مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 10/01/2014

خطبة الدكتور توفيق: نفحات من شمائل وسيرة المصطفى رضي الله عنه (4)


نفحات من شمائل وسيرة المصطفى رضي الله عنه (4)
د. محمد توفيق رمضان البوطي
يا أيها المسلمون: يقول الله جلَ شأنه في كتابه الكريم: )وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ( ووصف الله نبيه المصطفى بقوله: )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( وبقوله )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( وبقوله سبحانه: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( ويقول الله سبحانه: )وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ( ويقول: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( روى مسلم عن أبي هريرة قال: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: " إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً "
أيها المسلمون: في ذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نعيد مرة أخرى وبنوع من التأمل والتحليل والعمق في الرؤية قراءة شخصية النبي، وأن نتأمل بأي صفة قدم النبي صلى الله عليه وسلم نفسه إلى العالم، إلى قومه، إلى الناس. فهو لم يبعث إلى قومه خاصة، وإنما أرسله الله تعالى رحمة للبشرية كلها )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا( )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( ينبغي أن نتأمل: تُرى بأي صفةٍ قدم النبي نفسه إلى العالم، لننظر تُرى هل نتعامل مع شخصية النبي مع هذه الشخصية العظيمة على النحو الذي قدم نفسه إلى العالم من خلالها أم على نحو آخر؟ فالمسألة جدُّ خطيرة وعلى جانب كبير وعظيم من الأهمية .
النبي لم يقدم نفسه إلى العالم زعيماً، لم يقدم نفسه إلى العالم ملكاً، لم يقدم نفسه إلى العالم عبقرياً، لم يقدم نفسه إلى العالم مجرد حكيم يعالج القضايا الاجتماعية، قدم نفسه إلى العالم بما وصفه الله U به وبما أمره أن يقدم نفسه إلى العالم من خلاله )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ( بشر مثلنا، تميز على البشرية بما اختصه الله به من الوحي الذي كلَّف الناس بأن يستضيئوا بضيائه ويتمسكوا بهديه، وقد أناط رب العزة جلَّ شأنه سعادة البشرية في الدنيا وسعادتهم في الآخرة بإتباعه؛ فلئن اتبعوه سعدوا في الدنيا وسعدوا في الآخرة، وإن أعرضوا عنه شقُوا في الدنيا وشَقُوا في الآخرة. بهذا قدم النبي إلى العالم، ومن ثَمَّ فليس من حقنا أن ننظر إلى شخصية النبي برؤيةٍ مخالفة أياً كانت تلك الرؤية، وعلينا أن نتحمل مسؤولية الأخذ بهذه الرؤية التي قدم نفسه بها، والتمسك بتعاليمه وإرشاداته لننهل ولننال مكاسب ما ربط الله بذلك من مكاسب، أو أن نتحمل النتائج بالإعراض إن أعرضنا عن هديه واتّباعه، المسألة ينبغي أن نتعمق في النظر فيها والتأمل فيها.
النبي اتّسم بحُسْن الخلق، اتّسم باللطف في المعشر، اتسم بسعة الصدر، اتسم بكرم اليد، اتسم بحسن الجوار، اتسم بكل تلك الصفات...إلا أن مدار كل تلك الصفات ومرتكزها كلها فيما وصف نفسه به، أنه مرسل من عند الله، ومن هنا فعلى كل إنسان منا اليوم وفي الأمس وفي الغد أن ينظر إلى شخصية النبي؛ فإن كان كما وصف فليتحمل مسؤولية ذلك وليعلم أنه سيجني باتباعه كل الخير، وينال بالإعراض عنه كل المصائب والعواقب السيئة التي سوف يجني عواقبها ونتائجها.
وهذا يقتضي منا أن نتأمل طفولة النبي أن نتأمل ما وصفه به الأنبياء السابقون وبشروا به من بعدهم رسولاً إلى العالمين )وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ( والمتأمل في الكتب السماوية السابقة يجد مصداق ذلك ، وقد صدرت في هذا كتب كثيرة لا داعي للوقوف عند هذه النقطة كثيراً .
طفولة النبي فيها ملامح تؤكد هذه المعاني، ولد النبي يتيماً فقد أباه وهو في رحم أمه، وفقد أمه وهو في السادسة من عمره، وفقد جده عبد المطلب زعيم قريش وهو في الثامنة من عمره، نشأ يتيما فكفله عمه، وعمه الذي كفله أبو طالب ظلَّ يرعاه ويحميه ويحدب عليه حتى بعد نبوته، إلا أنه لم يدخل في دينه -على أصح الأقوال- إذا كان الأمر كذلك، ألا يسترعي هذا الأمر منا نوع تأمل عندما ننظر في شخصية النبي وفي ما اقترنت به قصة ولادته من أمور اقترنت بولادته واقترنت بنشأته، عندما استرضع في بادية بني سعد وكانت ديار بني سعد على حالة من الجفاف والقحط والشدة في ذلك الموسم، فما أن نزل الحبيب المصطفى في خباء حليمة السعدية حتى أمرعت الأرض من حولها، فقال الناس لها: (لقد جئت بنسمة مباركة)، ترى ألا يلفت النظر هذا الأمر لأي متأمل في شخصية النبي، ولا نقص قصة من حكايات التاريخ، وإنما نأتي بروايات موثقة ضبطت بالأسانيد الصحيحة، وبضبط صدق الرواية بشكل موثق مدروس على أعلى درجات التوثيق، لذلك فإن تأملات يمكن أن تجري حول شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك تمسكت حليمة به إلى أن وقعت حادثة شق الصدر، أمر عجيب عملية جراحية في الهواء الطلق تجري للنبي حتى جاء أخوه من مرضعته يقول لأمه وأبيه أخي ذاك القرشي أتى إليه رجلان فأضجعاه فهما يسوطانه –خيل إليه أنهما يضربانه– فهرع الأبوان إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرياه ممتقع اللون أصفر الوجه، فيسألانه ماذا أصابك فيقص قصة شق صدره وإخراج حظ الشيطان منه، لم تكن المسألة مسألة عملية جراحية، وإنما كانت المسألة لفت النظر إلى شخصية النبي وأن هذا الفتى هو موضع عناية المولى تبارك وتعالى وأن له شأناً سيكون في المستقبل، تميزت شخصية رسول الله بالصدق حيث شاع الكذب، وبالأمانة حيث انتشرت الخيانة، وبالعفة حيث انتشرت الفواحش، كانت شخصية النبي سبباً للفت الأنظار إليه حتى غدا موضع ثقة ومحبة وتقدير في قومه، حتى إذا بلغ الأربعين من عمره حبب إليه الاختلاء .
أقول عندما نتأمل شخصية رسول الله منذ طفولته إلى بعثته إلى تعامله مع قومه الذين واجهوا دعوته بالكبر والاضطهاد والصدِّ ومحاولات القتل والاستهزاء والاستخفاف، فقابل ذلك كله بالصبر وسعة الصدر، وقابل قسوتهم برقة القلب والحرص عليهم، كان شديد الحرص عليهم، كان رؤوفاً بهم حريصاً عليهم، يريد أن ينتشلهم من مستنقع الضلالة إلى شقاء خالد لا نهاية له، هكذا كانت شخصية النبي مع قومه، حتى إذا هاجر إلى المدينة المنورة وأنشأ الدولة الإسلامية الأولى لم تتبدل شخصيته، وانتصر في المعارك التي انتصر فيها لم تتبدل شخصيته، لم يتحول إلى رجلٍ متكبر عاتٍ جبارٍ في الأرض، بل ظلت دعوته مفعمة بالرحمة مفعمة باللطف بالعذوبة بالكلمة الطيبة، وأيده الله تعالى إذا خذله الناس، ونصره الله تعالى إذ تخلى عنه الناس، نعم هذه شخصية رسول الله وطبعاً يضيق المقام أن نستوعب جوانب دلائل نبوته إذ ألفت فيه الكتب الكبيرة، ولعل كتاب فقه السيرة للعلامة الشهيد قد ألقى إضاءات عظيمة في هذا الجانب من شخصيته جديرة بالاهتمام والتأمل من قبل أي إنسان حر التفكير يفكر في مستقبله.
أيها الناس أيها المسلمون: نحن في هذه الحياة لم نَخترْ أن نوجد بل اختير لنا أن نوجد، اختار الله لنا أن نوجد بدون إرادتنا، واختار لنا أن نعيش ما عشنا دون مشيئتنا، واختار لنا أن نموت شيئنا أم أبينا، وكل ذلك مرتب وفق حكمة إلهية عظيمة، نحن في قبضته، وكما اختار لنا أن نوجد بدون مشيئتنا، واختار لنا أن نموت دون إرادتنا، قد بين لنا في رسالة سيدنا محمد أننا على موعد سنمثل فيه بين يدي الله، وهو يومئذ سائلنا عما اجترحنا في هذه الحياة، عن مدى تمسكنا بهديه عن مدى تمسكنا بتعاليمه عن مدى اقتدائنا بسنته وتعاليمه عليه الصلاة ولسلام، نحن مسئولون وسنمثل بين يدي الله كما وصف رب العزة جلَّ شأنه )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ( وأياً كان موقعنا في هذه الدنيا: فقراء وأغنياء، بيضاً أو سودا، رجالاً أو نساءً، رعية أو أمراء ، أقول: أياً كان شأننا وأياً كان موقعنا؛ فهذه الدعوة موجهة إلينا، ليس فينا من يتميز عن العبودية لله فعبوديتنا لله عز وجل صفة ملازمة لوجودنا، من أراد أن يتمرد أُوتي به صاغراً إلى موقف الحساب بين يدي الله ومن أراد أن ينصاع لأمر الله ارتفعت هامته ووقف بين يدي الله معززاً مكرماً، هذا هو المصير وهذا هو المآل، فليتأمل كل منا شخصية رسول الله وليلتزم بما يمليه عليه العقل وبما تمليه عليه الحكمة، وما يمكن أن يتدبر من أمر مستقبله، لأن المسألة ليست حساباً بين يدي سلطان، وإنما المسؤولية بين يدي رب السلاطين والملوك.


تشغيل

صوتي