مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 07/02/2014

خطبة الدكتور توفيق: التجارة الرابحة


التجارة الرابحة
د.محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ # تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ # يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ # وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن حجر في المطالب العالية: "ألا أدلكم على ما ينجيكم من عدوكم، ويدرُّ لكم أرزاقكم، تدعون الله في ليلكم ونهاركم، فإن الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين، ونور السموات والأرض"
أيها المسلمون: يدلنا ربنا سبحانه وتعالى على صفقة تجارية نعقدها معه، وليس من تجارة رابحة أعظم من التجارة مع الغني الكريم -سبحانه وتعالى- مع من هو غني عنا ونحن فقراء إليه، مع من أغدق علينا من فضله وإحسانه حتى مع تقصيرنا وانصرافنا عن طاعته والتزام أوامره، التجارة التي يدعونا إلى إبرامها معه، وكما هو معلوم، التجارة معاوضة، يبذل كل طرف ما عنده من مطلب للطرف الآخر – والعوض هنا المبذول من الإنسان هو الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إيماناً حقيقياً، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، والعوض مقابل ذلك من الله عزَّ وجل أولاً: النجاة من النار، والثاني: مغفرة الذنوب والآثام، والثالثة: دخول الجنة، والربعة: نصرٌ من الله وفتح قريب.
إذاً تجارة، المعاوضة فيها تتم وفق ما ذكرنا، يبذل الإنسان من عنده: يحقق معنى الإيمان الصحيح، ويلتزم أوامر الله عزَّ وجل؛ لأن الإيمان بالله ورسوله يستلزم طاعة الله ورسوله، ثم الجهاد -وسنشرح الجهاد- بالمال وبالنفس، والعوض في مقابل ذلك هو ما ذكره بادئ ذي بدء )تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ( النجاة من العذاب، ثم مغفرة الذنوب وما أكثر ما نذنب، وما أحوجنا إلى المغفرة، ثم دخول الجنة التي وصفها أجمل وصف، وأخيراً ما يطمح الإنسان في هذه الدنيا، التي يعارك فيها عدوه ويصارع فيها من يتحداه، )نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(
أيها المسلمون: الإيمان هو غاية التصديق، وغاية التصديق لا تتحقق إلا إذا كانت نتيجة بحث وتأملٍ، ودليل يورث يقيناً، ومنهج ديننا كما تعلمون، أوضحه ربنا في كتابه )قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(، )قُلِ انظُرُواْ –التأمل والتفكر- مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ( )إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( كم تكررت هذه الكلمة في كتاب الله، والآيات هنا بمعنى الدلائل والبراهين، )لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( استنهاض للعقل )يَتَفَكَّرُونَ( تحريض للتفكر والتدبر، )أَفَلا تُبْصِرُونَ( النظر في معالم هذا الكون نظراً يفضي إلى معرفة وفهم وإيمان، )إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ( الإسلام يعتمد ويستند في كل معتقداته على الدليل العلمي، فليس ثمة تبعية عمياء، ولا تقليد للآباء والأجداد، لا تبعية لزعماء وقادة، ولا تقليد لآباء وأجداد، وإنما إتباع للحق الذي ثبت لديك بيقين، وثبت لديك ببرهان ودليل، وإذا كان الدليل والبرهان سبيل الوصول إلى الحقيقة، فإن الدعوة إلى هذا الإيمان تستند إلى أسلوب أمر به الله عزَّ وجل في كتابه ..إنه الحوار، إنه ... )ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( قابل الحجة بالحجة، واجه الدليل بالدليل، إذا ادعيت أثبت دعواك، أثبت صحة دعواك بالبراهين التي تناسب تلك الدعوة.والدعوة الحسية تحتاج إلى دليل حسي، والدعوة العقلية تحتاج إلى دليل عقلي، والدعوة النقلية تحتاج إلى تصحيح النقل وضبطه، الإيمان بالله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سبيله التدبر والتفكر، واستعمال العقل والحوار كما أشرت، فإذا آمن بالله ورسوله كان الدليل العقلي الذي أفضى بك إلى الإيمان بالله ورسوله بوابةً إلى الإيمان ببقية حقائق ديننا، ببقية حقائق إسلامنا مما ثبت بالدليل السمعي، فالدليل العقلي بوابة لقبول الدليل السمعي.
إذاً فالصفقة الأولى هي الإيمان بالله ورسوله، الإيمان بأن الله هو الخالق المدبر الذي خلقك وأودع فيك العقل، وميزك على سائر المخلوقات بما حباك من ملكة التفكير والإدراك فبنى على ذلك أنه حملك مسؤولية المعرفة، ومسؤولية سلوك طريق الخير، وتجنب طريق الشر، ثم أوضح لك أنك وجدتَ يوم وجدتَ بإرادته لا بإرادتك، وتعيش بفضله وبمدده وبنعمه لا بما تملك أنت، بل بما حباك.ثم إنك ستموت رضيت أم كرهت، أردت أم رفضت.أوجدك يوم أوجدك بغير إرادتك، وسوف ينهي حياتك بدون مشيئتك، ثم إنك بعد ذلك ستمثل بين يديه ليقول: )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ( )فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ # وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(
الصفقة الثانية في هذه العملية التجارية: تجاهدون، والجهاد لا يتعين أن يكون بسيف، إن مرحلة الجهاد النبوي تنقسم إلى شطرين، شطر منهما استنزف ثلاثة عشرة عاماً من حياة الدعوة الإسلامية من عصر النبوة، والشطر الثاني أمضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات.
الشطر الأول كان دعوة بالحوار والحجة والبرهان، بل واجه المكابرة والاستهزاء والاضطهاد بالصبر والدليل والبرهان، والحوار بالتي هي أحسن، وفي السنوات العشر استعمل الأسلوب نفسه وبنى دولته، واستعمل أيضاً وسيلة الجهاد القتالي؛ لكن الجهاد القتال كان أشبه بالدواء الجراحي عندما يستعصي الشفاء على الدواء العلاجي.
نعم، ربنا تبارك وتعالى ربط بين أمرين، الأمر الأول هو الإيمان، والأمر الثاني هو الجهاد. والجهاد أن تبذل الجهد فيما يرضي الله عزَّ وجل بمالك حيث يشح الإنسان بماله ويبخل ويضن، ويتمسك به ويتشبث. ومطلوب منه أن يبذل ويعطي، وقد وعد الله عزَّ وجل من يبذل وينفق بأن يعوض عليه أضعافاً بالدنيا والآخرة، وتوعد الممسك الشحيح بالتلف والضياع والخسارة، وفي الدعاء "اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعطي ممسكاً تلفاً ".
تجاهدون بأموالكم وأنفسكم...اليوم، الذين يرفعون اسم الجهاد..أين هو الجهاد من واجب البذل لأولئك الذين شردهم الجهاد الباطل؟ الجهاد أن نؤوي تلك الأسر التي شردت باسم الجهاد، أن نسعى في سبيل نشر الأمان لمن عاشوا بحالة الفزع والخوف باسم الجهاد، أن نعيد إليهم الطمأنينة، أن نبذل لهم، لا أن نستغل حاجتهم باسم الجهاد. يحتبسون القوت ويحتكرونه ويبيعونه للناس بأضعاف كثيرة باسم الجهاد..! يجوعون ويضطهدون، ويقتلون الأبرياء باسم الجهاد..! الجهاد أن تنفق على المسكين، لا أن تمسك عنه، أن تشاطره ما لديك ولو قلّ، اقتسم رغيفك أنت وإياه، لا بأن تنتزع منه رغيفه ثم تبيعه إياه. وكلكم يعلم ما الذي يجري باسم الجهاد. الجهاد أن تتخلى عن رغبة نفسك، وتجاهد نفسك فتنفق بدل من أن تمسك، وتبذل بدل من أن تبخل، وتعطي بدل من أن تشح.أن تلامس آلام المتألمين بالحنان والرحمة، لا بالفظاظة والغلظة والخشونة والهمجية والوحشية، أن تلامس هؤلاء المساكين الذين عاشوا ثلاث سنوات في ظل الجهاد المزيف المشوه الذي لا يحمل من الجهاد إلا اسمه.
أما آن لنا أن نستيقظ !! أما آن لنا أن ننبذ هذه المفاهيم التي ابتليت بها أمتنا وابتليت بها بلادنا !! وأن نمسح على الجراح، ونوقظ النفوس من غفلتها بالرفق، بالعقل، بالدليل.لا بالقهر والاضطهاد والقتل.كلكم يسمع وكلكم يرى، ربنا تبارك وتعالى جعل ثمن الجنة وثمن الخلاص من العذاب، وثمن النجاة الجهاد. ابذل مالك لا تغتصب مال الناس، لا تكن محتكراً لا تكن ظالماً، قاسمه رغيفك.
