مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/10/2013

خطبة الدكتور توفيق: لا حضارة بلا أخلاق


خطبة الدكتور توفيق رمضان البوطي
لا حضارة بلا أخلاق
يقول الله تعالى في كتابه الكريم، في معرض الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وبيان خصائص شخصيته بسم الله الرحمن الرحيم (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
ويقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
وجمع ربنا تبارك وتعالى مجموعة من فضائل الأخلاق في آيات من سورة الإسراء بدأها بقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً *رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً)
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قيل:" يا رسول اللَّه! ادع على الْمشركِين، قال: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة)
وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: (دخل أعرابي المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فصلى فلما فرغ قال اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحداً، فالتفت إليه النبي فقال: تحجرت واسعاً، فلم يلبث أن بال في المسجد فأسرع إليه الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهريقوا عليه سجلاً من ماء أو دلواً من ماء، ثم قال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) وفي رواية البزار: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)
أيها المسلمون:
الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاق، عقيدة يؤمن بها الإنسان في قرارة قلبه وتتغلغل من خلال قناعات ترسخت في عقله، هذه القناعات لم تفرض، إذ لا سبيل إلى فرض القناعات على العقول، وإنا تصل القناعات إلى العقول بالدليل والبرهان، والمحاروة التي تفضي إلى تصديق الدعاوى أو إلى تكذيبها.
والشريعة تنظم جوانب الحياة كلها، علاقة الإنسان بنفسه وعلاقة الإنسان بربه وعلاقة الإنسان بمجتمعه، سواء على صعيد العلاقات الاجتماعية، علاقة الإنسان بمجتمعه، علاقة الإنسان بالإنسان، علاقة الإنسان بأسرته، وبالمتعاملين معه مادياً أو المتعاملين معه اجتماعياً، إنها تنظم جميع جوانب الحياة.
وأخلاق: الأخلاق التي تتجلى من خلال بر الوالدين، والوفاء والصدق والأمانة وحسن الكلام، ولطف المعشر وحسن الجوار وصلة الرحم، الأخلاق هي الحضارة التي هي المظهر الإنساني الأرقى.
أيها المسلمون:
لا حضارة بلا أخلاق، أمة لا تقوم علاقاتها على أساس أخلاقي هي إلى الهمجية والوحشية أقرب، الأمم ترقى بأخلاقها وتهبط وتعتبر مظهراً للتخلف عندما تفتقر إلى القيم الأخلاقية، المجتمع الذي لا يصدق أبناؤه لا يمكن أن يستقيم، ولا يمكن أن تسود الثقة فيما بين أبنائه، ومن ثم إن الفشل والانهيار والإجرام سيكون سمة غالبة على هذا المجتمع، أجل لا حضارة بدون أخلاق، الأمة التي يتخلى الابن عن أمه وأبيه ويعقهما، أمة لا وفاء فيها، أمةٌ الوحوشُ تستعيذ بالله منها، الأمة التي لا يتمتع فيها الأبوان بالرقة والحنان والرعاية بالنسل الذي ينتسل بينهما أمة لم تصل إلى المستوى الأدنى مما يمكن أن يوجد في عالم الحيوان، الإنسان يرقى بأخلاقه، والإنسان يفقد إنسانيته عندما يفتقر إلى القيم الأخلاقية، هذا أمر قد نتوسع في عرضه. ولكني أتمم الفكرة الأساس.
أقول: لا حضارة بلا أخلاق ولا أخلاق بلا دين، إن الأخلاق التي تكون مبنية على مجرد التقاليد؛ التقاليد تنسخ التقاليد، والعادات تنسف العادات، والتطور الاجتماعي يقضي على كثير من القيم الأخلاقية التي بنيت على التوارث؛ وليس لها ركيزة إيمانية تكون قاعدة وركيزة لتلك الأخلاق. الأخلاق التي لا تكون مبنية على رقابة لله عزَّ وجل، لا يمكن أن يُطمئن إليها؛ لأنها يمكن إما أن تكون عادات متوارثة تتقلب المجتمعات فتنسخها عادات أخرى، أو أن هذه الأخلاق تكون أخلاقاً مصلحية، هم يصدقون بمقدار ما يدر عليهم الصدق من أرباح وفائدة في حياتهم الاقتصادية، هذه الأخلاق الاقتصادية تحطمها مكاسب اقتصادية يكون مردودها في نظر أصحابها أعظم وأكبر، تلك الأخلاق الغربية، الأخلاق الاقتصادية التي تعتمد على المكاسب التي يمكن أن يكسبها التاجر من خلال ثقة الجمهور به، ولكنه عندما يعلم أن ربحه سيكون من طريق آخر فإنه لن يتوانى عن أن يطرق باب الربح، وتنتهي عندئذ أسطورة الأخلاق.
وهذا الأمر يستطيع أن يدركه الإنسان من خلال قيم المجتمع الغربي، قيم المجتمع الغربي اليوم تودي به إلى قاع الفشل والانهيار، الأسرة قد انهارت، والقيم الأخلاقية قد انهارت، قد يكون الإنسان أميناً على أن لا يسرق قطعة من الحلوى أو سلعة من سوق ما، ولكنه لا يتوانى عن سرقة بنك من البنوك، أو حساب من الأرصدة؛ عندما يتمكن من ذلك، وليس ثمة ما يردعه عن ذلك، لأن الرادع عندهم إنما هو خوف من الناس أو طمع في الناس، فإذا وجد أن الكسب موجود دون أن يكون هناك رادع أو دافع فما الذي يحول بينه وبين المكاسب.
أيها المسلمون:
الأخلاق إنما تستنبت عندما تكون مرتكزة فعلاً على أساس راسخ؛ عندما تكون مرتكزة على الإيمان، عندما تكون لمراقبة الله سبحانه وتعالى، عندما تكون ثمرة لمحبة الله تعالى، عندما تكون ثمرة للشعور بالمسؤولية بين يدي الله سبحانه وتعالى الذي يقول: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) عندما يصور لنا يوم القيامة والذي لا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً إلا إذا كانت تلك الصورة راسخة في ذهنه مستقرة في عقله، قوية التأثير على سلوكه (هَٰذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقالوا: (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)
أجل... الأخلاق عندما تكون مرتكزة على إيمان بالله وإيمان باليوم الآخر والموقف بين يدي الله، وعندما تكون مرتكزة على إيمان يعلم صاحبه من خلاله أنه إما أن تسوقه قدماه بالانحراف إلى هاوية النار، أو بالارتقاء إلى قصور الجنة فإنه سيستقيم إذا كان هذا الإيمان راسخاً في عقله قوي التأثير على وجدانه وقلبه.
أصبنا اليوم بازدواجية الشخصية، حضر يوماً إلي بعض الأجانب، قالوا: "الكلام الذي تقوله لنا في معرض التعريف بالإسلام جميل جداً، ولكن الذي نراه في الشارع عندكم خلاف ذلك" وهناك كلمات كثيرة تعبر عن حالة الخيبة ممن سمعوا عن الإسلام ثم رأوا مجتمع المسلمين ليس على الصفة التي يدعو إلى الإسلام، فعلا أمر يخيب الآمال.
أيها المسلمون:
الإسلام حجة على الناس، وليس الناس حجة على الإسلام. الذين يدعون الإسلام ولا رحمة في قلوبهم يفتقر ادعاؤهم إلى دليل. وادعاء بلا دليل يُرَدّ في وجه أصحابه. ادعاء فريق إننا مسلمون ونريد نصرة الإسلام وتأييد الإسلام والنهوض بالإسلام، ثم تحطم قيم الإسلام على أيديهم، هؤلاء أدعياء، هؤلاء هم الصورة المشوهة للإسلام، هؤلاء أريد لهم وخطط لهم، وزجوا في طريقٍ يدعون فيه الإسلام ليشوهوا الإسلام.
وإذا كان الأمر كذلك، فهناك أمران مطلوبان منك أيها المسلم؛ لتكون أميناً على إسلامك، الأمر الأول: أنك أنت الذي ستبعث يوم القيامة، أنت الذي ستقف بين يدي الله عزَّ وجل كما قال: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أنت الذي ستقف بين يدي الله عزَّ وجل (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) فاتق الله، وضع في حسبانك الموقف بين يدي الله، لا ثناءَ الناس ولا ذمَّهم، لا قبول الناس ولا رفضهم، ضع في حسابك الموقف بين يدي الله، قد تزل منك القدم، سارع إلى الارتماء على أعتاب الله وقل يا رب تبت إليك، فكل ابن آدم خطاء. والمسؤولية ليست بين يدي المجتمع، المسؤولية بين يدي رب العالمين الذي يعلم السر وأخفى، يعلم الدوافع ويعلم الحقائق، ويعلم ما يستكن في النفوس، هذا الأمر الأول.
والأمر الثاني: أنك عندما تقول أنا مسلم فإنك تبرز أمام الآخرين شخصية الإنسان المسلم، وبالتالي فإن عليك أن تكون أميناً على مظاهر تلك الشخصية، على ما يترجم حقيقة تلك الشخصية وصفاتها، أن يكون ادعاؤك مقروناً بالدليل العملي، بالصدق، بالاستقامة، بالترجمة الصحيحة لهذا الادعاء. اتق الله وكن أميناً على هذا الدين على هذا الإسلام، لا تشوه الإسلام بازدواجية شخصيتك، سلوكٌ في وادٍ وادعاء في وادٍ آخر الله تعالى يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الله تعالى أثنى على نبيه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم) عندما وصفت السيدة عائشة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خُلقُه القرآنَ" أي إنه كان صورة تترجم القرآن في كل تصرف أو حركة أو سكون في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم أو تصرفاته، فإذا كنت مسلماً انظر إلى شخصية رسول الله فاجعلها قدوة لك (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) لا تقل الناس..، إياك أن تكون إمعة؛ تقول إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، قل إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أحسنت؛ لأنك لا تحسن من أجلهم تحسن لوجه الله عزَّ وجل، فمسؤوليتك بين يدي الله وليس بين يدي زيد وعمرو انس الخلق وتذكر الخالق، اِنْسَ العبد وتذكر المعبود، استشعر مراقبة الله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم)، (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ) هذا المعنى يجب أن يترسخ في النفوس.
أمران أريد أن أؤكد عليهما في السمة الأولى للإسلام والتي ينبغي أن نقف عندها وقفة طويلة، لا على أساس التأمل الفكري، وإنما على أساس الترجمة الواقعية، هي أن الإسلام أخلاق، يتمحور الشرع الإسلامي كله على ركيزة الأخلاق، على مبدأ الأخلاق: الأمانة والصدق والاستقامة، الوفاء البر الإحسان فهذا هو ديننا، ليس ديننا وحشية ولا همجية ولا كذباً ولا دجلاً ولا ازدواجية الشخصية، إسلامنا سمو، إسلامنا أمانة، إسلامنا رفعة، إسلامنا أخلاق إسلامنا كما أنزل الله تعالى لا كما يدعي أولئك وهؤلاء، بل كما أمر الله عزَّ وجل الذي قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.


تشغيل

صوتي