مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 08/11/2013

خطبة الدكتور توفيق البوطي: الهجرة فرصة لمحاسبة النفس


الهجرة فرصة لمحاسبة النفس
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أيها المسلمون: يقول جلَّ شأنه في كتابه الكريم:) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(
ويقول سبحانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(
ووصف الله مصير الكفرة وما يؤل إليه حالهم في نار جهنم فقال: )كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور # ٍوَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(
روى الحاكم في المستدرك بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي r قال: «اغتنم خمساً قبلَ خمسٍ اغتنم شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ و وغِنَاكَ قبلَ فقرِكَ وفراغَكَ قبلَ شغلِكَ حياتَكَ قبلَ موتِكَ»
روى الإمام عبد الله بن المبارك في الزهد والرقائق عن أبي الدرداء أنه قال: "أضحكني –بمعنى أعجبني وأثار استغرابي- ثلاث وأبكاني ثلاث، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يتبعه، وغافل وليس مغفولاً عنه، وضاحك بملء فيه ولا يدري أرضى الله أم أسخطه، وأبكاني هول المطلع عند غمرات الموت، وفراق الأحبة محمدٍ وحزبه، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية، ثم لا أدري إلى الجنة أم إلى النار" .
أيها المسلمون:
عام من عمرنا قد مضى وودعناه، وهانحن قد دخلنا في عام جديد، لا ندري هل يكتب لنا أن نبلغ آخره أم يخترمنا الأجل قبله، عام من عمرنا.. جزء من وجودنا انتهى، ومضى إلى الله سبحانه وتعالى بما فيه من خير أو شر، من مَبَرَّات أو معاصٍ، أياً كان قد مضى إلى الله سبحانه وتعالى، والرجوع إلى الزمن الماضي محال، وما بقي لنا إلا الاعتبار والاتعاظ. بعض الناس يتعاملون مع بداية العام الجديد بطريقة كلكم يعرفها، تقام الاحتفالات وتضاء الشموع، وقريباً سترون بعض تلك المظاهر التي غابت بسبب المآسي التي تعم بلادنا، يحتفلون ببداية عام وانتهاء عام على طريقتهم التي يحتفلون بها، من غفلة ولهو وسهرات ماجنة، وزينة وغير ذلك، ذلك شأنهم .. ولكننا لو أردنا أن نحاكم المسألة بصورة عقلية، لوجدنا أن المسألة تتطلب منا نوع تدبر.
ما معنى أنه قد مضى عام وابتدأ عام؟
أي أنك قد اقتربت إلى أجلك عاماً بكامله، أي أن عمرك قد نقص، ودنوت إلى حفرة القبر، هذا ما تعنيه نهاية سنة وابتداء سنة، يعني أنك قد دنوت إلى أجلك.
ثم إن انتهاء عام وابتداء عام بالمفهوم التجاري يعني شيئاً آخر، يعني أن يراجع التاجر حساباته، ويعود إلى قيوده وسجلاته فينظر: تُرى ماذا بذل وماذا جنى؟ كم أنفق وكم ربح؟ ماذا استورد وماذا باع؟ ماذا ربح بالنتيجة وماذا خسر؟ إنها مراجعة لسجلاته، إنها عودة إلى ما كان قد قدم وبذل؟ أو ما ذا خسر وفاته؟ ماذا جنى أو ماذا خسر؟ إنها طريقة منطقية مع الذات ومنهج سليم مع النفس، أما أولئك الذين يحتفلون بطريقتهم التي نعهدها، فلهم فلسفة أخرى، إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ويرون أن هذه الحياة هي كل شيء، فإذا قدر لأحدهم أن اكتسب فرصة جديدة إذاً فليغتنم من ملاذ الحياة ما استطاع، لأنه يوشك أن تنتهي الملاذ وتنتهي الشهوات، وتنتهي الأيام. وهو لا يتدبر أنه إنسان وليس حيواناً، الحيوان لا يُسأل أما الإنسان فيُسأل، يُسأل عما أحسن وعما أساء، يُسأل عما قدم ويُسأل عما قصر)أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ# مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ( جديرٌ بمن يعلم نفسه أنه وجد يوم وجد بدون مشيئته, أنه سينتهي بدون إرادته، وأنه يتميز عن سائر المخلوقات بعقله، والعقل مناط المسؤولية، وأنه مسؤول أمام من وهبه العقل، مسؤول عن الحياة أمام من أهداه هذه الحياة، مسؤول عن سمعه وبصره، مسؤول عن عقله وجوارحه. ولكنهم استدبروا التدبر في حقيقة أنفسهم، جهلوا أنفسهم وسووا بين أنفسهم وبين البهائم، وظنوا أن الحياة عبث، أو أرادوا أن يُخيلوا لأنفسهم ذلك تنصلاً من المسؤولية فظنوا أن الحياة عبث، كلا... الحياة ليست عبثاً، الحياة مسؤولية، فأنت تتعامل مع الإنسان على هذا الأساس، والدولة والنُظم والقوانين تتعامل مع الإنسان على هذا الأساس، تتعامل معه على أنه مسؤول لذلك إذا خسر الإنسان أو فقد الإنسان عامل المسؤولية سقطت المسؤولية. وذلك إذا فقد عقله، فالإنسان يتميز عن سائر المخلوقات بهذا العقل، لذلك فإنه ليس من المنطق أن تحاسب الهرة في بيتك، أو أن تحاسب الدابة على ما قد فعلت؛ لأنها لا تفقه إلا أن تأكل وتشرب وتمارس ما خلقت له، أما أنت فقد تميزت وتشرفت بالعقل...بالوعي...بالمسؤولية، ومسؤوليتك ليست أمام إنسان، بل أمام من وهبك الحياة، أمام من وهبك الحواس، أمام من وهبك العقل، الذي يميز به بين الخير والشر، بين الحق والباطل، هذا هو الفرق بين ما أنزله الله وبين ما وضعته المخلوقات من تشريعات تفرضها على بعضها )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ( هذه فلسفتهم.. وهذه حقيقة واقعنا.
إن انتهاء عام وابتداء عام يعني العودة إلى الذات، وأن نتأمل مواطئ الأقدام إلى أين نسير؟ في أي درب؟ إلى أين نتجه؟ ما هو المآل؟ ما هي النتيجة؟
يتدبر الإنسان .. إنسان وجد في مكان مضى في غابة مضى في طريق ثم أوى إلى كهف، فوجد فيه أشبال وصغار مفترسات، حدثوني بربكم أ ينام في هذا المكان؟ أ يلهوا في ذلك المكان؟ أم أنه يفكر فوراً في الخروج من ذلك المكان إلى مكان آمن؛ لأنه يوشك أن يأتي صاحب هذا المكان الذي أودع فيه أشباله وصغاره ويوشك أن يفترسه، ويجعله طعاماً لأشباله وصغاره. لذلك لابد أن يتدبر أمره ويلوذ بالفرار، والغريب أننا لا نفكر بالمصير ولا نفكر بالخطر؟
أمر آخر ضربته مثلاً وأكرره .. سجن لمتسلط قوي سجن فيه مخالفيه، ولكن هذا السجن سجن فيه رفاهية وطعام وشراب وراحة وفرش وثيرة، تمتع السجناء في ذلك المكان، واستمتعوا بالطعام والشراب والفراش الوثير، ثم صدر الحكم من حاكم ذلك السجن بإعدام سجنائه، وفي صباح اليوم التالي وجد السجناء أن واحداً منهم قد عُلقت مشنقته فهو يتدلى منها وقد فارق الحياة... وفي اليوم التالي نودي لآخر وآخر وإذا بحكم الإعدام ينفذ بهم واحداً تلو آخر... أريد أن أسأل: ترى هل سيستمتع بعد هذا اليوم سجناء هذا القصر بطعام أو شراب ووثير فراش ؟! إنهم سيغصون بكل لقمة، إنهم لن يستقر لهم جنب. فلا يدري أحدهم ترى هل هو أم غيره الذي سينادى عليه في الغد...
أيها الناس ألسنا سجناء هذه الدنيا؟ أليس الذي يحكم هذا الكون قد قال: )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ( حكمٌ لا معقب له. ألسنا نحمل إخواننا وأحباءنا وأصدقاءنا على أكتافنا نواريهم الثرى في كل يوم، شيباً وشباناً مرضى وأصحاء؟! ألا نرى بأنفسنا حكم الله الصارم ينفذ في كل يوم ... مالنا غافلون؟! ولو أن الأمر كان يقف عند الموت لهان الأمر، فكم من إنسان لو بيع الموت لاشتراه، ولكن المشكلة في الموت وما بعده؛ الموت والحساب، والحساب والجزاء، و الجزاء جنة أو نار، فبماذا تزوَّدْنا له؟ والله سبحانه وتعالى يقول: )وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ(
أيها المسلمون:
علينا أن نعيد النظر فيما مضى على سبيل الاعتبار والاتعاظ فنحاسب أنفسنا، فما وجدنا من خير وفقنا الله له حمدنا الله وسألناه القبول، وما وجدنا من غير ذلك استغفرنا وتبنا وعاهدنا على عدم العود.
أيها الأخوة: جدير بنا أن نعزم على أن يكون يومنا خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من يومنا، يوشك أن تنتهي أيامنا، وكما قال الحسن البصري وغيره، يا ابن آدم إنما أنت أيام كلما مضى يوم نقص بعضك.
جدير بنا جميعاً أن نعيد النظر في تصرفاتنا ومواقفنا وعلاقاتنا، فنصحح المسار على مستوى الفرد، وعلى مستوى الفئة وعلى مستوى الأمة، فنحن اليوم نجني ثمرات أخطائنا، ونحصد زرعنا الذي زرعناه بأيدينا. والعاقل من اتعظ بالأمس ليصحح في الغد، وليس لنا إلا أن نتوب إلى الله ونقوم الاعوجاج، أسأل الله أن يغفر لنا وأن يلهمنا رشدنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة في 08/11/2013


تشغيل

صوتي