مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/07/2013

خطبة الدكتور توفيق: رمضان شهر الصبر والشكر

خطبة الجمعة للدكتور توفيق رمضان البوطي
بتاريخ 19/07/2013
رمضان شهر الصبر والشكر
أيها المسلمون:
يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ * وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)
ويقول سبحانه: بسم اللَّه الرَّحمن الرَّحيم (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
ويقول جلَّ شأنه : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
ويقول سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
روى مسلم في صحيحة ، عن صهيبٍ الرومي t قال : قال رسول الله r : (عَجَبًا لأمرِ المؤمن إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ، إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ)
أيها المسلمون :
نحن في شهر رمضان شهر الصبر وشهر الشكر، شهر الصبر على الجوع والإمساك عما أمر الله تعالى بالإمساك عنه، شهر الصبر على الشدائد التي أحاطت بنا وبالأمة، بسبب كيد تعرضت له من سنتين ونيف لتمزيق كلمتها وتدمير بلادها والقضاء على الروح الإسلامية فيها، صبرٍ على تداعيات هذه المحنة من دمار من قتل من تشريد، من حرمان، من قلة وضائقة حلت بنا، نعم علينا أن نتسلح بالصبر(وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) نستعين بالله لنكون على قدر المسؤولية، ولنكون على قدر درجة الصبر في مواجهة الشدة بالرضا والثبات على الخير والثبات على المبدأ، و الثبات على النهج، لا نتراجع ولا نخيب ولا نيأس بل نستعين بالله ونتابع السير على نهجه، ونتابع السير على أوامره واجتناب نواهيه )وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(
أجر الصابرين أجر عظيم، الصوم واحد من عناصر الصبر يقول الله في الحديث القدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)
الله أعلم كم سيكون أجرك أيها الصائم، الله أعلم كم سيكون أجرك أيها الصابر على الشدائد التي أحاطت بك على المحن التي ألمت بك، هذه الشدائد التي تتوالى والتي تتوالد مع مرور الأيام، شدة تتولد عنها شدة، ولكن أيها المسلمون، يقول النبي r: (وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسرا) إن النصر مع الصبر. والصبر ليس حالة سلبية الصبر حالة إيجابية، الصبر ليس خنوعاً لأمر واقع، لكنه مواجهة للشدائد التي تقع، ثبات على النهج الذي يرضي الله؛مهما كانت المصاعب ومهما كانت الشدائد نقول كلمة الحق ولا نبالي، ونثبت على نهج الدعوة ولا نبالي، ونحمي الحق الذي أمرنا الله بحمايته ولا نبالي، نصبر على الطريق مهما كلف الصبر من الثمن و(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
(وَ َلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ), أي خوف أحاط بالأمة كالخوف الذي أحاط بها في عصرنا هذا في أيامنا هذه (لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) – نحن ملك لله يقضي بنا بما شاء راضون بقضائه مستسلمون لأمره ثابتون على نهجه لا ننفتل ولا نغير ولا نبدل نثبت مهما كانت الأقساط ونصبر مهما كانت الشدائد، صبر أصحاب رسول الله وجَنَوا ثمرة صبرهم نصراً لا ينساه التاريخ، سطره في أعظم صفحاته.
أيها المسلمون:
ينبغي أن نواجه هذه الشدة التي تحيط بنا بعودة صادقة إلى الله سبحانه وتعالى،وصبرٍ على الشدائد التي نراها في سبيل الثبات على نهج الله تعالى.
الصبر يكون على فعل الواجبات، وقيامنا بالصلاة والصوم والزكاة واجبات، والصبر يكون على ترك المنهيات، والأمور المنهية كلها معروفة والنفس تواقة إليها، فكبح جماحك عنها، والصبر عن تركك لها هو لون آخر من الصبر، والصبر على الشدائد التي تلقاها في حياتك من نقص في الأموال والأنفس والثمرات، من شدة تصيب الإنسان في جسده، أو شدة تصيب الإنسان في حبيب له، أو شدة تصيب الإنسان في فقد عزيز عليه، كل ذلك يحتاج إلى صبر يحتاج إلى نوع من الرضا بقضاء الله عز وجل، والتجمل بالصبر لأنها أقساط نقدمها بين يدي موعدنا عندما نلقى الله عز وجل فيلقانا بجزاء الصابرين، جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين صبروا على تقواهم وثبتوا على نهج الخير والسداد والهداية.
الأمر الآخر هو الشكر (إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ)
