مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 15/10/2013

خطبة عيد الأضحى للدكتور توفيق البوطي


خطبة العيد الأضحى المبارك للدكتور توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون:
يقول الله جل شأنه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)
إن من تأمل واقع بلادنا ومعاناتها خلال سنتين ونصف السنة، ويلاحظ التصعيد الخطير الذي أثير في الفترة القريبة الماضية، حتى حبس الناس أنفاسهم، ثم تأمل ما آل إليه الأمر بعد ذلك يجد نفسه أمام فجر بزغ نوره، يبشر بفرج يعيد للوطن أمنه وللمواطن طمأنينته. ونحن إذ نشكر الله تعالى على عظيم فضله في ذلك ونحمده، لا يسعنا إلا أن نوجه الشكر أيضاً لأولئك الذين بذلوا الكثير من دمائهم حرصاً على سلامة الوطن والأمة. ونوجه الشكر لربان السفينة الذي وفقه الله لحسن الخروج من المأزق الذي أريد زج البلاد فيه. سائلين الله تعالى أن يسدد خطاه لما فيه خير البلاد والعباد في دينهم ودنياهم.
وشكرُ الله سبحانه يحصن النعمة، ويزيد منها. ويقتضي منا مضاعفة الجهد في طاعته، وتجنب معصيته. والبحث عن مسالك الصدق في التقرب إليه.
والآن لننتقل إلى مرحلة إعادة البناء. سواء على الصعيد العمراني أو على الصعيد الإنساني والاجتماعي. مرحلةِ إعادة بناء الفهم الصحيح للإسلام الذي حاول البعض تشويه معالمه. حتى جعلوا من أعظم شعار يحمله المسلمون تعظيماً لربهم (الله أكبر) شعاراً للتدمير وأبشع صور القتل. ولا أزال أذكر مقولة قائد الوطن بضرورة تعميق إيمان الجيل الناشئ بالله سبحانه وتعالى. لإزالة سوء الفهم الذي تركه ارتباطُ صور الإرهاب والقتل والتدمير بهذا الشعار القدسي (الله أكبر).
أرادوا تغرير البسطاء بذلك. وإسلامنا كما كان قال العلامة الشهيد رحمه الله هو: كما أنزله الله وليس كما تريد قوى الشر والكيد للإسلام. إسلامنا كما وصفه الله تعالى إذ قال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
إسلامنا علم وحضارة. وليس تخلفاً وهمجية. فالله تعالى هو الذي قال لنا: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وهو الذي بدأ تنزيل كتابه بقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) والعلم نبراس به نعرف ربنا، وبه ندرك عظمة ديننا، وبه يرتقي مجتمعنا. وبه ندرك معنى تكريم الله للإنسان بتسخير ما في السموات وما الأرض له في قوله جل شأنه: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) فهو سبيل استغلال الكون في خدمة الإنسان بالتقدم العلمي. والنهضةُ العلميةُ هدف ديني وواجب شرعي.
إسلامنا أمرنا أن ندعو الناس إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالقتل وسفك الدماء وبث مشاعر الحقد والكراهية. بل إن إسلامنا منح الإنسان غير المسلم الحق في ممارسة شعائر دينه. فلا إكراه في الدين. وفي الوقت نفسه أمر بالحوار المثمر الإيجابي فقال: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). ومتى كانت العقائد تعتنق بالإكراه؟ وقد علمنا ربنا حسن التعامل حتى مع عدونا فقال: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) وروى الشيخان: عن أَبِي مُوسَى قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: (بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا) وأمر بحسن معاملة غير المسلمين من غير المعتدين، ألم يقل الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
إسلامنا توحيد للكلمة وليس تمزيقاً لها. فالله تعالى يقول: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ). ويقول: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). ويقول: (...فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وروى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ).
أين الخوارج الجدد والتكفيريون أدعياء الإسلام من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما حين خطب النَّاس يوم النَّحر (يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) فأعادها مراراً ثم رفع رأسه فقال: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) قال ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما: فو الَّذي نفسي بيده إِنَّها لوصيَّته إِلى أمَّته فليبلغ الشَّاهد الغائب - لا ترجعوا بعدي كفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"
إن التطرف يولد التطرف، وديننا دين الوسطية والاعتدال. نحن في سورية نرفض التطرف المجافي لديننا، والذي يتجلى في موقف التكفيريين الغلاة، الذين يستبيحون دماء الناس لمجرد مخالفتهم في مذهبهم، كما نرفض التطرف الذي يجعل من موقف التكفيريين مسوغاً للنيل من الدين والقيم الإيمانية والشرائع الربانية.
إن وطننا منذ فجر التاريخ الإسلامي يحتضن أطيافاً متعددة تعيش بسلام ووئام. معابده مصانة، والجميع يمارس شعائر دينه بحرية، فكل منطق يتخذ من الإرهاب والإقصاء والإلغاء منهجاً له مرفوض في وطننا. وكل منطق يدعو للتعايش في ظل قوله تعالى (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) وقوله صلى الله عليه وسلم (وخالق الناس بخلق حسن) مقبول ومرحب به.
لنعد فنبني وطننا بالمحبة والتراحم والتعاطف والتعاون. ولنمسح على جراح الوطن بيد الحرص وبمشاعر الغيرة على هذه الأمة المصابة وهذا الوطن الجريح ... لنبن وطننا ولنوحد صفنا في ظل إيمان وعدالة ومحبة، ولنتجاوز مشاعر الكراهية التي فجرها أعداء ديننا ووطننا. بالمحبة والتآخي، ببناء سورية المتجددة والنهوض بها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تشغيل

صوتي