مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 06/12/2013

خطبة الدكتور توفيق: وأخلص العمل فإن الناقد بصير


وأخلص العمل فإن الناقد بصير
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد: فيا أيها المسلمون يقول الله عزَّ وجل في كتابه الكريم: )وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(
ويقول سبحانه: )إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(، ويقول جلَّ شأنه: )الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(
ويقول جلَّ شأنه: )قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ # الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُون(
روى ابن حجر في المطالبِ الثمانية والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي r قال: "إنَّ الله يُحِبُ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أن يُتْقِنَه"
وروى مسلمٌ أنَّ أبَا سَلَمَة يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ "قَالَ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ"
أيها المسلمون:
المسلمُ إنسانٌ عَرفَ ربَّه والتزمَ شريعةَ ربه وسلكَ إلى الله سبحانه وتعالى الطريق التي وعدَ الله سبحانه وتعالى مَن سلكها أن يكرمَه برضوانِه وجنته. والإسلام ليس مجرد انتماء ولا حليةً نَلبِسها وإنما عقيدةٌ نؤمن بها وشريعةٌ نتمسك بها وعملٌ نبني به الحياة والمجتمع على الوجه الذي يحقق أهدافه ويرضي المولى تبارك وتعالى؛ ولكي يكون العمل في حياةِ الإنسانِ المسلمِ مؤدياً نتائجَه محققاً أهدافَه مقبولا ًعند الله عزَّ و جل؛ لابد أن تَتَوافر فيه شروط في مقدمتها: إخلاصُ النية لوجه الله سبحانه وتعالى وعندما أقول إخلاص النية لله سبحانه وتعالى لا أعني بذلك الصلاةَ والصومَ فقط؛ بل إن كل عملٍ في حياة الإنسان المسلم ينبغي أن يكون متجهاً فيه لمرضاة الله عزَّ وجل، يبتغي الأجر والقبول لديه، والنية سببٌ لحصول الأجر وبدون النية -أي إخلاص القصد لوجه الله تعالى- لا ينال الإنسان على ذلك أجراً. قد ينال أُجرةً من أُناس مثله ولكنه عند الله عزَّ وجل لا ينال شيئاً، قضيةُ النية سأقف عندها بعد قليل فهي روح العمل وهي سر قبوله كما أشرت
الأمر الثاني: إتقان العمل –أي عمل– سواءٌ كان صلاةً وصوماً وعبادةً وحجاً وزكاةً وغير ذلك من العبادات والطاعات، أم كان صنعةً تقدمها أو مهنةً تقوم بها، أو وظيفةً تؤديها ينبغي أن نتقن العمل. وإتقانه إنما يكون بأدائه على الوجه الصحيح، مستوفياً شروطه مستوفياً أركانه مستوفياً آدابه، وهذا يقتضي العلم بهذا العمل، الطبيب الذي لم يتمكن من فن الطب في دراسته لا يمكن أن يتقن صنعة الطب في ممارسته، والذي يقف للصلاة بين يدي الله عزَّ وجل ولم يكن قد تعلم أحكام الصلاة؛ فإنه لن يؤديها على الوجه الصحيح، والذي يَدَّعِي الجهاد في سبيل الله إذا لم يكن قد تعلم أحكام الجهاد وأحكام السياسة الشرعية وما يتعلق بالعمل الجهاديّ ربما تحول عمله إلى جرائم تدمرُ المجتمع والحياة بدلاً من أن يكون عملاً يتقرب فيه إلى الله عزَّ وجل، أيُّ عملٍ في هذه الحياة ينبغي أن يكون متقناً وإتقانه يتوقف على معرفة آدابه وأحكامه وشروطه؛ أي ينبغي أن أتفقه في الدين "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين"، هذا في جميع الأعمال التي تمارسها سواءٌ كان عبادةً أو جهاداً أو طباً أو مهنةً أو وظيفةً من الوظائف التي يقوم بها الإنسان لكسب عيشه، لابد أن يتقن الإنسان بالدراية والمعرفة والأداء، ومالم يتعلم لن يحسن العمل، ومالم يحرص على أدائه على النحو الذي تعلمه لن يفضي إلى الثمرة المطلوبة منه.
وشرط قَبُول العمل عند الله أمران: الأمر الأول إخلاص القصد لله، والأمر الثاني أن يؤديه على الوجه الصحيح، وإلا فَرُبَّ إنسان قام بعمل يرجو به الثواب فكان وبالاً عليه. والنية إذا لم تكن مصحوبةً بمعرفة وحسن أداء ليست بشيء، لا قيمة لنيةٍ لم تقترن بحسن الأداء ومعرفةٍ لوجوه حُسن الأداء.
ثمَّ إذا أمكن أن أخلص القصد لله جلَّ شأنه، وأمكَن أيضاً أن أتعلم فأؤدي العمل على الوجه الذي تعلمته متقناً على الشكل الأتمّ، هناك أمرٌ ثالثٌ هو من الضرورة بمكان هو أن أستقيم )فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت( بالاستمرار والديمومة والمواظبة. كثيرون الذين يتعلمون ويباشرون أعمالهم على النحو الذي تعلموه ثم يملّون التزام الضوابط والأحكام والشروط فلا يواظبون على ما كانوا قد تعلموه في الشكل العملي أوفي ديمومة أدائه.
نحن اليوم يُطلب منا أن نكون خلفاء الله في الأرض، نؤدي واجباتنا على النحو الذي أمر الله عزَّ وجلَّ به، خلافة الله في الأرض أن نَعْمُرَها على الوجه الذي أمر الله عزَّ وجلَّ به بالخير بالرحمة بالعدل وبالإحسان والإتقان وبالإخلاص. ما نجده اليوم، نجد للأسف أكثرَ الذين يؤدون الصلاة يؤدونها مقلدين بعضهم دون أن يتعلموا أحكام تلك الصلاة، أكثر الذين يصومون كما يصوم الناس ولكنهم لم يتفقهوا في أحكام الصيام، أكثر الذين أو كثيرٌ من الذين يمارسون المهن يؤدونها على وجه ما يرضي الآخرين، لكنهم لا ينضبطون بالشروط الفنية والعلمية الدقيقة لحسن أداء هذا العمل، إما أنه لا يتقنه على الوجه الذي أمر الله عزَّ وجلَّ به من حيث الأحكام الشرعية التي فرض الله علينا أن نؤدي العمل ملتزمين بها، أو لا يؤدي العمل على النحو الصحيح من حيث النظام الكوني أو النظام الوظيفي الذي نؤدي أعمالنا في إطاره.
أيها المسلمون:
اليوم عملٌ ولا حساب، ولكنَّ غداً حسابٌ ولا عمل. هذه مسألة قد لا يلتفت الناس إليها لكنها ضابطٌ وميزان دقيق ينبغي أن نضعه نصب اهتمامنا، وسأقف اليوم بعض الشيء عند مسألة الإخلاص في القصد والنية، مع العلم بأن الإخلاص هو الشق الأول، لا قيمة للإخلاص ما لم يكن مصحوباً بإتقان العمل على الوجه الأتمّ، ولا قيمة لإتقان العمل ما لم يكن مصحوباً بنية خالصةٍ لوجه الله عزَّ وجل، وكما أشرت النية روح العمل. وعملٌ بلا نية لله قد يستفيد الإنسان منه في الدنيا، ولكن لا ثمرة له غداً يوم القيامة.
ما السبيل لتحقيق الإخلاص العمل لوجه الله عزَّ وجل؟ كلنا بحاجة إلى أن يكون عملنا مقبولاً غداً يوم القيامة يوم نقف بين يدي الله عزَّ وجل، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ سليمٍ من الرياء، سليمٍ من الغَرَضِية التي تحبط الأعمال، سليمٍ من أي شائبة أشرك فيه في قصده بالعمل غير الله سبحانه وتعالى، هناك شروطٌ للإخلاص...
الشرط الأول: دوام ذكر الله عزَّ وجل، ودوام استغفاره والتبتل والدعاء بين يديه، القلب الذاكر لله عزَّ وجل بصورة مستمرة قلب مراقبٌ لله سبحانه وتعالى في العمل، فإذا كان مراقباً لله عز وجل في العمل كانت خطوات الإنسان إلى العمل دائمة مصحوبةً بمراقبة الله، بطلب رضاء الله باستجداء القبول عند الله سبحانه وتعالى، والذكر ليس تمتمةً على اللسان؛ وإنما يقظةُ قلبٍ حاضرٍ بين يدي الله عز وجل. والذكر إنما له آدابه وأحكامه التي يضيق المقام عن بيانها وتفصيلها.
الأمر الثاني: لكي يتحقق الإخلاص في العمل والإخلاص في النية والقصد علي أن أكون دائماً متعهداً نفسي بالمحاسبة دائماً أحاسب نفسي، قبل أن أنام أخلو إلى نفسي فأفكر في اليوم الذي انصرم ما أحسنت فيه أو أسأت، فإن كنت قد أحست سألت الله عزَّ وجل القبول وحمدت الله على ما وفقني إليه، وإن كنت قد أسأت استغفرت الاستغفار الصادق الذي هو عهد بين العبد وبين ربه أن يقلع عن هذا الذنب الذي وقع فيه، محاسبة النفس والاستغفار وتذكر الموت، عندما تأوي إلى فراشك قد تنام ولا تستيقظ، ولذلك من السنة أن تقول: (باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أطلقتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) أرأيت: إنك دائما على موعد مع الله سبحانه وتعالى ؟؟ إذاً محاسبة النفس وتذكر الموت.. والموت ليس مشكلة، المشكلة التي ينبغي أن نضعها نصب اهتمامنا مع الموت هو ما بعد الموت، الموقف بين يدي الله عز وجل للحساب )فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ # وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ( أن استحضر هذا المعنى في محاسبتي لنفسي وأن يكون قلبي مستحضراً دائماً معنى الوِقفَة بين يدي الله عز وجل )أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى(، )وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُ(، ليكون ذلك دافعاً لأن يكون عملي دائماً خالصاً لوجه الله عزَّ وجل ؛لأن الله هو النافع وهو الضار وهو الذي إليه المآل.
من أسباب الإخلاص في القصد وإحياء القلب: قيام الليل والناس نيام، قم في السحر ولو لدقائق لتكون من أولئك الذين أثنى الله عزَّ وجلّ عليهم بقوله )وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ


تشغيل

صوتي