مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 25/10/2013

خطبة الدكتور توفيق: من خصائص الإسلام العلم وإعمال العقل


خطبة الدكتور توفيق رمضان البوطي
الجمعة 25 – 10 – 2013
من خصائص الإسلام العلم وإعمال العقل
أيها المسلمون :
يقول ربنا تبارك و تعالى في كتابه الكريم : (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)
ويقول سبحانه : (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
وقال جلَّ شأنه : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَٰذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ)
وقال جلَّ شأنه : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)
وقال سبحانه: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)
وقال جلَّ شأنه : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (من سلك طريقاً يَلْتمسُ به علماً، سهَّل الله لَهُ به طريقاً إلى الجنة)
وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ)
أيها المسلمون:
ديننا الذي شرفنا الله عزَّ وجل به وهدانا إليه دين يرتكز على قاعدة العلم، لا سبيل للوصل إلى حقائقه والتمسك بهديه عبر طريق الجهل والتبعية العمياء؛ بل إن الطريق إلى الله عزَّ وجل.. إلى رضوانه.. إلى إتباع هذا الدين إنما هو طريق العلم، وما أصيبت الأمة بما أصيبت به من مصائب في عصرنا هذا أو في غيره إلا من خلال الجهل بحقائقه، وما ارتقت أمتنا وانتصرت وبلغت سدة المجد، وهي التي كانت تعاني قبل الإسلام ما تعاني من تشرذم وجهل وتخلف وهمجية، إلا بمصباح المعرفة الذي أكرمها الله عزَّ وجل به، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان مُبَلغاً كان معلماً كان مرشداً كان مُبيناً، لم يدعُ الناس إلى إتباع ذاته وشخصه تبعية عمياء؛ بل كان دائماً يطالبهم بأن لا تقبل عقولهم دعاوى إلا مؤيدة بالدليل، مؤيدة بالبرهان، البرهان الملزم والحجة المقنعة، وكان حواره مع قريش (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، كانت رسالته دعوة إلى البحث دعوة إلى التأمل دعوة إلى التفكير للوصول من خلال ذلك إلى حقائق هذا الكون، ولتجاوز حالة التخلف العقلي والفكري والسلوكي الذي كانت تعاني منه البشرية عامة، والعرب خاصة.
هناك أيها المسلمون حقائق كونية انتشرت مظاهرها في هذا الكون، والإنسان في هذا الكون قد تميز على سائر المخلوقات بعقل يستطيع أن يدرك به تلك الحقائق الكونية، وفي مقدمة تلك الحقائق الكونية الخطيرة المهمة وجود الخالق ووحدانيته، ومن ثّمَّ فقد تميز الإنسان بالعقل. وتميزه بالعقل يعني تحمله مسؤولية البحث عن الحقيقة الكونية، مسؤولية الوصول إلى الحقائق، مسؤولية الوصول إلى معرفة الخالق، والوصول إلى معرفة وحدانيته وصفاته جلَّ شأنه. ومن خلال ذلك يصل الإنسان إلى معرفة الحقيقة والالتزام بمقتضياتها، من ممارسة للوظائف التي خلق الإنسان من أجلها، سواء في سلوكه الشخصي، أو في علاقاته مع الناس، أو في علاقاته مع من خلقه مع الرب جلَّ شأنه .
فالإسلام استنهض العقل في الإنسان، ليتمكن من خلال ذلك من ممارسة الدور الخطير الذي عُهد إليه في فهم حقيقة هذا الكون وممارسة وظيفته فيه، والإنسان مسؤول عن ذلك، فإن تخلى عن مسؤوليته استحق العقوبة، أما سمعنا قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقد عاب على أولئك الذين انتهجوا منهج التبعية العمياء، منهج التبعية والذيلية والتقاليد، عاب عليهم ذلك فقال: (لَهُمْ قُلُوبٌ – وقد سمى العقل قلباً؛ لأن أهميته الإنسانية للإنسان كأهمية القلب لحياته - لَا يَفْقَهُونَ بِهَا – عطلوا عقولهم عن التدبر والتأمل والتدبر- لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) هم أقل من الحيوان، فالحيوان له غريزة يستطيع بلوغ حاجاته من خلالها، أما الإنسان فإنه إذا مُسِخ فتخلى عن إنسانيته بتخليه عن تلك المزايا التي شرفه الله عزَّ وجل بها، فقد هبط عن إنسانيته لا إلى درك البهيمية؛ بل إلى ما هو أحط من ذلك.
