مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 14/07/2013

خطبة للدكتور توفيق: فضائل رمضان

خطبة الجمعة للدكتور توفيق رمضان البوطي
بتاريخ 12/07/2013
بعنوان فضائل شهر مضان
أما بعد فيا أيها المسلمون :
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(
ويقول جلَّ شأنه:) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ (
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبره البخاري:) مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه، مَنْ قَامَ لَيلَةَ اْلقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)
وفِيْ الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)
وفي الحديث الصحيح: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلقَاهُ جِبْرِيلَ وكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ ليلة فِي رَمَضَانَ فَيُداَرِسَهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ الناس بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)
أيها المسلمون :
حلَّ بنا شهر رمضان و بسطت لنا موائد الرحمة الإلهية في هذه الأيام، شهر رمضان شهر الرحمة شهر التوبة شهر المغفرة شهر الإحسان، شهرٌ أشار النبي إلى عظيم رحمة الله بعباده فيه، فقال: (وغلقت أبواب النار، وفتحت أبواب الجنة)، وأشار إلى معنى آخر وهو أنه تستيقظ نوازع الخير في النفوس الطيبة الصالحة، في النفوس السوية، قال: (صفدت الشياطين) فمكر الشيطان في هذا الشهر المبارك يكون في حالة بعد عن الإنسان، هذا إن كانت نوازع الإنسان نحو الخير مستيقظة، على أن الذين يصفدون هم شياطين الجن، أما شياطين الإنس فلعلهم يُضَاعفون جهودهم في هذا الشهر أكثر من غيره، لأنه يريدون أن يفسدوا على الناس رونق هذا الشهر، ويفسدوا عليهم نشوة العبادة فيه.
أيها المسلمون:
لاحظوا كيف ربط ربنا سبحانه وتعالى بين الصوم وبين التقوى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فما العلاقة بين الصوم وبين التقوى؟
العلاقة واضحة إن تأملنا طبيعة هذه العبادة،إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أما الصوم فهو يكسبك جبلة أو صفة تتجذر في قلبك وتتأصل في أعماق نفسك إنها صفة التقوى وكم أثنى ونوه كتاب الله عز وجل بصفة التقوى، (إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُتَّقِين)، (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر(،) إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُون(، كل هذا للمتقين، فهل التقوى صفة يمكن أن نستشفها في ظاهر الإنسان؟ النبي صلى الله عليه وسلم نفى ذلك فقال: (التَّقْوَى هاهنا)، التقوى حالة قلبية تصل مابين هذا القلب وبين ربه، والصلة بين الصوم وبين التقوى أن الصوم عبادة لا تظهر على كيان الإنسان فأنت لا تستطيع أن تفرق هذا الصائم من غير الصائم، ليس هناك مظهر يدل على الصوم فهو عبادة سلبية، هو امتناع وليس فعلاً، فأنا أراك حين تصلي، وأراك حين تزكي، وأراك حين تذهب إلى الحج وتعود مثقلاً بهدايا الحج، ولكن لا أستطيع أن أميز الصائم من غير الصائم.
الصوم عبادة فيها معنى الإخلاص لله عز وجل، فالقلب يكون حياً بمراقبة الله سبحانه وتعالى، تجوع وأنت في غرفتك وتتضور جوعاً بانتظار أذان المغرب، لا يمنعك من طعامك وشرابك إلا مخافتك من الله، ومحبتك لله، ورغبتك إلى الله عز وجل، هذا الذي ميز عبادة الصوم، ولهذا قال ربنا سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) ، كل عمل ابن آدم له، أي حظ النفس موجود، فرصة أن يتباها فيه الإنسان بعمله موجودة، أما الصوم فإن فرصة الإخلاص فيه هي الموجودة، والإنسان عندما يكون صائما ممتنعاً عن الطعام والشراب في خلوته وجلوته يكون هذا الصوم إيقاظاً لمعاني مراقبة الله جلّ شأنه في قلب هذا الإنسان، لذا غدا هذا الشهر دورة تدريبية للنفوس المؤمنة تتكرر كل سنة شهراً كاملاً توقظ في قلب الإنسان معاني مراقبة الله سبحانه وتعالى والحياء منه، والخوف منه والحب له، والرغبة إليه، قلب حيٌ بمراقبة الله عز وجل، ليستهناك مظاهر، وإنما هناك حالة مع رب العزة جلَّ شأنه بين هذا الإنسان وبين ربه،الإخلاص فيه هو الذي يحرك في القلب معاني محبة الله عز وجل وخشيته، ما الذي يمنعك من طعامك وشرابك؟ ما الذي يمنعك من شهوتك؟ شيء واحد هو مراقبتك لربك عز وجل استحضارك أن الله معك، وأن الله يراك، وأن الله حاضر، وأن الله شاهد على أعمالك، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فإذا كنت في حالة خلوة بينك وبين ربك، فإن معاني المراقبة لله عز وجل تستيقظ أكثر فأكثر في حالة الصوم. فتجعلك أكثر حرصاً على أن تنال رضاء الله عز وجل في صيامك.
على أن هذا الصوم لا يعتد به لأن قضية التدريب على الامتناع عن الطعام والشراب لون من ألوان قهر النفس، سواء كان ذلك لله عز وجل أو لحظ النفس، فكثير من الناس من يحب أن يقهر نفسه بالصوم، حتى غير المسلمين، لكن المسلم لا يعتد بصيامه إلا إذا كان امتناعه عن الطعام والشراب، وسائر المفطرات، عنواناً عن صيامه عن كل ما نهى الله عز وجل عنه.
فالطعام والشراب من المباحات في أصلهما، والمعاشرة الزوجية من المباحات في الحالة العادية، ولكن الإنسان الصائم تقرباً إلى الله عز وجل وابتغاء رضوانه، وطمعاً في ثوابه، يمتنع عن هذه المباحات، فكيف به عن المحرمات !! إنه عن المحرمات أشد امتناعاً، وإذا كان خوفه من الله وحبه له، جعله يمتنع عن الطعام والشراب، فإن حبه لله سبحانه وتعالى، سيجعله أشد حذراً مما حرم الله عز وجل، من غيبةٍ أو نميمةٍ أو كذبٍ، أو شتمٍ أو ظلمٍ أو أكلٍ لأموال الناس بالباطل، أو إساءةٍ لجار، أو قطيعة لرحم، كل ذلك مما حرم الله عز وجل أوَ امتنِع عن الطعام والشراب وهما من المباحات في أصلهما؛ وأقترف المحرمات وأنا أدعي أنني صائم؟ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) ‏مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) قول الزور، قول الباطل، القول المخالف للحق.والعملُ به: المسالك المنحرفة عن نهج الاستقامة وطاعة الله سبحانه وتعالى، أي أن الله عز وجل لن يتقبل منه صيامه عن الطعام والشراب، ما فائدة صيامك عن الطعام والشراب إن لم يكسبك رقابة الله ما يردعك عن ظلم أخيك الإنسان، عن البغي والعدوان على أخيك الإنسان، عن أكل مال الناس بالباطل.
نحن اليوم في شهر رمضان أيها المسلمون، نحن في دورة تدريبية على مراقبة قلبية لله جل شأنه نحن اليوم في شهر الرحمة في شهر التقرب إلى الله في شهر القرآن، النبي كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، عهدنا بأبناء بلدنا هذا أنهم على جانب من رقة القلب وأصالة الخير، أَفتكون فرصُ الشدة سبباً في زيادة التباذل والعطاء؟ أم تكون فرص الشدة سببا في الأنانية والبعد عن الله؟
أيها المسلمون:
ما نقص مال من صدقة و لربما كانت الصدقة صدقت السر أولى بالقبول، وأعني بصدقة السر هنا أن تنظر لأبناء مجتمعك بعين الرحمة، وقد اشتد الكرب بنا اشتدت الضائقة بأبناء مجتمعنا، بِعهُ واقنع بأقل الربح، تصدقْ فو الله لن ينقص مالك، وسيضاعف الله لك الربح وسيكرمك الله عز وجل بالبركة.
إن مالاً أُخذ من جيوب الناس بالغش والاستغلال والاحتكار والظلم سُمٌ يدخل في جوفك، وإن تسامحاً يسري بين أبناء مجتمعنا لَيُخفف من آلام هذا المجتمع، ولَيُخفف من ضائقة هذا المجتمع مالا يمكن أن تخففه مساعدات من هنا أو هناك، لا تنتظروا مساعدة من أناس في الشرق أو في الغرب فنحن في غنى عن مساعدات تأتي إلينا لتذلنا أو لتهين أمتنا, نحن في غنى، نحن إذا كنا كالجسد الواحد يعطف بعضنا على بعض ويرحم بعضنا بعضاً سنكون قوة إذاً والله لا تقهر، لأن الله سبحانه وتعالى عندئذٍ سيكون معنا.
أفنستجدي المساعدات من هنا أو هناك أو ننتظر أو نتوقع خسئوا، نحن في غنى؛ إذا كنا متحابين، إذا كنا متعاونين، إذا كنا متراحمين. نحن لسنا بحاجة إلى أمم أو إلى شعوب أو إلى دول تقدم المساعدة مرهونة بكرامة أمتنا، مرهونة بتقديم التنازلات عن حقوقنا مرهونة بإثارة الصراع بين أبناء أمتنا، نحن في غنى عن أي مساعدة أو معونة يمكن أن تكون مشروطة بكرامة هذه الأمة أو وحدة صفها.
عودوا أيها المسلمون إلى وحدة الكلمة (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)، وإن أمة يتداعى أعضاؤها لألم فرد منها بالسهر والحمى لن تغلب، وإن أمة تستبد الأنانية بين أبنائها وتفرق بين أبنائها الضائقة، فيكون بين أبنائها من الأثرة ما نرى، أمر يهدد بخطر داهم لن تجدي معه المساعدة وألوان الإغاثة.لا فائدة من أي مساعدة إذا كنا على الأنانية وعلى نهج الأثرة والجشع فيما بيننا.
أيها المسلمون:
شهر رمضان دورة تدريبية على التقوى، شهر تستيقظ فيه مشاعر الرحمة، أما سمعتم أن رسول الله أجود ما يكون في شهر رمضان؟ لماذا؟ لأنه صائمُ ويتلوا القرآن، كانت مراجعة القرآن كل ليلة بينه وبين سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام، وبصيامه وبتلاوة كتاب الله تستيقظ مشاعر الرحمة في القلب فيكثر البذل ويكثر العطاء، ويكثر التراحم، وتنحسر معاني الأنانية والأثرة والجشع.
أيها المسلمون:
لنراجع أنفسنا لنُعِد بناء هذه النفوس على أساس من التراحم،على أساس من التحابب، على أساس من التقرب لله عز وجل بأن يبذل كل منا نحو أخيه أسباب المساعدة والإغاثة والرحمة،نحن اليوم بحاجة إلى أن تستيقظ القلوب مرة أخرى، وتتعانق الأفئدة، ونبسط أيدينا إلى بعضنا بالمحبة والوئام، والتعاون والسلام، فليغمد أصحاب الأسلحة أسلحتهم، وليعلنوا أنهم مستعدون لإزالة معاني الكراهية التي سادت في مجتمعنا بتخطيط خارجي لتمزيق هذه الأمة ولتمزيق هذا الوطن وتدمير مُقَدَّراته.
سنتان ونيف، سنتان ونصف، ونحن نعاني من جراح تنزف، أما آن لنا أن تستيقظ!! أما آن لنا أن نعود إلى ربنا !! لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. مجتمعنا هذا مجتمع التحابب والعاطف والتعاون، أفيصبح مجتمع التقاطع والتدابر والتقاتل !! ما ينبغي أن يكون على هذه الشاكلة، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ) هذا هو شهر رمضان شهر التراحم والاصطلاح مع الله.
أيها المسلمون:
أسأل الله أن يرزقنا حسن الإنابة إليه وأن يجعل من هذا الشهر شهر عودة إلى رحاب هدايته إلى المحبة إلى التعاون إلى التباذل إلى التعاطف إلى التراحم. إلى أن نتخلى عن جشع نفوسنا وأن نتعاون على بذل الجهد في سبيل مسح الجراح عن بعضنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم


تشغيل

صوتي