تسوغ الوسيلة، والذرائعية الموجودة عند الآخرين مرفوضة في منهجنا: فالغاية الشريفة لا يمكن أن نتوصل إليها بوسيلة خسيسة، والوسائل الخسيسة لا تفضي إلا إلى نتيجة خبيثة، هذا شيء يجب أن يعرف، التغيير من شر إلى خير يكون بوسائل خيرة، ويكون بأساليب خيرة، ويكون بمنطق إصلاحي لا بمنطق إفسادي، عندما تدرك الأمة سبيل التغيير، وتنتقل من مسلك الخطأ إلى مسلك الصواب يغير الله الحال، وننتقل من ضيق إلى سعة، ومن خوف إلى طمأنينة، ومن انحراف إلى خط قويم، عندما نصحح المسار كأمة، كدعاة، عندما نصحح مسارنا وتستجيب الأمة للكلمة الطيبة، ويقوم التفاعل بين الداعية والمدعوين، وبين الناصح والمنصوحين بالأسلوب الذي نصح الله عزَّ وجل به، عندئذٍ يكون ما وعد الله عزَّ وجل به: )ولو أنّ أهل القرَى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات مّن السّماء والأَرض( أما إذا أمعنا في منطق الشذوذ والانحراف والإعراض، فإن العاقبة لن تكون حسنة، ولن نستقبل أو لن نتوقع ولا ينبغي أن نتوقع خيراً يتولد من شر، من يزرع الشوك يحصد الشوك، ومن يزرع القمح يحصد القمح، من يمشي بالإصلاح على النحو الذي أمر الله عزَّ وجل به سيجني ثمرة ذلك الإصلاح، ومن شذَّ عن طريق الإصلاح الذي أمر الله عزَّ وجل به، وسلك تلك السبل التي تدعي الإصلاح وهي )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ # أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ( والأنكى من ذلك أن يكون شاعراً بأنه مفسد ويدعي أن إفساده إصلاح.
أقول بعد ذلك للمصلحين: ابدأ بنفسك، ابدأ فأصلح نفسك أنت، والإصلاح لا يكون بالاستجارة بعدو، ولا بالعمالة لخصم، بل يكون بأن أبدأ بإصلاح نفسي )أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ( ويقول سبحانه على لسان أنبيائه: )قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( أنهاكم عن الشيء ثم أمارسه، أقول أريد السلام والطمأنينة للبلد، ثم أجلب له الشر والدمار والخراب والقتل وسفك الدماء، أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، لا بأميركا ولا بإسرائيل ولا بفرنسا، إنما نستعين بالله، ونستضيء بهدي الله ونمشي على خطى الخير التي رسمها لنا كتاب الله وسنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
من الخطبة الثانية
أيها المسلمون: صلينا منذ أسابيع قريبة صلاة الاستسقاء بعد دعوة إلى التوبة والإنابة إلى الله عزَّ وجل، وكانت الدعوة موجهة من ولي الأمر، وأعتقد أننا وجدنا استجابة لربنا تبارك وتعالى للدعاء بقدر الدعاء، أي أننا دعوناه قليلاً فجاءنا من الغيث القليل، والتحول والتغير لم يكن بذلك القدر الذي يمكن أن يتم فيه التغيير، واللهُ لا يغير إلا إذا تغيرنا، ولا يصلح إلا إذا أصلحنا، ولذلك فإني أناشد السادة المسؤولين وولي الأمر بالذات أسأل الله أن يسدد خطاه ويوفقه لما فيه خير الأمة، أناشده أن يكرر الدعوة إلى صلاة الاستسقاء، وأن يكرس لها بدعوة متكاملة فيها معنى الإصلاح، إصلاح النفوس إصلاح التعامل إصلاح البيت والأسرة، إصلاح كل مرافق هذا المجتمع، بحيث تكون هناك برامج إصلاحية مثمرة ومؤثرة في مجتمعنا إن شاء الله تعالى، عسى الله إذا ما رسمنا خطة إصلاح أن يغير الله حالنا من معاناة إلى تنعم وخير وبركة ورزق وسعة إن شاء الله تعالى.
أسأل الله أن يرفع مقته وغضبه عنا، كلنا يعلم أوضاعنا، أوضاع بيوتنا، أوضاع أسواقنا، أوضاع دوائرنا، وخطة الإصلاح تكون بإنكار ما هو منكر والدعوة إلى ما هو معروف ، و بأن يكون كل امرئ مسؤلاً عن أسرته ، وولي الأمر مسؤل عن المجتمع ككل ، ولكن إذا ما تخلينا نحن عن مسؤلياتنا الخاصة ؛ فإن ولي الأمر لا يملك أن يغير بيوتنا نحن ، الذي يملك تغير بيتك ، والذي يملك تغير نفسك هو أنت ، ابدأ بنفسك ستجد أن الإصلاح أثمر وآتى أُكله
خطبة الجمعة 28-2-2014


تشغيل

صوتي