مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 27/12/2013

خطبة الدكتور توفيق: نفحات من شمائل وسيرة المصطفى [2]


نفحات من شمائل وسيرة المصطفى [2]
د. محمد توفيق رمضان البوطي
يا أيها المسلمون: يقول الله في كتابه الكريم: )مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(، ويقول ربنا تبارك وتعالى:)وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ويقول جلَّ شأنه في حق النبي:)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(، ويقول سبحانه: )إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(، ويقول: )وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (.
روى مسلم عن عائشة عن النبي «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» وروى الشيخان عن النبي أنه قال: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتهَا وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمْرِمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا»، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «غَفَرَ الله لِرَجُلٍ أَمَاطَ عَنْ طَرِيقِ المُسْلِمِينَ غُصْنَاً مِنْ شَوكِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذّنبِهِ» غصنٌ من الشوك أماطه من الطريق فغفر الله له بذلك ذنبه، وروى البخاري في الأدب المفرد عن النبي قال: «بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا قال: "في كل كبد رطبة أجر"»
أيها المسلمون: هذا ديننا وهذا هدي رسول الله الذي نقف الآن على مشارف ذكراه، ذكرى مولده، بل ذكرى مولده ومبعثه، وذكرى هجرته في الثاني عشرة من ربيع الأول، ذكريات لأحداث في حياة النبي تتجدد، فينبغي أن نحيي تلك الذكريات بما تحمله من معانٍ، ولا يكفي أن نتمايل طرباً لأصوات المنشدين، وإن كان ذلك جميلاً ومقبولاً، وإن النبي أثنى وطرب وسمع، ولكن ذلك لا يكفي ولا يجزئ عن العمل والعلم، بل إنه ينبغي أن نوثق الصلة بهدي رسول الله نوثق الصلة بسنة رسول الله نوثق الصلة بأخلاق رسول الله ، هذا هدي رسول الله.
أول ملامح الهدي النبوي، أن رسالته رسالة علم لا رسالة جهل فأول آية تنزلت على قلب رسول الله )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ # خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ # اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ # الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ #عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( بهذا افتتح رب العزة رسالته إلينا، نوه بالعلم وقال:)هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ( ويقول النبي: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة»، وهل أُخذنا وطُعنّا وأصابنا ما أصابنا إلا بسبب الجهل !! جهلٌ بشخصية رسول الله، جهل بأخلاق رسول الله، جهلٌ بحقيقة رسالة رسول الله بحقيقة هذا الدين، أودى كل ذلك بالأمة إلى ما نرى من أمورٍ غريبةٍ عن هدي رسول الله، تنسب إلى الإسلام زوراً و بهتاناً، وتزيفُ حقائق هذا الدين وتحرّفُ مبادئه، هذا هو الإسلام.. وهذا هو رسول الله الذي قال: «وددت لو أني رأيت إخواننا» -أصحابه كانوا أمامه- قالوا: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، إخواني أولئك الذين يؤمنون بي ولم يروني»، أنتم أنتم إخوان رسول الله يشتاق إليكم، ويتمنى لو رآكم قبل أن تغمض عيناه عن هذه الدنيا، ونحن على موعد بلقائه يوم القيامة، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، تنفعنا شفاعته، ينفعنا إتباعه، ينفعنا التخلق بأخلاق حبيبنا المصطفى.
أجل أيها المسلمون، هذا هو ديننا دين الرفق، دين اللطف، لا دين الفظاظة والوحشية والهمجية المنفرة، والتي ألصقت بديننا زوراً وبهتاناً، متى كان الإسلام إحراقاً وإتلافاً وتدميراً وقتلاً وظلماً وبغياً وعدواناً ؟؟ والأنكى من ذلك أن يقترن ذلك كله بشعار (الله أكبر) ويلٌ لهم، ويلٌ لهم من تزوير هذا الدين ومن تحريف مبادئه، ويلٌ لهم من وقفة بين يدي الله عز وجل، والله لينتقمن الله منهم في الدنيا قبل الآخرة.
ماذا أصاب الناس؟ ماذا أصاب الناس بهذا الجهل حتى حرفوا دين الله عن مساره وعن حقيقته وعن صورته ربنا يقول: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( ما قال: للمسلمين، قال للعالمين، إنه الرحمة المهداة. لقد وصل الإسلام إلى هذه البلاد وكان كل أهلها على النصرانية فهل ذبحوا وقتلوا وشردوا؟ أم أقرهم ديننا على ما هم عليه، وأعطاهم العهد أن لا تمس معابدهم ولا كنائسهم ولا صلبانهم، هناك خلافات تجري فيما بين الأخوة، بين الأخ وأخيه بين المذهب والمذهب تنتهي بالحوار، نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا فيما اختلفنا فيه، هذا المبدأ الذي تعلمناه، وليس ما نسمعه أو نراه في هذه الأيام في حياتنا في مجتمعاتنا مما استثمر؛ بل مما وُظف ثم استثمر لتشويه الإسلام؛ لا في بلادنا فبلادنا في حصانةٍ إن شاء الله، على الرغم من أن البعض استدرجوا..استثمر لكي يشوه الإسلام في العالم - تحرّف صورة الإسلام التي غدت محببة إلى العالمين كلهم، كم أتاني من وفود أجنبية، وكم زرت من بلاد أجنبية فرأيت شغفاً ولهفةً ورغبةً بهذا الدين، لكنهم أرادوا أن يُعرض الإسلام بهذه الصورة المنفرة الموحشة لكي يضمنوا أن لا يدخل الإسلام إلى بلادهم بمعانيه السامية بمعانيه الإنسانية بمعانيه العظيمة، لقد رأيت كيف أن وسائل الإعلام الأجنبية تصور المشاهد المرعبة مقترنة بـ (الله أكبر) وبـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هذه عملية التشويه التي قد اتضحت وتبلورت، ولكن )وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(، إن كانوا يظنون أنهم بهذا يطفؤون ضوء الشمس، ضوء الشمس لا يمكن أن يطفأ. ولا يمكن أن يحال بينه وبين هذه الأرض، سيعم الأرضَ ضياءُ الشمس، وسيعم هذه الأرض ضياء هذا الدين شاءوا أم أبوا، سينتشر هذا الضياء فيعم الدنيا برمتها، بما فيه من معانٍ سامية من رقة من محبة من عطف من رحمة، أجل إسلامنا دين الرحمة، إذا كان ربنا تبارك وتعالى قد عذب امرأة في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فما موقف من ينكل بالإنسان لمجرد أنه يختلف معه بالعقيدة والمبدأ وغير ذلك، أو لأنه يختلف معه في المذهب..؟ إنه أمرٌ يتنافى مع حقيقة هذا الدين، فأن ينسب للإسلام هذا ظلم، هذا ظلمٌ هائل، اتقوا الله يا من تقولون لا إله الله اتقوا الله، اتقوا الله فإن تحريف دين الله أكبر من الجريمة، لقد غفر الله لرجل في كلب اشتد بالرجل العطش فنزل البئر فشرب فخرج من البئر فوجد كلباً يلعق الثرى من شدة العطش فرق قلبه له، وكان مسرفاً على نفسه فنزل لأسفل البئر فملأ خفه ماءاً، وعندما أراد أن يصعد إلى أعلى البئر لم يستطع أن يصعد بيد واحدة فأمسك الخف بفمه وخرج من البئر وسقى الكلب، فغفر الله له.
هذا ديننا، هذه شريعتنا، هذا إسلامنا، هذه أخلاقنا، على هذا تركنا رسول الله ، النبي يقول: «ليس بمؤمن من يبيت وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم» -ونحن نعلم من الذين يجوعون– «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» من «كان مؤمناً بالله واليوم الآخر فليصل رحمه»، هذا هو الإسلام، هذا هو ديننا، وبهذا دخلنا إلى العالم، وبهذا انتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. سلوا التاريخ: كم جندياً دخل لفتح جنوب شرق آسيا؟ كم جيشاً دخل إلى جنوب شرق آسيا؟ لم يدخل أحدٌ بصفته العسكرية، دخل التجار الصادقون الأمناء إلى بلاد الملايو فانتشر الإسلام فيها وهي اليوم أكبر بلاد العالم الإسلامي سكاناً، لم يصل إليها جندي واحد، بماذا؟ بالأخلاق، بالرحمة بالرفق بالصدق بالأمانة بالوفاء، بهذه الأخلاق الكريمة وبهذه الأخلاق الكريمة فتحنا العالم كله، وصلنا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وبغير ذلك ينقبض الإسلام، وينحسر ظله وينكمش نوره، ولكن خسئَتْ أيدٍ تريد لهذا الإسلام أن ينكمش نوره، سيبقى وسيظل منتشراً وستبقى أنواره تطلق أشعتها في مشارق الأرض ومغاربها، أجل لن تستطيع أيدٍ قذرة أن تحجب الشمس عن الأرض، قلت: إن الأيدي القذرة تحجب أعينها عن الشمس، ولكن لن تحجب الشمس عن الأرض.
أقول: الإسلام بهذه القيم الأخلاقية، بهذه المعاني السامية، بهذه العقيدة السليمة بمعرفة الله ومحبته، بمعرفة رسول الله وأخلاقه وشمائله، هذه المعارف هي المنهج التربوي الذي ينبغي أن ننشئ عليه أبناءنا لئلا ينشؤوا على فكر متطرف غريب عن الإسلام، عليه ينبغي أن ننشئ أبناءنا لئلا ينشؤوا على أفلام العنف وأفلام الرذيلة. التي عهِدنا بتربية أولادنا إليها، ينبغي أن نطهر عقول وأفكار وقلوب أبنائنا وبناتنا منذ النشأة الأولى من مناهج تربوية فاسدة، لنغرس في قلوبهم المعاني الإنسانية والعقيدة الصحيحة التي تحبب إليهم رسول الله وأخلاق رسول الله وشمائل رسول الله والمعاني السامية التي دعانا إليها رسول الله، وإلا فسيملأ فراغها أفلام العنف, ألعاب العنف والرذيلة والانحراف، وسيملأ عقولهم التي تحب بطبيعة الحال والفطرة الدين، لا ينبغي أن يغرس فيهم دينٌ مزيف دينٌ متطرف دينٌ منحرف. ونحن إن لم نملأ عقول أطفالنا بالحق امتلأت بالباطل، وإن لم نملأها بالخير امتلأت بالشر، وإن لم نملأها بالفضائل امتلأت بالرذائل، ولذلك فإن التربية لا تبدأ بعد أن يتصلب عود الطفل. وإنما تبدأ وهو غضٌ ضري لين سهل يستجيب لأبويه ويستجيب للمؤسسة التربوية على أحسن وجه.
أسأل الله أن يلهمنا السداد والرشد وأن يفرج عن هذه الأمة، وأن يكرمنا بشفاعة المصطفى وحسن إتباعه
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 27-12-2013


تشغيل

صوتي