مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 31/07/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 31 / 7 / 2020

أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا جل شأنه في كتابه الكريم: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ). وروى مسلمٌ عن النبي  ﷺعن هذه الأيام قال: " أيام منى أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله تعالى".


أيها المسلمون، في هذه الأيام يستذكر الإنسان المسلم الحج إلى بيت الله الحرام، وتمثل أمام عينيه مشاهد الحج؛ الكعبة المشرفة التي تملأ القلب هيبةً وجلالاً، فإذا وقع بصره عليها رفع يديه قائلاً: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً وبراً، وزد من شرفه وعظمه ممن حج أو اعتمر تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً وبراً) ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام). ويمضي ليطوف حول الكعبة بادئا ًمن الحجر الأسود إلى الملتزم فالباب، قائلاً: (إن البيت بيتك والحرم حرمك، وهذا مقام العائذ بك من النار، فحرّمني على النار وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك). ثم يمضي إلى الملتزم فمقام سيدنا إبراهيم فوراء الحِجر فالركن اليماني ليعود إلى الحجر الأسود مرةً أخرى ويعيد الكرة.


أي جلال! أي هيبة! بناءٌ لا يتجاوز سبعة أمتارٍ في سبعة أمتارٍ، لكنه في عظمته يكاد يكون من أعظم معالم الدنيا كلها. لماذا؟! لأن الله U أودع فيه تلك الهيبة لنسبة هذا البناء إلى جلال ربوبيته سبحانه وتعالى. وكيف لا؟! وقد كان رفع قواعده بأمرٍ من الله U لنبيين كريمين؛ قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا).


نعم؛ أقام الله تعالى هذا البيت، في أي مكان؟ في منتزهات؟ في بساتين؟ في معالم تاريخية؟ لا، بل بوادٍ غير ذي زرع. قال ربنا تبارك وتعالى على لسان سيدنا إبراهيم: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). واجعل أفئدة المؤمنين تهوي إليهم؛ إلى يومنا هذا تهوي القلوب وتشتاق وتتلهّف لتقف وتنظر وتطوف حول الكعبة المشرّفة. فإذا ما انتهى من طوافه وصلى ركعتين مضى إلى الصفا والمروة وسعى بينهما ليخلّد ذكرى عظيمةً، لكن الذكرى قد انسلخت، وبقي شيءٌ وهو السعي وراء تنفيذ أمر الله U.


فإذا جاء يوم التروية مضوا إلى منى ومن منى يتوجهون إلى عرفة. هذه الحشود.. الآلاف المؤلفة - ما عدا هذا العام - مئات الألوف بل الملايين، ينطلقون إلى عرفة، قلوبهم مفعمةٌ بالأمل برحمة الله U. ماذا في عرفة؟ صعيدٌ أجردٌ لكنه مكانٌ تبسط فيه الأكفّ إلى الله U فينظر الله تعالى إلى الواقفين هناك فيقول لهم: (اذهبوا فقد غفرت لكم) وهل أعظم من ذلك؟ عندما يذهب الناس إلى عرفة وقد تجردوا من ألقابهم ومن ثيابهم إلا ما يشبه الأكفان لكي ينادوا ربهم ويناجوه ويتضرعوا إليه.


أيها المسلمون؛ يعود المسلمون بعد ذلك مساءً إلى مزدلفة ليبيتوا فيها ثم إلى منى ليبيتوا ويرموا الجمرات. كل هذه الأمور يتجلى فيها معنيان: المعنى الأول؛ العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى؛ الانصياع المطلق والدينونة التامة لله سبحانه وتعالى. ماذا في أن أطوف وأعود إلى حيث بدأت؟ شيءٌ واحدٌ: لبيك اللهم لبيك! أمرتني فامتثلت! هذا هو المعنى الأول. المعنى الآخر: هو تعظيم الله؛ تعظيم شعائر الله. هذه الشعائر إن كانت الكعبة أو كانت منى أو كان مزدلفة أو عرفة؛ كل تلك المشاعر أماكن لها قدسيتها! لها عظمتها! ينبغي أن تصان تلك العظمة. ولقد طهر النبي ﷺ ما يمس من تلك العظمة يوم طهر الكعبة المشرفة من الأصنام.


نعم؛ إن أي معنىً يمكن أن يمسّ من قدسية الكعبة المشرفة أو من قدسية المشاعر المقدسة.. من قدسية الحرمين الشريفين؛ لا بد أن ينال صاحبَه العقاب. من نال من قدسية تلك الأماكن.. من عظمة تلك الأماكن التي قال فيها الله U: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ). أما من ينال من قدسيتها فلا بد أن ينال من الله العقاب بصورةٍ من الصور. ما ينبغي أن تمسّ شعائر الله بأي إساءة أو تدنيس.


إذا انتهينا من مناسك الحج واشتاقت القلوب إلى الحبيب ﷺ، فمضى الركب نحو المدينة المنورة حتى إذا مر أمامهم نخيل المدينة كأنه بلسان الحال يقول له: (أيها المشتاق لا تنم). نعم، ما ينبغي للمشتاق هناك أن ينام وقد صار على مقربة من الحبيب المصطفى ﷺ. المدينة المنورة التي تضم في أحشائها رسول الله ﷺ وصاحبيه سيدنا أبا بكرٍ وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما الذين كانا امتداداً لعظيم إنجازاته وعظيم جهاده رضي الله تعالى عنها وأرضاهما.


نعم؛ إذا وقف فوصل إلى المواجهة الشريفة وقال: (السلام عليكم) هل تظن أن النبي ﷺ ميتٌ قد فني. قال النبي ﷺ: ((إن الله قد حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) بل إن النبي ﷺ ليرد عليك السلام. فإذا وقفت هناك وتصورت أنك أمام النبي ﷺ وخاطبته فقلت له:


(السلام عليكم يا حبيبي يا رسول الله.. السلام عليكم يا خير خلق الله).. فاعلم أن رسول الله ﷺ يرد عليك السلام.


معالمٌ لا تنسى وصفحاتٌ مليئةٌ بالخير.. المدينة المنورة نسماتها ممتزجةٌ بأنفاس الحبيب المصطفى ﷺ.. ترابها تشرف بوطء النبي ﷺ فصارت أطيب من المسك تشرفاً بحبيبنا المصطفى ﷺ الذي كان سبباً لرفع هاماتنا وعزة أمتنا إلى هذا اليوم ما دمنا ممتثلين لهديه ومنهاجه.


نعم؛ المدينة المنورة.. إن قلت أحد فقد قال النبي ﷺ: " أحدٌ جبلٌ يحبنا ونحبه " لأنه يحتضن بين أحشاءه سبعين شهيداً من أبطال الصحابة. نعم؛ وبدر.. وهل ينسى يوم بدر؟! وبساتين المدينة وغيرها من معالم المدينة؛ معالم ينبغي أن تظل في ذاكرتنا.. في قلوبنا.. في أحشائنا؛ موضع تعظيمٍ وتكريم.


إذا كان قد حيل بيننا وبين ذلك لصعوبة الوسائل والإمكانات، فالنبي ﷺ يقول فيما رواه الترمذي: " من صلى الصبح في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان مثل أجر حج وعمرة تامة تامة تامة " فأبشروا. أما عن شوقك إلى النبي ﷺ فيقول: ((صلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم تبلغني أينما كنتم)).


أسأل الله تعالى أن يكرمنا بالقبول والفرج والعافية وأن يكرمنا بالحج إلى بيت الله الحرام.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة