مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 09/08/2013

خطبة الدكتور توفيق: من هو الصنف الثالث؟


خطبة الدكتور توفيق رمضان البوطي
من هو الصنف الثالث؟
أما بعد فيا أيها المسلمون:
يقول الله جلَّ شأنه في السورة الثانية من كتابه العظيم في سنام القرآن سورة البقرة:
(الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)
أيها المسلمون:
تأكد لكل مسلم مضى عليه شهر رمضان، أن الجائزة التي ينالها الإنسان من شهر رمضان في هذه الحياة، هي تلك الصفة السامية العظيمة التي هي التقوى إذ قال سبحانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وقد مضى شهر رمضان - سبحان الله - سريعاً واليوم وفي نهايته نحن مطالبون بأن نتأكد ونبحث ونتحرى هل اكتسبنا صفة التقوى؟ هل نلنا الجائزة التي وعد الله تعالى بها الصائمين؟
في أول هذه السورة بيان لصفات الأتقياء بسيط جدا وواضح جداً (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين فازوا بالنجاح هم الأتقياء، الذين صدقت عقولهم بالحقيقة الكونية لم يبالوا بالدليل الحسي، لأن عقولهم مفتاح عظيم لدرك الحقائق، أما حواسهم فما هي إلا منافذ للعقول لتحلل الظواهر التي تصل الحواس ويدركوا من خلالها حقائق الكون العظمى، هذه الصفة الأساس فيهم - يؤمنون بالغيب -ويستقيمون على أداء الصلاة ودفع الزكاة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الحقيقة الإيمانية الواحدة من لدن آدم إلى محمد r عقيدة واحدة ودين واحد.
فريق آخر.. ذلك الفريق رفض الحقيقة ابتداءً، فلم يبحث عنها، ورفض البحث عنها مهما توفرت الأدلة، ولو بحث لكان من حقه أن نضع الأدلة والبراهين أمام عينيه، ولكنه أعرض وقرر سلفاً أنه لا يريد (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) أوصدوا عقولهم فعوقبوا بالختم على قلوبهم وعقولهم، هؤلاء الذين قرروا سلفاً أنهم لا يريدون الحقيقة. وأنهم نهجوا في حياتهم نهج الانحراف والضلالة، هم يريدون تلك الضلالة على كل ما كانت عليه.
أما الصنف الثالث، فهو الصنف الأخطر، له هويتان هوية معنا وهوية يبرزها لأعدائنا، أبرز علامة له أنه يسعى في الأرض فساداً، وإذا انتقدت فساده سماه إصلاحاً، وإذا دعوته إلى تحقيق صفة الإيمان كما هو حال المؤمنين في شخصيته، وصف أهل الإيمان بالسفاهة.إنهم يعملون لصالح جهة أخرى، لصالح أعداء الأمة، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا اجتمعوا بأسيادهم وأولياء نعمتهم قالوا في تفسير حملهم لهوية الإيمان بيننا إنما نحن مستهزؤون، هذا الفريق الخطير من الناس جدير بأن نحلل وصف القرآن لهم لنحذرهم بمقدار ما حذر القرآن منهم، هذا الفريق وصفهم النبي r بصفات: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان) وقال في وصفهم:(أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً؛ ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) يتجاوز في خصومته كل الضوابط والقيم والأخلاق .
هذا الفريق هو الأخطر في المجتمع الإسلامي، هو الفريق الذي إذا ما سنحت الفرص وأحدق الخطر بالأمة أبرز هوية العمالة، هوية الولاء لعدونا. وتعامل معه وتعاون معه وأبرز شخصيته الحقيقية (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)، من يخدعون؟
مسألتنا أيها المسلمون أن علاقتنا بيننا وبين مبدئنا، ليست علاقة شخص بآخر، أنا أستطيع أن أخدعك وأنت تستطيع أن تخدعني، أستطيع أن أبرز أجمل صفاتي فتنخدع بتلك الصفات، وتستطيع تبرز لي صفات يمكن أن تنتحلها وتتظاهر بها فتخدعني بتلك الصفات، أما هذا الدين فالعلاقة فيه ليست بين الإنسان والإنسان، العلاقة فيه بين الإنسان وخالق الإنسان، الذي يعلم السر وأخفى، الذي يعلم ما في أنفسكم، الذي لا يخدع، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وأخفى، يعلم حقائق الناس وبواطن حقائق الناس، لذلك كان لابد من يفضح البيان الإلهي هذه الزمرة الخطرة في المجتمعات، والتي عانى منها المسلمون في الصدر الأول ما عانوا، وهي ظاهرة ابتُليَ بها الإسلام منذ فجر تاريخه إلى يومنا هذا، ونحن اليوم إذ انتهى شهر رمضان، وحدد الصفة التي ينبغي أن يكتسبها الإنسان من صيامه، وهي العبادة التي لا تتجلى في جوارح الإنسان لأنها عبادة سلبية ؛ وصف النتيجة التي يكتسبها الإنسان بالتقوى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، والتقوى: إيمان بالغيب، علاقة بين الإنسان وبين رب السموات والأرض، وربُنا لا نستطيع أن نراه، ولا تصل حواسنا إليه. ولكن عقولنا قد هدتنا إليه، ظواهر النظام في هذا الكون، والأدلة الواضحة التي تشير إلى عظيم عنايته وحكمته، لا تدع مجال لمتشكك أو مرتاب (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) الذين يستخدمون عقولهم في الوقت الذي يعجز الحيوان فيها أن يستخدم عقله، لأنه لا عقل له، وإنما يستخدم حواسه والغريزة التي أودعها الله فيه، أما الإنسان الحر .. فهو الذي يُعمِل عقله ، لا يُعمِل غريزته ، ويستخدم حواسه في خدمة عقله، هذه صفة الإيمان.
الفريق الثاني... والذي قرر سلفاً أنه لا يريد الحق ولا يريد أن يبحث، ولا يريد أن يصغي لنداء الحق أبداً (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون) هذا الفريق دعونا منه؛ لأنه يعيش على هامش الكون، على الرغم من أنه الكثرة الكاثرة، لأن الكثرة الكاثرة هي التي تنصاع لأهوائها لا لعقولها، أما الفريق الأخطر، والذي قد نحتاج لتفصيل بيانه قد لا تتسع له خطبة واحدة، فهو هذا الفريق الذي أشار إليه القرآن، أربع آيات في وصف المؤمنين، آيتان في صفة الكفرة، ثلاث عشرة آية في صفة الفريق الأخطر المتلون الذي كان أبرز صفة فيه هي صفة الإفساد في الأرض.
لاحظوا .. من هو الفريق الذي وصف بصفة الإفساد في الأرض؟ في هذه الآيات ..هم المنافقون، وفي آية أخرى اليهود، وفي آية ثالثة .. قطَّاع الطرق المجرمون (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)أمَّا في شأن اليهود، يقول سبحانه وتعالى:(وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)وهنا أبرز صفة وصف بها المنافقين بأنهم المفسدون.وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض، سموا إفسادهم إصلاحاً؛ يخربون ، يقتلون ، يجرمون ، يرتكبون أشنع الجرائم، يرتكبون أنواع الفساد في الأرض، ثم يصفون أعمالهم هذه بالإصلاح (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)ويؤكد بيان الله عزَّ وجل أن هذه الزمرة من الناس هي الزمرة الفاسدة في الأرض، ثم والخطير في شأنهم أنهم ينتحلون هوية الإيمان (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ) يصفون إيمان أبي بكر، إيمان عمر، وإيمان الأجيال كلها إيمان سفهاء، وإيمانهم هو الإيمان! أرأيتم إلى إبراز هذه الصفة الخطيرة فيهم؟ يصفون أنفسهم بالإسلام والإيمان، ويصفون الآخرين بأنهم سفهاء، بل ويصمونهم بالكفر؛ بل يكفرون مخالفهم، لماذا ؟ لأنهم لا يشاركونهم في الإفساد في الأرض.
الصفة الثالثة: هي صفة الولاء للعدو الخارجي الذين وصفهم الله عزَّ وجل في كتابه بقوله (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ - أي يحبط مؤامرتهم ، ويفضح خيانتهم -اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى– تخلو عن الهدى ، وآثروا الضلالة - فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) أقف عند هذه النقطة؛ لعل الله تعالى يوفقنا لإبراز وتحليل هذا الفريق الخطير من الناس في موقف آخر إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تشغيل

صوتي