مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 17/01/2014

خطبة الدكتور توفيق: واقع الأمة ومنهج الرفق النبوي


واقع الأمة ومنهج الرفق النبوي
د. محمد توفيق رمضان البوطي
فيا أيها المسلمون: يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( ويقول سبحانه: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( ويقول سبحانه: )إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ( روى مسلم عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ».
وعن مسلم أيضاً يروي عن عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ » وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقيل: هلكت دوس– أي إذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليها فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ"، وقال هذه الكلمة مرة أخرى لما دعا على ثقيف فقال: "اللهم اهد ثقيفاً وأت بهم"، وفي البخاري أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَال: لَمَّا نَزَلَت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْر،ٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيلًا بِالْوَادِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ . فقال أبو لهب: تَبَاً لَكَ سَائِرَ الْيَومِ, أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا؟ فَنَزَلَت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ).
وروى البخاري وابن حبان عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله: « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» هذا الدعاء دعاه النبي يوم آذى المشركون يوم أحد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصابه ما أصابه، شجوا وجهه وسال الدم على خده صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون: أمران هما من دين الله عز وجل الغاية والوسيلة، الغاية نشر الإسلام وهي من وحي الله عز وجل ومن تعاليمه ومن إرشاداته، والطريق إلى ذلك أيضاً رسمه الله عز وجل بتعليمٍ وإرشادٍ منه سبحانه وتعالى على يد النبي صلى الله عليه وسلم، أي أن بناء المجتمع الإسلامي وتحقيق العدالة الربانية في الأرض أمر مطلوب وهو منهج رسمه الله عز وجل، والطريق إلى تحقيق ذلك أيضاً منهج من عند الله عز وجل، فليس لنا أن نخترع منهجاً نفرضه على الناس بطريقةٍ مبتدعةٍ ليست من دين الله عز وجل وليست مستمدة من هديه، إن كثيرين يسلكون إلى نشر الإسلام في مجتمعنا أسلوباً لا يتفق مع منهج الله عز وجل الذي علمه لنبيه صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته وإشاعة هديه والدعوة إلى منهجه، إن الدعوة الإلهية في أسلوبها وفي منهجها وفي طرائقها وفي غايتها كلها من وحي الله عز وجل هذا الأمر الأول الذي أريد أن أشير إليه، ولذلك كان من منهج الدعوة إلى الله عز وجل هذا الرفق الذي تميزت به دعوتنا وهذا اللطف، )ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( هكذا أمر الله عز وجل أن تنشر دعوته وأن تبلغ رسالته بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يرد في هدي ربنا تبارك وتعالى أن نكره الناس على دينهم، فما يمكن أن يتسامع به الناس اليوم من أسلوبٍ انتهج منهج الفظاظة والغلظة والقسوة فيما يدعون أنه دعوة إلى دين الله، هو دعوة إلى تشويه دين الله، هو دعوة تحارب دين الله باسم دين الله، أن يؤتى بنصراني فيُكره على الإسلام، فيدخل الإسلام، ثم يكافئ على الإسلام بقتله أمر لم نسمع به في تاريخ دعوتنا أبداً. بل سمعنا بنقيض ذلك، ولكنه منهج أولئك الرعاع الذين قذفهم الغرب لتشويه ديننا وتشويه دعوتنا. كل الأمور تسير حول فلك الرفق، حتى وإن كنت تذبح شاتك فبالرفق، حتى وإن كنت تقاتل عدوك فبرفق؛ لأن دعوتنا ليست تشفياً وحربنا ليست انتقاماً، الحرب في الإسلام مبضع بيد الطبيب يستأصل الداء بمقداره ليقوم الجسد سليماً معافى، وليست تشفياً ولا انتقاما، أما ما نراه اليوم باسم الإسلام فهو نقيض الإسلام، وتشويه لحقيقة هذا الإسلام. والمشكلة أن أمتنا لم تدرس الإسلام للأسف؛ ولذلك صار كل ناعق يهتف باسم الإسلام نموذجاً للإسلام.
