مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 03/07/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 3 / 7 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 3 /  7 / 2020


أما بعد فيا أيها المسلمون؛ تحدثنا في الأسابيع الماضية عن الشدة المعيشية والاقتصادية التي تعاني منها أمتنا، والتي نتجت عن حصارٍ جائرٍ ظالمٍ من دول البغي والطغيان، وبتواطؤٍ من ذوي النفوس الخبيثة والطوية السيئة. ولقد عانت أمتنا ولا تزال تعاني من ذلك الحصار ومن هذا العدوان الجائر الظالم ضد أمتنا، والذي استهدف الشعب بصفةٍ خاصة، بل الطبقة الفقيرة والمتوسطة منه. ولم يبقى أحدٌ من مجتمعنا إلا وناله الأذى والسوء من هذا الحصار الجائر الظالم.


بقي أن نعود إلى أنفسنا ونتساءل: تلك هي حقيقةٌ لا مرية فيها أننا نعاني من عدوانٍ يتمثل في حصارٍ جائرٍ، بل في اعتداءٍ على مقدراتنا الاقتصادية، سواءٌ كانت متمثلةً في حقول القمح وغيرها أو في مصادر النفط ونحوها؛ هذا مما لا شك فيه.


إلا أننا ينبغي لأن نعود إلى أنفسنا ونتساءل: ما مدى مسؤوليتنا نحن عن هذه المعاناة التي نعانيها؟ ذلك لأن ربنا تبارك وتعالى أعلمنا عن قانونٍ ينبغي أن نلاحظه في حياتنا إذ قال: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ). إن معاناتنا من الشدة والفاقة والضغط المعيشي هو الذي أخبر عنه ربنا تبارك وتعالى عندما قال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). إننا ندرك جيداً أن أعداءنا يكيدون لنا، ولكن هذا الكيد منهم هو حصيلةٌ أيضاً لتقصيرٍ منا، فهل قد أدينا نحن واجباتنا والتزمنا بما أمرنا الله تعالى به واجتنبنا ما حرمه الله علينا؟


يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۝ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). هل رقت منا القلوب؟ هل خشعت النفوس؟ هل تاب العصاة من ذنوبهم؟ هل استيقظت القلوب من سباتها؟ هل عاد الظالم عن ظلمه؟ هل عاد المقصر عن تقصيره؟


لنتساءل ولنعد إلى أنفسنا: هل نحن ملتزمون بأوامر ربنا في حق ربنا علينا؛ في صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وسائر طاعاتنا؟ هل اجتنبنا ما حرم الله سبحانه وتعالى علينا من المنكرات؟ وكم هي نسبة الملتزمين منا بأوامر ربنا والمجتنبين لنواهيه منا؟ والله تعالى يقول: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). إن البلاء يعم عندما يكون هناك فسقٌ وفجورٌ وانحرافٌ عن نهج الحق والهدى.


هل التزمنا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) فاعتنينا بتوجيه أهلنا نحو الوجهة الصالحة؟ هل أمرناهم بأداء الواجبات ونهيناهم عن المعاصي؟ وقد قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) هل التزمنا بتربية أولادنا وتوجيههم الوجهة الصالحة منذ نشأتهم صغاراً؟ أم أننا سوّفنا حتى تصلّب عودهم على الميوعة والتفلّت؛ فاستعصى أمر تربيتهم علينا؟


تُرى ما مدى التزامنا بهدي الله تعالى في معاملاتنا المالية؟ هل اجتنبنا الربا الذي يعد من أكبر الكبائر في الشرع، ومن أكبر الكبائر في الاقتصاد؟ يقول الله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ويقول سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ). هذا الذي يقوله الله عن أكل الربا والذي شاع في مجتمعنا وللأسف.


وقد يستغرب البعض إذا ما قلنا لهم أن الربا غير جائز. هذا أمرٌ أصبح مستهجناً ومستغرباً مع أنه من مبادئ شرعنا، والمبادئ الاقتصادية غير الإسلامية تقر بأن الربا من أعظم أسباب الانهيار الاقتصادي. وما أزمة الرهونات العقارية في أمريكا إلا بسبب الربا. وما انهيار الاقتصاد في دول أخرى إلا بسبب الربا. ألم يقل الله: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا)؟ هل اجتنبنا يا ترى سائر المعاملات المالية المحرمة من أكل أموال الناس بالباطل؟ الله تعالى يقول: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ)... ألم يشع بيننا وللأسف الغش والاحتيال والخديعة وأكل أموال الناس بالباطل، والتجاوز على حقوق اليتامى وحقوق المساكين؟


تُرى هل اجتنبنا الظلم بشتى أنواعه. هل اجتنبنا الظلم على مختلف المستويات؟ يقول الله تعالى في الحديث القدسي الذي يرويه لنا النبي ﷺ: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) و(الظلم ظلمات يوم القيامة) كما يقول النبي ﷺ. وهكذا بقية الأخطاء عاقبتها لا يستهان بها.


يبين النبي ﷺ لنا عواقب مخالفة شرع الله تعالى، والتجافي عن تعاليم دينه التي أمرنا بها. ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) والنبي ﷺ يقول: (لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا) كل هذه الأمور حذرنا الله منها وبين لنا عواقبها.


أليس جديراً بنا أن نستيقظ ونحاسب أنفسنا؟ "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم".


ونحن إذ نعلم أن العدوان قد استهدفنا، إلا أننا ينبغي أن ندرك أن هذا العدوان ما كان له أن يصل إلينا لولا أننا مقصرون بحق أنفسنا ومقصرون في الالتزام بأوامر ربنا.


ولعل البعض ينكر هذه الأمر كله ويجحده. ففي مجتمعنا من يجحد كل هذه الأمور التي نحذر منها؛ فهو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. أقول لهؤلاء: لكم أن تسيروا في الدرب الذي تريدون ولكن إذا كنتم أحراراً!.. إذا كنتم أحراراً فإن أول ما تتجلى فيه حريتكم أن تتحرروا من قبضة الموت، إذ صدر الحكم المبرم الذي لا معقب له بقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). أفلِتْ من قبضة الموت ثم قل لي: أنا حر. أما إذا بردت أطرافك وتحشرجت أنفاسك فقلت يومئذٍ: أتوب إلى الله، فحسبك قوله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ).


أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً وأن يغفر لنا تقصيرنا إنه سميع مجيب


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة