مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 28/06/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 28 / 6 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 28 / 6 / 2019


أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون...


يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم في وصف نبيّه المصطفى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، ويقول سبحانه وتعالى أيضاً في وصفه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(، وصحّ عن النبيّ أنّه قال: (إِنَّ من أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّؤونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَإِنَّ من أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ والْمُتَشَدِّقُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ) (أي المتكبرون) وروى البخاري عن النبيّ أنّه قال: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ).


أيّها المسلمون؛ حسن الخلق حجز الزّاوية من الإسلام، بل هو الإسلام كلّه، لأن الإسلام هو البّر، والبرّ - كما قال النبيّ - حسن الخلق. والأثر المباشر للإيمان بالله إذا صحّ في قلب المؤمن وحسنت علاقة هذا الإنسان بربّه، أن يكون سامي الأخلاق، رفيع الخلق طيباً، قريباً إلى القلوب. لا بد للمؤمن - إن كان مؤمناً – إلا أن يكون حسن الخلق، كيف لا؟! والله سبحانه وتعالى يقول: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ). فامرؤٌ يدرك أنّ الله معه، هل يمكن أن يخون؟ هل يمكن أن يكذب؟ هل يمكن أن يغدر؟ إنسانٌ تأمّل في كتاب الله إذ يقول له : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى). لا تخفى عليه خافية، يراك حيث كنت؛ في خلوتك وفي جلوتك، فكيف يجرؤ إنسانٌ يعلم أنّ الله يراه أن يراه على أمرٍ يتنافى مع ما يرضي الله  من سوء خلق؛ من سوء معاملة، من ظلمٍ، من أكلٍ لحقوق الناس. إنسانٌ يسمع كلام الله إذ يقول لموسى وهارون: (إنَّنى مَعَكُمَا أَسْمَع وَأَرَى). لا يعزب عن علمه شيء، يسمع حديث نفسك لنفسك، يسمع السرّ وأخفى؛ يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء في الصخرة الصمّاء. فكيف يمكن أن يجرؤ إنسانٌ تغلغل الإيمان في قلبه على الكذب في الحديث، أو الغدر في العهود، أو الخيانة في الأمانة، أو الفجور في الخصومة.


إنّ من مسلتزمات الإيمان أن يكون الإنسان وقّافاً عند أسمى معاني الأخلاق. وإنّ وجود خُلُقٍ من الأخلاق التي نهانا ربّنا عنها، والتي تعدّ بفطرة الإنسان أموراً ممجوجة قبيحة كريهة؛ تكرهها أنت من الآخرين تجاه نفسك، فيجب أن تكرهها من نفسك تجاه الآخرين. نعم؛ إنّ من كان فيه خلقٌ من هذه الأخلاق، عليه أن يتحسّس موضع الإيمان من قلبه، لأنّ عدم وجود الالتزام بالأخلاق التي أمرنا ديننا بها، يعني أنّ إيمان هذا الإنسان موضع شكّ. عليه أن يتحسّس موضع الإيمان من قلبه، فقد يكون إيمان هذا الإنسان لا يتجاوز لسانه.


إنّ حسن المعاملة ولطف المعشر وبشاشة الوجه والكلمة الطيّبة من مستلزمات الإيمان. إنّ الوفاء بالعهود والالتزامات، والصّدق في الحديث، وصفاء السّريرة ونقاء القلب من أيّ غشٍّ أو أيّ شعورٍ يتنافى مع الخلق الحسن؛ إنّ كلّ ذلك من مستلزمات الإيمان. ينبغي أن يكون الإنسان المؤمن نقيّ القلب صافي السّريرة، أميناً على الحقوق التي يؤتمن عليها، صادقاً في الحديث، وإلّا فإن فيه خصلةً من النّفاق. والمنافقون كما وصفهم الله في كتابه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). أجل ينبغي أن نتنزّه عن أيّ خلقٍ ذميم، لا ينسجم مع إيماننا وتقوانا، ومع محبتنا لله ومع خشيتنا منه سبحانه.


أيّها المسلمون؛ إنّ شياطين الإنس والجنّ، والدوائر المعادية للإسلام، تسعى جاهدةً لبثّ مفاسد الأخلاق في مجتمعنا، لتجريد الإنسان المسلم عن أسمى خلقٍ يتحلى به، ألا وهو الحياء. وإذا فقد الحياء من الإنسان، ذكراً كان أم أنثى، مسخت شخصيّته؛ وانعدم معنى الإيمان واللطف والثقة بمثل هذا الإنسان. أجل تسعى الدوائر المعادية للإسلام أن تجرّد الأمّة المسلمة من القيم الأخلاقية السّامية، لكي يصاب مجتمعنا بالتفكّك وانعدام الثّقة والانحلال والفجور. ومن ثمّ تنهار الأسرة، وإذا انهارت الأسرة، تقوّض المجتمع. وإذا تقوّض المجتمع، سقطت الأمّة في أحابيل المؤامرات الخارجية.


إنّ الفرد المسلم المستقيم نواة الأمّة القويّة المتماسكة، كما سبق أن أشرنا. لذلك فإنّ من واجب الجميع؛ واجب المؤسّسة الدينيّة؛ بأئمتها وخطبائها ومدرسيها، وواجب المؤسسة التربويّة؛ بمدرّسيها وموجّهيها ومناهجها؛ وواجب المؤسسة الإعلامية، ببرامجها المختلفة، وواجب المؤسسة الثقافية، والمراكز الثقافية في أنشطتها؛ وواجب المؤسسات القضائية، وواجب الجميع في هذا الوطن؛ أن تتضافر جهودهم جميعاً لبناءٍ أخلاقيٍّ متينٍ راسخٍ في توطيد بناء هذا المجتمع وصموده إلى سدّة الأخلاق الرفيعة؛ إلى سدّة الحياء والنّظام والطّهارة والوفاء والصّدق والأمانة. هذه الأمور التي ستكون موضع مساءلة للعبد غداً بين يدي الله.


قد يستطيع المرء أن يخفي خيانته عن الناس، ولكن: (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية). يجب أن يطهّر المجتمع من خلق الكذب الذي يفقد الثقة بين أبنائه. وإذا فقدت الثقة بين أبنائه، لم يعد هناك تعاون بينهم، وعندئذ ينهار المجتمع، وينهار الاقتصاد، وتختلّ الحياة في الأمة كلها. إن قضيّة البناء الأخلاقي في مجتمعنا قضيةٌ ذات أهمية وخطورة، تتحمل مسؤوليتها جميع المؤسسات التي أشرت إليها قبل قليل. وينبغي أن تكون هناك جهود متضافرة متكاملة متعاونة، تصب في تحقيق بناء أخلاقيٍّ رفيع لمجتمعنا هذا.


إن الأزمة التي مررنا بها، أو الفتنة إذا صح التعبير، وهو الأصح، مردّها في الحقيقة أنها أزمة أخلاقية. ولولا الانحراف الأخلاقي لما تمكّن العدو من أن يخترق صفوفنا، أو أن يفعل في مجتمعنا ما فعل. إننا لنعاني من غيبوبة الأخلاق السّامية عند كثيرٍ من الناس للأسف، هذه الغيبوبة أدّت إلى النتائج التي نرى والتداعيات التي وصلنا إليها.


أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً... أسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو. وأسأله سبحانه وتعالى أن يطهّرنا من مساوئ الأخلاق، إنه سميع مجيب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة