مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 20/12/2013

خطبة الدكتور توفيق: نفحات من شمائل وسيرة المصطفى


نفحات من شمائل وسيرة المصطفى
صلى الله عليه وسلم
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أيها المسلمون: يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم في حق نبيه المصفى )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( ويقول في حقه أيضاً )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( ويقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( ويقول سبحانه )قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ(
روى البخاري عن أنس أن النبي قال: " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"، وروى الشيخان عن النبي: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ "زاد في رواية أن عمر قال: " لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكِ ، قَالَ عُمَرُ : فَأَنْتَ الآنَ ، وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: الآنَ يَا عُمَرُ "
نفسك تقودك إلى النار لأن النفس أمارة بالسوء ، ورسول الله يأخذ بيدك بكل رفق وعطف ومحبة إلى الجنة، فإن أطعت نفسك أودت بك وإن أطعت رسول الله كان سبباً في النجاة، وكان سبباً في سعادتك، روى البخاري عن النبي قال: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى " وفي البخاري في الأدب المفرد عن النبي "خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ" ومن رحمة المصطفى بالأطفال حضورهم مجالسه، وكانوا يعلمون الصغار القرآن في عهده وهم صغار لا في الصف السابع وإنما في السنة السابعة، وعلمنا عدم التمييز فيما بينهم، وكان يخص البنات بمزيد من العطف على النقيض مما كانوا عليه في الجاهلية.
أيها المسلمون: ونحن على مشارف شهر المولد النبوي الشريف، وذكرى ميلاد الرحمة المهداة للعالمين )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( جدير بنا أن نوثق الصلة بهذا النبي المصطفى الذي بدَأَنا بالمحبة، فمن واجبنا أن نبادل المحبة بمحبةً، وأن نبادل ذلك الحرص منه بالانقياد لهديه الكريم، لهديه الشريف الذي هو مفتاح نجاتنا في الآخرة، كما أنه مفتاح سعادتنا في الدنيا.
أيها المسلمون: أعتقد أن الكثير من الناس اليوم -وقبل أن أقول من الناس أقول من المسلمين– على جانب كبير من الجهل بشخصية المصطفى، وبينهم وبين سيرة المصطفى جدار من الجهل وفجوة من الغَيبة، هم غائبون عن معرفة شخصية الحبيب المصطفى مع أننا إنما نكون مسلمين بمعرفته، فالإسلام شقان: شهادة أن لا إله إلا الله –هذا الشق الأول– وشهادة أن محمداً بن عبد الله المكيَّ القرشي رسول الله -وهذا هو الشق الثاني– فجهلنا بهذا الشق من مفتاح نجاتنا يوم القيامة ومن شرط إسلامنا؛ أمر لا يليق بإنسان يقول أنا مسلم، معرفتنا برسول ينبغي أن تتجذر بحيث نعمق معرفتنا بسيرته وشمائله ، فقد زانه الله خَلْقاً وخُلُقاً، وعرف الصحابة الكرام في شخصية النبي ما جعلهم تتعلق قلوبهم به، وتجيش مشاعرهم محبةً له، )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(، ولذلك فقد وجدت أن من المناسب أن أبتدئ من هذا الأسبوع خطب الجمعة بنفحات من شمائل وسيرة وصفات الحبيب المصطفى عسى أن يكون ذلك سبباً في مزيد المحبة، ومن ثَمَّ عسى أن يكون ذلك دليلاً على حقيقة الإيمان في قلوبنا.
أيها المسلمون: أول صفة في شخصية النبي هي تلك الرحمة التي كان يفيض بها فؤاده على الخلق كلهم، حتى بادلته الجمادات محبة بمحبة، وبادلته الحيوانات محبة بمحبة، وفاضت قلوب الصحابة الكرام، أطفالاً وكباراً وصغاراً ونساءً ورجالاً بمحبة المصطفى، وكان الواحد منهم إذا غاب عن النبي مساءً اشتد شوقه إليه في صباح اليوم التالي، حتى إنَّ أحدهم قال: لا أطيق عنك بعدا) وأمرضه وأقلقه هاجس في قلبه، قال: أنا اليوم لا أطيق عنك بعداً لساعات، فإذا ما قدر الله لي أن أموت وقدر الله لك ذلك ، كنتَ في الآخرة مع النبيين ، وكنتُ أنا مع عامة الناس... أيَّ جنة هذه التي تفصل بيني وبينك، أيُّ سعادة هي التي تحرمني من أن ألقاك، إن جنة لا يكون فيها لقائي بك فليست بجنة ) فنزل قوله )وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا # ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا(، نعم مفتاح سعادتنا غداً في الجنة بلقائه هي التزام طاعة الله وطاعة رسوله ، أحد الصحابة يسأل يا رسول الله :متى الساعة ؟ -أمرٌ مقلق متى سيكون يوم القيامة؛ لأننا هناك على موعد مع الله ، حيث تبدو السريرة علانية، حيث تفتح صحائف الأعمال– فقال له النبي:" ماذا أعددت لها ؟" ماذا أعددت ليومٍ )تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(، الناس في حالة فزع، الناس في حالة هلع، قال - بالنسبة لمثل هذا الخطر: " والله ما أعددت كثير صلاة ولا كثير صوم ، ولكني أعددت شيئاً واحداً أني أحب الله ورسوله، قال :" أنت مع من تحب " أنت مع الله وأنت مع رسول الله أنت في كنف الله أنت في رحمة الله إذا كنت تحب الله تعالى، أنت مع رسول الله في ظلِّ شفاعته في ظل ِّمعيته في ظلِّ صحبته هناك، لن تحرم إذا كنت تحب رسول الله.
إلا أن المحبة ليست كلمة معسولة على الشفاه، لعلي وأنا أتحدث عن ذكرى مولد النبي يستهجن بعض قساة القلوب حديثيَ هذا، الحديث عن مولد النبي بدعة ) وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. مساكين حرموا من فهم اللغة، وحرموا من فهم هذا الدين، وحرموا من تذوق معانيه، ولو أنهم تأملوا هدي المصطفى لأدركوا أن بينهم وبين هديه بونّاً شاسعاً. أجل فالنبي يُسأل عن صيامه يوم الاثنين فيقول: " ذَلِكَ يَومٌ فِيهِ وُلِدت" النبي يحتفل بمولده لا في كل سنة مرة بل في كل أسبوع، ولقد تحدثت عن المحطات التاريخية وأهميتها، عن المحطات الزمانية والمكانية في حياة المسلمين، واستشهدت بذكرى عاشوراء يوم نجَّا الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام فصامه رسول الله وأمر بصيامه، وهكذا نجد أن المحطات الزمانية والمكانية يوقف عندها، وتستمد منها البركة وتستمد منها العبرة وتربطنا بها وشائج تاريخية تجدد في قلوبنا معاني، وأي معنى أعظم من ولادة النور ولادة الرحمة الإلهية التي أنزلها الله لتسعد البشرية بها.
نحن بحاجة إلى أن نوثق الصلة بالمصطفى الذي كان يفيض قلبه رحمة على الصغير، ويفيض قلبه شفقة على الشيخ المسن، ويفيض قلبه على المرأة المسكينة يفيض قلبه نحو هؤلاء جميعاً، رحمة وشفقةً وعطفاً في الوقت الذي نرى أن أدعياء الإسلام يحملون في أيديهم وسائل الرعب التي تنفر من الإسلام، وشعارات القسوة التي تجعل الإنسان يشمئز من تلك الشعارات، ربطوا بينها وبين وحشيتهم ربطاً جائراً ليشوهوا بذلك رسالة رسول الله أين نحن من قوله تعالى) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( أين نحن من قوله:" لا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة"، ونهى عن قتل أولئك المتعبدين في الصوامع؟ أين نحن من صفح رسول الله حتى عن عدوه، بل عن ألد أعدائه، عن عكرمة بن أبي جهل عن صفوان بن أمية عن هند بنت عتبة، أين نحن من الرحمة المهداة ؟! ونحن ندعي أننا نتبعه وأننا على سننه، سنن رسول الله وطريق رسول الله فتح أفئدة مغلقة ، وفتح عقولاً موصدة لرسالة الله U بما أُفعمت به هذه الرسالة من معاني تقدر العقل وتفيض بالرحمة )وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(، )وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(، )قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ، "ولأن يهدي الله بك رجلاً خيرٌ لك من حمر النعم"، نحن بحاجة إلى أن نوثق الصلة بهدي رسول الله، والحديث له صفة العمومية والشمول. لن أقف عند الجزئيات ولكني أقف عند الملامح العامة لرسالة المصطفى رحمته باليتيم رحمته بالمرأة رحمته بالإنسان رحمته حتى بالعدو، شبه النبي أولئك الشاردين ودعوته لهم برجلٍ له بعيرٌ ندّ، فجعل الناس يركضون وراءه ليردوه له، قال: دعوني وشأني لا تنفروه عني، ثم أتى بكل رفق وملأ ثوبه شيئا من حشاش الأرض ونباته وأشار إلى بعيره برفق فجاء البعير ليطعم من يد صاحبه، هكذا يدعو رسول الله الشاردين بالرحمة لا بالعنف ولا بالغلظة. ديننا هذا هو، ديننا رحمة، ديننا حكمة، ديننا خير، ديننا لطف، ديننا رفق بالإنسانية كلها، لو أننا تأملنا حياة رسول الله الذي زانه الله تعالى خَلْقاً فكان أجمل الناس خَلْقاً وخُلقاً، لعرفنا أن لنا مع رسول الله صلة وثيقة يجب أن نجددها ونمتنها.
أمران ينبغي أن نحرص عليهما ونوثق صلتنا بهما اليوم كثرة الصلاة على النبي فهي تجعلك أقرب إلى شفاعته غداًُ يوم تكون بأشد الحاجة إلى شفاعته، والأمر الآخر توثيق صلتك بسيرته، أن تجلس أنت وأهلك أنت وأولادك أنت وأسرتك، تقرؤون ملامح سيرة رسول الله وشمائله وصفاته اقرأها ولخصها لأطفالك لأحفادك لإخوتك وأخواتك، حتى تكون هذه الصلة جسراً لك غداً يوم القيامة، فإذا قام الناس غداً لرب العالمين وجدت رسول الله يستقبلك بكل رحمة وبكل محبة وبكل عطف.
أسأل الله تعالى أن يعرفنا هدي نبينا محمد وأن ينيلنا في الدنيا حسن اتباعه وفي الآخرة عظيم شفاعته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 20-12-2013


تشغيل

صوتي