مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 22/02/2014

خطبة الدكتور توفيق: المنتسبون للعلم بين الإفراط والتفريط


المنتسبون للعلم بين الإفراط والتفريط
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ( ويقول سبحانه :)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( ويقول جلَّ شأنه:) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ(روى أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليهم وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع" ، وروى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَتِهِ" وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي يرويه عن ربه أنه قال: "إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ"
أيها المسلمون: تعاني الأمة المسلمة اليوم الكثير، إلا أن مما تعاني منه تطرفين في صفوف منتسيبي العلم والشريعة، تطرف ومقابله تطرف آخر بين إفراط وتفريط، إفراط يتمثل في غلو تجاوز صاحبه الشرع، ورمى الأمة في شدةٍ تخالِفُ بها أمرَ الله سبحانه وتعالى، فجعل الفتنة جهاداً، وجعل اقتتال الناس فيما بينهم ثورة، وأمعن في التحريض على إثارة الغوغاء فيما بين الناس على النحو الذي نرى، ويؤلمنا ما نرى. وفريق يقابله أيضا من منتسبي العلم والدين ضيع حدود الله وخالف أوامره بترك ما أمر الله عزَّ وجل به، وحض على التقصير والتفريط في أمر الدين، بل عدَّ الدين سبباً فيما نرى من المشاكل والفتن، أنا لا أستغرب من العامة أن يتصوروا ذلك، فالهدف من هذه الفتنة تشويه الدين، ولا أستغرب أيضاً من أعداء الدين أن يصوروا الدين بهذه الصورة القبيحة التي تقترن فيها أسوأ أنواع الجرائم بشعارات التكبير والتهليل وتحت كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذا إفراط وذاك تفريط، وهما صورتنا متناقضتان في الشكل متكاملتان في الأداء، فالنتيجة واحدة، والثمرة واحدة، هي تضييع هذا الدين وجعله مهملاً مضيعاً في مجتمعاتنا، ما أظن أن الدين أصيب بحالة مؤلمة من سوء الفهم كما أصيب اليوم على يد من يدعون أنهم من أبنائه، ولو أنك دققت لوجدت الأمر مصدره ليس من المجتمع وليس من أبنائه، ولكن أبناءه ارتضوا أن يكون أداة ومخلباً في تحقيق هذا الهدف السيئ في تشويه أمر الدين والإساءة إليه.
إنهما فريقان متطرفان، فريق رمى الأمة في أتون العنف والشدة مدعياً أن هذا من شرع الله، وهو مبطلٌ في ذلك، فدفع بالأمة في فتنة عمياء مما أدى إلى أثر سلبي بغّض الأمة به الدين إلى الناس بصورة تناقض حقيقته، وتخالف مبادئه، وفريق وهو أيضا من منتسبي العلم والدين، يدعي أن تربية النشء على التدين سبب للعنف والشدة والفتنة.
أقول: كلا الفريقين يتمم الآخر في الإساءة إلى دين الله عزَّ وجل، على الدعاة اليوم أن يلزموا حدود الله عزَّ وجل، فلا يشوهوا حقيقة هذا الدين بدعاوى مزيفة تسيء إلى حقيقة وجوهر هذا الدين، ولعل البعض يخدم من حيث يعلم أو لا يعلم هدفاً لأعداء الدين من الغربيين والصهاينة في الإساءة إلى جوهر هذا الدين الحنيف. إن كل عاقل فهم كتاب الله عزَّ وجل إذ قال: ) قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ( )لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ( الغلو في الدين إن كان إفراطاً فهم غلو، وإن كان تفريطاً فهو غلو. كل عاقلٍ فهم كتاب الله ومنهج التربية النبوية فيه، يدرك أن تربية الطفل تبدأ منذ اختيارك لزوجتك، لا أقول في سن البلوغ ولا في سن المراهقة ولا في سن السابعة، بل أقول منذ بحثت عن شريك حياتك لتبني معها أسرتك، تختار الإنسانة الصالحة التي تعينك على تربية أولادك، فإذا ما أكرمك الله بالولد بدأت العملية المباشرة منذ ولادته، فالسنة أن تؤذن في أذنه اليمنى وتقيم في اليسرى وأن تحنك وأن تختن، وإذا ما بدأ ينطق كانت أولى الكلمات التي ينطق بها تلك الكلمات التي تملأ البيت بركة ونوراً وهدىً، لا أن يعلم السب والشتم والبذاءة والكلمات القبيحة، ينبغي أن لا يطرق سمع الطفل في بيوتنا ما يمكن أن يغرس فيه تلك القباحة والبذاءة التي نجدها في شوارعنا نتيجة إهمال البيت، وليس المسؤولية على البيت فقط، فهناك تكامل في التأثير على تربية أبنائنا، على تربية النشء. تتضافر كل البيئة في التأثير على تربية هذا الطفل، البيت يُرضعه لبان التربية القويمة منذ ولادته، لكل