لا...الإسلام كما أنزله الله لا كما يأتي به الرعاع، الإسلام كما أنزله الله عز وجل )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( وليس إهلاكاً للبشرية ولا تشويهاً لحقائق الرسالة الربانية.
أيها المسلمون: إن مشكلة نعاني منها على كافة المستويات، هي مشكلة الجهل، والجهل هو المناخ الذي تستطيع به قوى الشر أن تبث تشويهها وفسادها وضلالها في مجتمعاتنا، أما عندما يكون العلم نبراساً يشيع في مجتمعنا، فإن سبيل تشويه الإسلام لا يمكن أن يجد له وجوداً في مجتمعاتنا ولا بين أبناء أمتنا، إذا كان كل إنسان صاح باسم الإسلام صار مسلماً إذاً لقد كان الخوارج مظهر الإسلام وقد قتلوا سيدنا علي رضي الله عنه نادوا بأنه لا حكم إلا لله وهي كلمة حق، لكنها لا تتضمن الباطل فحسب؛ بل تتضمن الإساءة للحق.
عندما ندرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلَّ من يدرسها، وننظر بما جاءنا؛ جاءنا بصلة الرحم، جاءنا بحسن الجوار، جاءنا ببر الوالدين، جاءنا بالصدق والأمانة والوفاء، جاءنا بالرحمة ن جاءنا بالعدالة، جاءنا بإعطاء كل ذي حق حقه، جاءنا بالبذل والعطاء، لم يأتنا بالاستغلال والاحتكار،لم يأتنا بالقهر والظلم والبغي والعدوان، إسلامنا ينبغي أن ندرسه، ينبغي أن نتعلمه، في منهج دعوته وفي مضمون دعوته: في منهج دعوته )ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ(، وفي مضمون دعوته: عدالة وحق وإحسان وبر وصدق وأمانة، هذا هو ديننا، وديننا لا يمكن أن يتناقض مع نفسه، عندما يقول ربنا تبارك وتعالى )لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( – أصلاً لا يمكن أن يكون التدين إكراهاً- التدين أمران: دينونة أي إيمان وتصديق في الداخل، وإذعان على الجوارح والأعضاء، أنت تستطيع أن تجبرني أن ألبس ثوباً ما، تستطيع أن تجبرني على أن أمشي من هذا الطريق أو هذا الطريق، لكن لا تستطيع أن ترغمني على أن أقتنع بشيء لم أقتنع به، إيتني بالدليل عندئذٍ تقنعني، أما أن تكرهني على أن أقتنع فإن من الحماقة أن يسلك الإنسان إلى عقل الإنسان الآخر بالقهر والإجبار، وهذا لا يمكن أن يتم )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( هذه دعوتنا، دعوتنا دليل وبرهان وعلم وحكمة، دعوتنا عدالة وإحسان وبر وصدق، وليست قهراً وظلماً وبغياً وعدواناً، أن تسلك إلى الناس أسلوب القهر؛ إذاً فقد كونت مجتمعاً من المنافقين، يظهرون لك الإسلام ويبطنون لك عداءك، وهذا ما لا يمكن أن يكون مقبولاً في ظل ديننا، أما ظاهرة النفاق في المدينة المنورة فليست نتيجة قهر، وإنما نتيجة احتيال؛ أرادوا أن يلتفوا على الدعوة الإسلامية، فكيف يمكن للدعوة الإسلامية أن تنشر ظاهرة النفاق المرضية فيها؟
أيها المسلمون: أجل الإسلام دين رحمة، والشدة في الإسلام في حد ذاتها رحمة، وكما قلت قبل قليل: إن الشدة في الإسلام كمبضع الطبيب يستأصل الداء بمقدار الداء ، ليعود الجسم بعدها سالماً معافى. نعم قاتَل المسلمون؛ لكنهم لم يقاتِلوا شعوباً وإنما قاتلوا طغاة، وعندما جاء ربعيُّ بن عامر إلى رستم ليلخص له حقيقة الدعوة الإسلامية وما الذي جاء بهم، قال: (( جئنا لنخرجكم من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى ، ومن ضيق الدنيا إلى عدل الآخرة ومن ظلم الحكام إلى عدل الواحد القهار)) هكذا لخص دعوته، وعندما وجه النبي صلى الله عليه وسلم رسالته إلى الملوك، كانت رسالته تضمن معاني رقيقة ودعوة حكيمة ((أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن لم تفعل فإن عليك إثم الأريسيين))، ولم يبادئهم بعدوان وإنما هم الذين بدؤوا، الروم بدؤوا الحرب والفرس بدؤوا العدوان. أجل، وعندما حارب النبي صلى الله عليه وسلم حارب ليحرر تلك الشعوب من خلال أصحابه، من طغيان هرقل وكسرى، ومن ظلم هرقل وكسرى، وليس من أجل أن يكرههم على دخول الإسلام، فكنائس النصارى لا تزال ماثلة أمام أعيننا هاهي ذي. لقد أقرهم على دينهم، ولم يكرههم على ترك دينهم، ولا يمكن أن يتم الإكراه في الدين، وقوله تعالى )لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( نفي لإمكان الإكراه، وليس نهياً عن الإكراه؛ لأنه أصلاً لا يمكن أن يتم التدين بالإكراه.
أمر آخر، تُرى: هل نسلك اليوم نحن في دعوتنا منهج النبوة؟
بين إنسان يوالي عدواً ليقاتل أخاه، وبين إنسانٍ يتملق في سبيل الوصول إلى مصالحه، وبين إنسان آخر يسلك إلى قلوب الناس أسلوب العنف والشدة والقسوة. كل هذا غريب عن منهج النبوة، دعونا ندرس سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف ربى أصحابه، كيف بنى المجتمع الإسلامي الأول، كيف انتشرت الدعوة الإسلامية في أرجاء الأرض.لم تنتشر بقوة السيف. إنما انتشرت بالكلمة الطيبة، بالحكمة بالموعظة الحسنة، بالرحمة بالإحسان، بالحجة والبيان والبرهان، بالدليل والبينة، )قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي( )قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( )سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (، بهذا سلك الإسلام السبيل إلى الانتشار في أرجاء الدنيا، ولم يسلك سبيل القهر أو الظلم، أنستجدي عدونا لنقاتل أخانا، ونحالف الكافر لنقاتل المسلم، ثم نتملق عدونا من أجل أن نقطع أواصر العلاقة بيننا وبين أهلنا؟
لنعد إلى ترتيب بيتنا وإعادة بنائه، لنعد إلى ترتيب مجتمعنا وحمايته مما أصابه من عوامل التفكك، مما أصابه من عوامل الانهيار وانعدام الثقة، مما أصابه من النزاع والشقاق، مما أصابه من التصدع الذي أودى به إلى ما نرى، دعونا نعيد الإعمار بكل معانيه، نعيد إعمار العقول، نعيد إعمار المجتمع والبنية الاجتماعية بالمحبة والأخوة، بالتعاضد والتعاون، نعيد بناء هذه المدن والقرى التي دمرها الفساد الذي نراه من حولنا، نعيد البناء.. نعيد الإعمار، ولا سبيل إلى إعادة إعمار البناء إذا لم نعمر النفوس إذا لم نعمر العقول إذا لم نعمر المجتمع.
لنعد مرة أخرى ونعيد بناء هذا المجتمع )إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا( هذا هو الطريق، وهذا هو المنهج ولا طريق سواه، إذا أردنا أن نحقق بناء مجتمع يرضى عنه الله سبحانه وتعالى، وينتصر على أزماته، وينتصر على التحديات التي تطوف من حوله.
أسأل الله تعالى أن يلهمنا السداد والرشاد ، وأن يفرج عن الأمة ما أصابها إنه سميع مجيب
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 17-1-2014


تشغيل

صوتي