أجل وهل يمكن أن يكون الإيمان بالقهر؟! الإيمان بالقهر لا يسمى إيماناً بل يسمى إذعاناً؛ بل يستحيل أن يسمى إيماناً؛ لأن الإيمان عملية عقلية وجدانية، تأتي نتيجة القناعة والتصديق، وليس نتيجة القهر والإجبار. إذا كنت على حق فالحق يؤيد بالدليل، إذا كنت على حق فالحق يؤيد بالبرهان، إذا كنت على حق فجادلهم بالتي هي أحسن.ادخل إلى قلوبهم، لقد عرف عن الإسلام أنه فتح القلوب قبل أن يفتح القلاع، ولذلك استقبلته الشعوب بالقبول، وإنما ناهض الإسلام طغاة الأرض فقط، أما الشعوب فقد كانت تستقبله بالقبول.وشعوب الأرض تشهد على ذلك، هذه البلاد لم يقهر أحد فيها على ترك دينه، وإنما دخلوا الدين طواعية، فمن شاء بقي على كنيسته، ومن شاء دخل مسجدنا، هذا ما عامل به الإسلام رعايا الدول التي فتحت والبلاد التي فتحت. أنقذ الشعوب من عبادة العباد، ومن قهرهم وظلمهم، لا يصح أبداً أن يسمى التصديق بالقهر تصديقاً، وهل يمكن أن يسمى القهر على التصديق تصديقاً ؟!! يسمى إذعاناً لكنه لا يسمى تصديقاً، يستحيل أن يتم التصديق بالإكراه، إذا قلت لك الآن إن السماء تمطر، إما أن تقول بذلك وإما أن أفعل بكم كذا وكذا، إذا أذعنتم لي خوفاً او طمعاً أو غير ذلك هل يسمى تصديقاً ؟!! يسمى نفاقاً، يسمى إذعاناً، لكن يستحيل أن يسمى إيماناً.
الثمرة لهذه الصفقة، صفقة الجهاد بالنفس، والجهاد بالنفس أن تتخلى عن هواك، وتخضع لأمر الله: أن تتخلى عن رغباتك انصياعاً لأمر الله، أن تكون مذعناً لهدي الله وشريعته.لا لنزواتك، ولا لحقد، ولا لضغينتك، ولا لغضبك.بل تكون مستسلماً لأمر الله عزَّ وجل
أرني الجهاد في صلاتك، جهاد نفسك في صلاتك..في حضورك لصلاة الفجر، في أن تمسك نفسك عن رغباتها وشهواتها، والاسترسال في اتباع هواك، جاهد نفسك في أن تمسك عن المعصية.إذا فعلت ذلك كله، غفر الله لك ما مضى، وكم نحن بحاجة إلى مغفرة )يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ( وعدٌ عظيم! ثم بعد ذلك هل تريدون النصر؟ كل طرف يريد النصر. فما ثمن النصر؟ أن يتخلى عن هوى نفسه وينصاع لأمر ربه، أن يتخلى عن عصبياته وعن ضلالاته وعن انحرافاته انصياعاً لأمر ربه ومولاه، أقول هذا لكل من يريد أن ينتصر، سبيل النصر أن تؤمن بالله ورسوله، وتطيع الله ورسوله، وتجاهد بمالك ونفسك في سبيل الله ورسوله على الوجه الذي شرع الله ورسوله، عندئذٍ سيأتيك النصر وسيأتي النصر وسيأتي الفتح لمن أخلص لله وتجرد عن هواه.
لمن أراد أن ينصر المظلوم وأن يقيم الحق ويحقق العدالة لا للذين يردون أن ينشروا الظلم والبغي والعدوان.
أيها المسلمون لكم ألا تكترثوا بهذا كله، أقول هذا لكل إنسان، هذه التجارة إن شئت تاجر بها وإن شئت فلا، لكن اعلم أن لك ذلك كله إن ملكت حياتك، واستطعت أن تصرف عنك الأجل، عندما تصبح سيد أمرك
لا تفكر بهذه الحقيقة، وخذ هوى نفسك، وحظك من شواتها ورغباتها، أما وإنك ستلقى وجه ربك فكن على حذر، وكن على استعداد لساعة اللقاء بين يديه، كن على حذر وكن على استعداد للموقف والحساب بين يديه، مثلنا كمثل جماعة أوت في فلاة إلى بيت مهجور، تريد أن تنال قسطاً من الراحة، وجدت في البيت المهجور صغار سباع ضارية نائمة، وبقايا مفترسات، أيطمئن لهؤلاء جنب ليستريحوا فيه؟ أعتقد أنه ما من عاقل يمكن أن يطمئن إلى بقائه في مثل هذا المكان، وأنه سيفكر بالنجاة والخلاص، قبل أن يأتيَ الوحش الضاري الذي له هذه الصغار وله هذه المفترسات، نحن اليوم أمام حقائق، إما أن نتدبرها، وإما أن نلقى الله عز وجل بدون ذاد، وإما أن نلقى الله عز وجل ونعرض أنفسنا لعذابه وسخطه، ليفكر كل إنسان يسمع هذا الكلام، قبل أن يحيق به الأجل يومئذٍ يندم ولات ساعة مندم (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) أسأل الله أن يلهمنا السداد والرشد، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 7- 2- 2014


تشغيل

صوتي