مرحلة بما يناسبها، وتضييع التربية في مرحلة من مراحل نشأته يؤثر على المراحل التي تليها. والتربية كما قلت لكم عملية متكاملة، تتضافر جهود الأبوين في البيت مع المؤثرات البيئية والاجتماعية، مع المدرسة مع وسائل الإعلام كلٌ له تأثيره في تربية هذا الطفل، كلٌ له تأثيره في تنشئة هذا الطفل على الخير أو على الشر، في تحبيب الهداية إليه أو الضلالة، في غرس الخلق القويم أو الخلق السقيم القذر فيه، إننا ينبغي أن نجذر في نفوس أبنائنا وبناتنا منذ نشأتهم الأولى معاني الخير والفضيلة، ومعاني الخير والفضيلة ترتكز على الإيمان بالله، ترتكز على محبة الله، ترتكز على مراقبة الله، نجذر في قلب الطفل معنى الإيمان بالله عزَّ وجل، إيماناً عقلياً يرتبط بالقلب، نربط بين النعمة والمنعم، فيحب الله عزَّ وجل، ونربط بين المعصية وآثارها السيئة من أذى وضر وفساد، فأبغض إلى قلبه وأكره إلى نفسه العمل القبيح. وهذا ليس دور الأبوين فقط، هو دور المؤسسة التربوية بكل مقوماتها، من مدرسة إلى إعلام إلى شارع وبيئة اجتماعية إلى البيت، كلنا ينبغي أن تتضافر جهودنا في تنشئة الطفل تنشئة سوية صحيحة تنشئة سليمة، ومن عجب أن يدعو البعض إلى هجر التربية الدينية في المرحلة الأولى من تربية الطفل خلافاً لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافاً لما أمر به كتاب الله وهديه، وخلافاً لما أمر به الله عزَّ وجل )قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ( وولي الأمر مطالبٌ أيضاً بتحمل مسؤوليته بتربية أبناء هذا المجتمع من خلال الوسائل المختلفة، من خلال المؤسسة التربوية ومن خلال المؤسسة الإعلامية، أجل كلنا شركاء في تربية هذا الجيل، والله ما صار الذي صار في شوارعنا ولا في بلادنا إلا نتيجة غياب التربية الدينية الصحيحة، اليوم ونظراً لأن الدين صار ضحية أبنائه من بين الإفراط والتفريط فإننا لله نشكو أن أبناء هذا المجتمع صاروا ضحية فريق شوه معاني الدين فدعا إلى التطرف والغلو والقتل باسم الإسلام، وآخر أيضاً نسب ذلك إلى الإسلام ليتمم كلاهما دور تشويه الدين والإساءة إلى مبادئه.
ترى متى يتعلم طفلي الإيمان بالله عزَّ وجل تعليماً راقياً يغرس في قلبه تلك الأدلة العقلية والمشاعر الوجدانية التي تجعله يؤمن أن هذا الذي يجري في هذا الكون هو صنع الخبير الحكيم، فيحبه ويخشاه ويستشعر رقابته؟ فإذا ما غابت رقابة الأبوين حضرت رقابة الله في قلبه، رقابة الله التي تجعله راغبا إليه راهباً من معصيته، مقبلاً على الصدق مدبراً عن الكذب، يدرك أن مراقبة الله عزَّ وجل هي الرصيد الأقوى في تقويم اعوجاج حتى الطفل، الطفل إنسان مثلك وهو متكامل التكوين تماماً كمثلك، إلا أن مداركه وهضمه للمعاني قد يكون بحاجة إلى غرس تلك المعاني بصورة أكثر بساطة، أما أن نقول: لا، نبدأ عندما يصبح في عمر الثلاثة عشر أو الأربعة عشر فهذا من التخريب في تربية أطفالنا وتربية جيلنا، عندما ننشئ الطفل على محبة الله على محبة سيرة رسول الله، نغرس في قلبه محبة النبي صلى الله عليه وسلم، جميع العلماء و كتب الفقه وكتب التربية الإيمانية، إنهم جميعاً يؤكدون أن عليك منذ نشأة الطفل في بدايتها أن تغرس في قلبه محبة الله ومحبة رسوله، فتعرفه على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تعرفه على شمائله، تعرفه على أخلاقه، تعرفه على تربيته حتى يحب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أحبه اقتدى به ، والنبي صلى الله عليه وسلم نموذج للطفل في طفولته، وللشاب في شبابه، وللقائد في قيادته، وللزوج في زوجيته، لكلٍ هو أسوة حسنة لنا جميعاً فطفولته صلى الله عليه وسلممدرسة، وشبابه مدرسة، ومراهقته مدرسة، وأطفالنا يمكن أن يتعلموا في تلك المدرسة ، تلك الشمائل العظيمة التي تمثلت في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، ترى إذا أهملنا تعليم أطفالنا منذ النشأة الأولى ماذا يتعلمون ؟؟ يتعلمون في هذا الجهاز الرائي العنف والجريمة، ما هي معروضات الشاشة القذرة التي نراها اليوم، والتي قد فتحت أبواب جهنم كلها علينا، ماذا يتعلم فيها الطفل؟ إذا لم نربه ونحصنه تربى تربيته من شاشة التلفزيون، تعلم المكر، تعلم الرذيلة، تعلم الفساد ، تعلم السرقة ، تعلم الشتم، تعلم الإجرام، تعلم العنف، وهذا الذي تعلمه أفلامنا والأفلام التي تعرض في الشاشة الصغيرة.
إلى من تعهدون في تربية أطفالنا، إذا لم تتولى المؤسسة التربوية مع البيت مع الإعلام رعاية هذا النشء سينشأ نشء كما نراه اليوم احترف الإجرام واحترف العنف واحترف الظلم والبغي والعدوان. طبعاً بعضهم يقولون: المتدينون مارسوا بعض الأشياء الأعمال الإرهابية، إذن فهذا نتيجة الدين؟ يا لله على هذه المغالطة، هذا ظلم للحقيقة، الإسلام يغرس في القلب "ألا أدلكم على أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون" هذا ما علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم، ما علمنا القتل ، ولا علمنا الظلم ، ولا علمنا نهب الأرزاق ، ولا علمنا الشدة والقسوة ، علمنا التحابب ، علمنا التعاطف ، علمنا الأمان ، إن كل خلق إذا لم يرتكز على رقابة ذاتية لا يمكن أن يكون مثمراً، والواقع الغربي خير شاهد على ذلك، طبعاً إذا أسيء عرض الدين وتلقينه لأبنائنا ستكون النتائج السلبية معروفة، ولكن ترى لو أن إنساناً أصيب بالصداع أيكون علاجه بقطع رأسه أم بمداواته ؟ ترى لو أن إنساناً أصيب بشيء من الألم أنقطع العضو المتألم منه أم نعالجه.
هناك تقصير في المناهج، هناك تقصير في العملية التربوية ويجب أن تعالج، بأن يهيأ ويعَدّ المربون والمدرسون، والمدرسات في المؤسسة التربوية ، ويجب ان نعد المناهج المدروسة التي ينبغي أن تكون على درجة من الإحاطة بجوانب التربية كلها على النحو الذي يحقق أهدافها، هذا أمر مطلوب، ولكن لا تعالج المسألة بأن نلغي التربية أبداً، لا تعالج التربية بأن نفسد التربية، بأن نلغيها ونغيبها. إلى من تعهد بالتربية إذا غيبت التربية الدينية؟ حدثني .. أإلى الشاشة؟ أم إلى الشارع؟ أم إلى الأبوين الذين قد لا يكونان على مقدرة وافية بالمسؤولية التربوية؛ إذا لم تتكامل معهما المؤسسة التربوية المدرسية.
لا ينبغي أن يعالج المرض بالقتل، ولا يعالج الصداع بقطع الرأس، ولا يعالج تقصير المؤسسة التربوية في تلقين التربية الدينية بإلغاء التربية الدينية، بل بترسيخ التربية الدينية على النحو الرشيد، على النحو السديد، على النحو الذي يحقق الأهداف التربوية الصحيحة، وهذا أمر كنت مرة في فرنسا ، ونظراً لتفشي الجريمة والفساد حتى في صفوف الأطفال، رئيس فرنسا آنذاك - وفرنسا دولة علمانية صريحة في علمانيتها - يعني أن الدين فيها مستبعد من المؤسسة التربوية، اقترح آنذاك إعادة تدريس التربية الدينية على ما هي عليه، مع ما فيها من نقص في نظرنا نحن، ومن عجب أن يقترح بعض منتسبي العلم إلغاء التربية الدينية عندنا، هذا ظلم للنشء وظلم للتربية الدينية بآن واحد.
أسأل الله أن يلهمنا السداد والرشاد ، وأن يوفقنا لما فيه نهوض هذه الأمة وسلامة مسيرتها .
خطبة الجمعة 21-2-2014


تشغيل

صوتي