أيها المسلمون :
ربنا تبارك وتعالى يقول: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) والشكر يكون باللسان، بأن نقر بنعمة الله سبحانه وتعالى، ونحن وللأسف حتى هذا الشكر أكثرُنا قد فقده، تسأله كيف حالك؟ يقول: الأمور صعبة، مع أن النبي r يقول: (من أمسى وأصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بما فيها) عندما تنظر إلى وضعك، تصور أوضاع أولئك الذين فقدوا بيوتهم، فقدوا أحباءهم فاذكر نعمة الله عليك، اذكر نعمة الله عليك إذ عافاك في بدنك، إذ حقق لك كفايتك، قل الحمد لله، أقِرّ بنعمة الله عليك إذ أكرمك بالعافية، فلو حُرِمتها ماذا عساك أن تفعل، المرض شيء لا تفعله، شيء يبتلى به الإنسان ولا يدري من أين يصيبه. اشكر الله على عافية بدنك اشكر الله على كفاية رزقك، وإن كانت في شيء من الضيق. لئن شكرت الله على ما أنت فيه من نعمة تتفيأ ظلالها ليزيدنك، ولكن إن تأففت وتنكرت لفضل الله سبحانه عليك، ونسيت إحسان الله إليك واحتكرت النعمة عن مستحقيها، وحبست الزكاة عن مستحقيها، وظلمت إخوانك فكنت ذا أثرة وشح واستغلال، ليكونن ذلك سبباً في حرمانك من النعمة.
كثيرون أولئك الذين يستثمرون الأزمة، كثيرون أولئك الذين يعيشون على آلام غيرهم، يسعدون بتعاسة غيرهم، ينتعشون بأمراض غيرهم، أولئك طفيليات في المجتمع لابد أن تلقى جزاءها، الذين يستغلون حاجة المجتمع وغلاء الأسعار وشدة الحالة التي يعيش فيها أبناء مجتمعنا هؤلاء يلجمهم الله عز وجل بعذاب شديد في الدنيا بالحرمان من النعمة وبالآخرة بعذاب جهنم، ماذا بنا ؟ أين نحن من صفات المؤمنين: )وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ( أين نحن من فريضة الزكاة؟ أين نحن من حديث رسول الله: (صَنَائِعُ الْـمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ) ؟
إن الجائحة من البلاء والشدة التي أحاطت بنا أحاطت بالغني والفقير، وبابن المدينة وابن الريف، وابن الريف أشد تعرضاً لها، ألا نتراحم ؟! ألا نجعل من حالة أصحاب رسول الله r أسوة لنا ؟! الذين قاسموا إخوانهم أموالهم وبيوتهم، آثروا إخوانهم على أنفسهم (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) من يوق شح نفسه: من حفِظَه الله تعالى من داء الشح والبخل، والأنانية والأثرة أولئك هم المفلحون، أولئك هم الفائزون في الدنيا بالبركة في الرزق.
والله إن الصدقة بعشر أمثالها، حصنوا أموالكم بالزكاة، داووا مرضاكم بالصدقة، هكذا يقول النبي r إذا أردت أن تحفظ مالك ادفعه للمستحقين تحفظ بذلك مالك، إن أردت أن تصون صحتك تصدق ففي ذلك عافيتك وعافية أهلك.
والله أيها المسلمون، إني لأعرف أناساً أعرفهم بأعيانهم أعجز الطبَ أحوالهم، وأمراضُهم أعجزت الطب فما كان شفاؤهم إلا بلمسة حنان على رؤوس الفقراء والمساكين، فشفاهم الله تعالى من مرضهم، وعافاهم، فكان الطب عاجزاً، وكان الرب بالصدقة قد عافاهم.
حصنوا أموالكم بالزكاة لا بالشح ولا بالاحتكار، إن المحتكر ليضع في ماله داءً يدمر ماله ويذهب ببركة ماله ويذهب ببركة رزقه ويكون داءً في بطنه وفي بطن أبنائه هو الذي سقى أولاده السم، وسقى أهله السم بالظلم للآخرين فهو قاتل لأهله ظالمٌ لمجتمعه.
متى يستيقظ ضمير الأمة إذا لم يستيقظ ضمير الأمة في هذه الظروف الحالكة الشديدة القاسية؟
كل منا بقدر وسعه بقدر إمكانه من كان عند الرغيف فليقتسمه مع جاره، ومن كان معه الرغيفان، فليعط جاره الرغيف الآخر، من كان عنده شيء من السعة، بل إذا كنت في ضيق وأردت أن يوسع الله عليك، فابذل شيء مما أنت فيه ليوسع الله عليك، وأنا على يقين بأننا بمقدار ما نتباذل، وبمقدار ما نتراحم ستنتشل الأمة من حالتها التي هي فيها الآن، وستعود البركة التي طالما كنا نخاف عليها.
أيها المسلمون:
إن شكر النعمة لا يكون بكلمة فارغة على اللسان، إن شكر النعمة الذي ربط الله به الزيادة يكون ببذل النعمة فيما خلقت له وبعدم استعمالها فيما حرم الله إن استعمال النعمة فيما حرم الله يؤذن بزوال النعمة، وإن بذل النعمة فيما أمر الله يضاعف بركة هذه النعمة.
أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلا, وأن يرزقنا الصبر والشكر، وأن يعرفنا قدر النعمة بدوامها لا بزوالها، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تشغيل

صوتي