نعم ثمة فرق بين المعرفة التي ميز الله بها الإنسان وبين الإدراك الغريزي الذي متع الله به الحيوان، الحيوان لديه مدارك غريزية، لكنها مدارك يستطيع بها أن يحقق حاجاته اليومية، هي ليست معارف، ومن ثّم تظل هي ذاتها. لا يمكن أن تتجاوز قدرها؛ فالحيوان بكل ما أوتي من مهارات لا يكتسبها معرفةً، وإنما يكتسبها غريزة؛ ومن ثم لا تتطور ولا تنمو بل تبقى هي ذاتها.
أما الإنسان فهو مجموعة معارف متراكمة، يتعرف الإنسان اليوم على شيء فيورثه لأبنائه، فيتعرف أبناؤه على الجديد فيورثونه لأبنائهم، حتى وصل الإنسان إلى ما وصل إليه إنسان هذا العصر الذي غدا بتطوره العلمي قد بلغ الشأو الذي وصل إليه.
ثمة فرق بين المعرفة والإدراك الغريزي، إن المعرفة سبيل الإنسان للوصول إلى معرفة حقائق هذا الكون، ومن ثم لممارسة الوظيفة العظيمة الشريفة، التي أعزه الله بها وشرفه بها، عندما قال ربنا سبحانه وتعالى : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) إنها المعرفة إنه العلم الذي يستطيع أن يمارس به دوره في عمران هذه الأرض، ألم يقل الله عزَّ وجل في كتابه عن أحد أنبيائه (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أي عهد إليكم بعمرانها، بالنهوض بتلك الكنوز التي أودعها في داخل هذه الأرض، لاستعمالها في إسعاد الإنسان، ولتقوم الحياة بما يتلاءم مع كرامة الإنسان، وتسخير ما في السموات والأرض له، لماذا قال: (سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض) ولم يقل سخر للمخلوقات؟ سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه؛ لأن الإنسان هو الذي أوتي مفاتيح تسخير هذا الكون بما آتاه الله عزَّ وجل من وسائل المعرفة، من سمع وبصر وعقل يبلغ من خلاله أن يمسك بزمام الطاقة والوصول إلى حسن استثمار وعمران هذه الأرض وكنوزها؛ بل حسن استثمار الكون برمته، والوصول إلى حياة أفضل من خلال ذلك. ولكن الأمر الأهم أن يعرف نفسه ويعرف وظيفته، ويعرف واجباته.
والأمر قد يطول به كثيراً لو استفضنا، لكن هذا الكلام مقدمة لكلام آخر سأذكره في المستقبل إن شاء الله، بعد المقدمة التي أقولها الآن، إن للمسلمين منهجاً في الوصول إلى المعرفة يتلخص فيما قاله السلف الصالح بأمرين: إن كنت مدّعياً فالدليل، وإن كنت ناقلاً فالصحة.
القاعدة الأولى: إذا كنت ناقلاً فالصحة: إننا كثيراً ما نسمع نقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الأئمة أو عن غيرهم، وقد علّمنا ديننا أن لا نقبل مزاعم تنقل عن رسول الله أو عن غيره إلا مؤيدة بدلائل صحة النقل، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف نشأت علوم متعددة في خدمة هذا الهدف السامي، من أجل الحفاظ على صحة ما ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته وعن الأئمة الأعلام، فلا نقبل مزاعم تلصق بعَلَم من أعلام أمتنا؛ من رسول الله فمَن دونَه صلى الله عليه وسلم إلا إذا ثبت النقل عنه بوسائل الإثبات المعروفة عند المسلمين، والمندرجة تحت مجموعة علوم في مقدمتها: علم مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، إلى آخر ذلك من علوم، محّص من خلالها سلفنا الصالح فيما يُنقل من أخبار، وإلا فما أسهل أن يُفترى على رسول الله وعلى علمائنا الأجلاء ، وأئمتنا الأعلام.
القاعدة الثانية: إذا كنت مدعياً فالدليل، أي دليل؟ إذا كانت حقيقة رياضية فقدم دليلاً رياضياً، وإذا كانت حقيقة مادية، فأعطني دليلاً مادياً. و أي نوع من الدعاوى فدليلها من جنسها، وبهذا وصلنا إلى معرفة الخالق ووظيفة المخلوق.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حسن المعرفة، وأن لا نكون أذيالاً نتبع كل ناعق، ونصغي لكل مدعٍ، إذاً لزيفوا علينا ديننا، ولحرفوا علينا شريعتنا وإسلامنا. إن إسلامنا هذا معرفة وعلم، وليس تبعية ولا مجرد ادعاءات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي