مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 31/05/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 31 / 5 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 31 / 5 / 2019


أما فعد فأيّها المسلمون..


يقول جلّ شأنه في كتابه الكريم قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقال عز شأنه: (نَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نصراً عزيزا) ويقول جلّ شأنه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).


أيّها المسلمون؛ ها هو ذا شهر رمضان يمضي مودّعاً وكان مليئاً مفعماً بالقربات إلى الله ولا سيّما بصيامه وقيامه، وقد ذكر العلماء أنّ علامة قبول الله تعالى العبادة من العبد أن يغدوا بعدها خيراً مما كان قبلها، وهذا مستنبطٌ من قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فهل غدونا أكثر تقىً وقرباً إلى الله جلّ شأنه، هل أصبحت قلوبنا أرقّ لذكره واستجابة أمره؟ هل غدونا أشد تمسكاً بأوامره وأحرص على تجنب نواهيه؟ إن كنا قد وصلنا إلى ذلك وهي صفة التقى، فلنحمد الله على ذلك ولنسأل الله تعالى القبول والثبات، وإلا ففي الأيام القليلة القادمة فرصة لأن يستدرك الإنسان نفسه، ويثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه، ويمدّ كفيه إلى الله مبايعاً معاهداً تائباً آيباً منيباً له سبحانه وتعالى ليصلح ما قد مضى، وليغدوَ أكثر تصميماً وثباتاً على خطّ الهدى والتقى والرشاد.


ومع قرب انتهاء شهر رمضان الذي كنّا قد أشرنا إلى أنّه شهر الانتصارات، نستذكر فتح مكة. ونحن لا نستذكر فتح مكة والانتصار الذي جرى فيه لكي ننتشي بنصرٍ لم نصنعه، ولكن لنسلك الطريق التي سلكها النبي وأصحابه عسى أن نجد في نهايته تحرير القدس إن شاء الله تعالى.


أيّها المسلمون. إن بيت المقدس أمانةٌ في أعناقنا ونحن إذ نستذكر في فتح مكة واجبَ السعي لتحرير القدس. لنعد إلى فتح مكة ولنتسائل: كيف تم فتح مكة؟ وقد خرج النبي وأصحابه من مكّة مطاردين مضهدين، فراراً بدينهم وقد سلبتهم قريش أموالهم وبيوتهم وضغطت عليهم في سبيل أن تساومهم على عقيدتهم. لكنهم فرّوا بعقيدتهم، ومضوا لتتحقق الهجرة ولتشهد المدينة المنورة ميلاد أمّةٍ ووطنٍ للمسلمين في المدينة المنورة. كيف تسنّى للنبي وأصحابه أن يحقّقوا بعد ثمانِ سنوات من الهجرة إلى المدينة المنوّرة فتح مكة وقد خرجوا كما وصفت ضعفاء مطاردين.


الأمر الأول؛ وحّد النبي الأمّة، أنصاراً ومهاجرين وقبائل أخرى، فجعل منهم أمّةً متماسكةً تستظلّ بدين الله وتتمسّك بهديه. والأمر الثاني: التزم النبي وأصحابه بما أنزل الله عليهم من هدىً ورشاد، تمسّكوا بدين الله سبحانه وتعالى. وهذا هو السبيل إذا أردنا أن نسلك سبيل النصر، فما علينا إلا أن نسلك سبيل طاعة الله لنبلغ سدة النصر بإذن الله. والأمر الثالث؛ جهّز جيشاً قويّاً لكي يواجه صلف العدو واستكباره وأمِنَ تماسك الجبهة الداخلية التي كانت تتمثّل في أمّته من شتّى البقائل الذين يستظلّون بدين الله.


واليوم؛ ما السّبيل إلى تحرير القدس؟ هل سلكنا إلى تحريرها السبيل؟ القدس التي هي أمانةٌ في أعناق كلّ مسلم ومسيحيّ أيضاً. القدس التي فتحها سيّدنا عمر برغبةٍ من أهلها ورضىً منهم، وحرّرها صلاح الدين الأيوبي من رجس الفرنجة الذين عاثوا فيها فساداً.


نعم القدس التي يصمد أهلها ويثبتون في وجه آلة الحرب والقهر الصهيونية الظالمة الجائرة.


القدس التي يثبت أهلها اليوم في وجه الاستبداد والظلم والبغي والعدوان الذي تمارسه آلة الحرب الصهيونية ضد شعبٍ أعزل.


 القدس التي تبرع بها طاغية الغرب لما يسمى بإسرائيل، للعصابات الصهيونية يقرهم عليها إمعاناً في سياسة بلاده العدوانية، تصرفَ من لا يملك لمن لا يستحق، القدس في ضمير كلّ مسلم وفي ضمير كلّ مسيحيّ وفي ضمير كلّ إنسانٍ حرٍّ من مشرق الأرض إلى مغربها.


نعم ثبت المقادسة الأبطال في وجه الصّلف الصّهيونيّ، على الرّغم من شدّة القهر والاضطهاد الذي يمارس ضدهم، نعم ثبت الفلسطينيون بجهادهم وتضحياتهم في وجه صلف الصّهيونية وطغيانها، إلا أن ذلك لا يعني أن المسؤولية هي في أعناق الفلسطينيين. المسؤولية في عنق كلّ مسلم، والمتخاذلون يخذلون أنفسهم، لن تخذل قضيّة القدس ما دام فينا إيمانٌ ينبض في قلوبنا، ما دامت قلوبنا مرتبطةً بالله جلّ شأنه.


ولكن ما الطريق؟ وهل سلكنا الطريق إلى تحرير القدس؟


لنعترف بواقعنا، لنتجاوزه لا لنقره. لقد سلك النبي إلى فتح مكّة سبيل جمع كلمة الأمة، واليوم يُمعن الكثيرون في إعمال مضبع التمزيق والتشتيت في أمتنا وإثارة الخلافات والنعرات بين أبناء هذه الأمة الواحدة التي أعلن وحدتها ربّ العزّة، ولن تفتتها مؤامرات المتآمرين، يقول الله تعالى:) وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فاعبدون) فما ينبغي أن نسمح لعوامل التفرقة والتمزيق أن تفعل فعلها في جسد هذه الأمة.


الأمر الثاني؛ جهّز النبي جيشاً قوياً عملاً بقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، واليوم وللأسف نجهّز الجيوش ليضرب بعضنا بعضاً، وليقتل بعضنا بعضاً، يُعملون آلة الحرب في إخوانهم وأبناء جلدتهم وأبناء عقيدتهم خدمة للهدف الصهيونيّ والأمريكيّ.


نعم، إن علينا أن نراجع أنفسنا، وعلينا أن ننطلق من مبدأ المحاسبة لأنفسنا وإعادة النظر في واقع إمتنا؛ ماذا أعددنا لتحرير القدس. إن القدس وفلسطين قضيةٌ قائمةٌ لن يلغيها طول الأمد. لقد جاء الفرنجة إلى فلسطين وتمكّنوا من الوصول إلى بيت المقدس، وقتلوا في يومين سبعين ألفاً من أهلها وخاضت خيولهم في دماء المسلمين من أهل بيت المقدس، وبقي الفرنجة في فلسطين وفي بيت المقدس قرنين من الزمن. إنّ طول الأمد لا يمنح الغاصب الصهيونيّ حقاً في أرض فلسطين، ستتحرّر فلسطين، وسيتحرّر المسجد الأقصى بإذن الله تبارك وتعالى، بالنهج الذي سلكه صلاح الدين ببناء جيلٍ ينطلق لتحرير المسجد الأقصى على غرار أولئك الشباب والفتية الذين يصمدون في وجه آلة الحرب الصهيونية، على الرغم من حصارهم وضعفهم إلا أنّهم أقوى بأساً وأشدّ تصميماً من أولئك الغاصبين الغرباء، الذين يعتدون على أرض ليست لهم وعلى مقدسات لا علاقة لهم بها.


لنعترف بواقعنا، لنتجاوزَه لا لنقرّه، لكي ننطلقً من الضّعف إلى القوّة ومن التشتّت إلى الوحدة ولنتلاقى. ما ينبغي أن يكون الخلاف بين الإخوة وإن جرى فلا ينبغي أن يتحول الخلاف إلى عداء، الله تعالى يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ). ما قال أفسدوا، أما الإفساد فيما بيننا فهو خدمةٌ للعدوّ الذي يتربّص بنا، وصدق القائل: (أكلت يوم أكل الثور الأبيض). ....(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )، وقال عزّ شأنه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).


أسأل الله تعالى أن يردّه إلى دينه رداً جميلاً وأن ينصر إخواننا في القدس، بل أن ينصر الأمّة الإسلاميّة على ذاتها، لتعود أمّةً متماسكةً، أمّةً متمسّكةً بهدي ربّها لتجدّد عهد صلاح الدين في تحرير القدس إن شاء الله تعالى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة