مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 27/09/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي : التربية الدينية

التربية الدينية


د. محمد توفيق رمضان البوطي


تاريخ الخطبة: 27/9/2019 


أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ). ويقول سبحانه واصفاً ذاته جلّ شأنه:(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ). وسئلَ النبيّ e عن الإيمان والإسلام والإحسان، فشرح وبيّن حتى بلغ الإحسان فقال: (الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك). وقال e: (اتّق الله حيثما كنت واتبعِ السيّئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلقٍ حسن).


أيّها المسلمون؛ تقوم الأنظمة في العالم المعاصر على ثلاثيّةٍ هي: 1- الأمّة 2- وولاتها 3- والقوانين والأنظمة التي تحكمها. وتستمد تلك القوانين قوّتها من سطوة ولاة أمرها، وسطوة ولاة الأمر فيها على الناس لا تتجاوز رجل الشرطة وعدسة المراقبة، فإذا غابت الرقابة المتمثّلة في هذين وما إليهما، انتهى النظام وفقد القانون هيبته. وكم من الحوادث جرت، والتي يندى لها الجبين، وترتعد الفرائص من أهوالها، عند غيبة عين المراقبة. فانقطاع التيّار في بلدٍ ذي حضارةٍ ومدنيةٍ عريقةٍ لساعةٍ من الزمن أو لساعات، أدّى إلى آلاف الجرائم من قتلٍ واغتصابٍ وسرقةٍ ونهبٍ وغير ذلك، لأنّ هيبة القانون ليست في قلوب النّاس، إنّما هيبة القانون في عين رجل الشّرطة وفي عدسة المراقبة. فإذا غابت الرقابة، فسلّم على القانون وهيبته.


بل إنّ الذين هم في موقع المسؤولية والذين يقبل منهم أن يكونوا رعاةً للنظام والقائمين على تنفيذه. سل عنهم؛ تجد أنّهم يقعون في شباك الرقابة ويحالون إلى المحاسبة، لأنهم ممن خالفوا القانون والأنظمة، إذا كان ذلك يؤدي إلى مكاسب تطمع نفوسهم بها ويسيل لعابهم عليها.


يفقد القانون والنظام والتشريعات في تلك الأمم قيمتها وأهميتها عندما تغيب عين الرّقابة. ولا تحدّثني عن المثاليّات التي يشيرون إليها، فهي مثاليّاتٌ تجاريّة؛ مصلحةٌ تجاريّةٌ تقتضي أن أضع الدولار مقابل الصحيفة وأمشي، قد لا يراني أحد، ولكن المسألة أتفه من أن أدنّي نفسي من أجل صحيفة. ولكن عندما تكون المسألة تؤدّي إلى مكاسب مغرية، فليضرب القانون عرض الحائط وليوضع النظام في سلّة المهملات. كم من مسؤولٍ أُحيل إلى المحاسبة وقد يتستّر بحصانةٍ، ولكن يمكن أن يصل الأمر بأنظمتهم أن تسقط تلك الحصانة، ومن ثم تفقد مكانته هيبتها. وكم من مسؤول من أولئك المسؤولين انتحر.. وكم منهم من استقال. وكم منهم من ناله بعد سنوات من الخدمة الهوان والذّل.


ذلك لأسبابٌ؛ أن الوازع الدّاخليّ غير موجود. الوازع هو عين الرّقابة وعين الرّقابة لا تكون معك في البيت، ولا تكون حيث يغيب الرّقيب. ولذلك يفقد النظام قيمته وأهمّيته في مثل تلك الحالات. وأعتقد أن شيئاً آخر يتمثّل في تلك النظم والقوانين؛ النظم عندهم لا تسعى لتحقيق مثلٍ عليا، وليس لها مثلٌ عليا تسعى إلى تطبيقها. النظم والقوانين والتشريعات عندهم تأطيرٌ لواقع، فما يكون معيباً مشيناً اليوم قد يصبح في اليوم الثاني أمراً عادياً ومشروعاً ولا غبار عليه، ويصبح في يومٍ آخر بعده أمراً مطلوباً أيضاً. وما أمر المثليّة القذرة التي تفشّت في مجتمعاتهم إلا مثالٌ على هذا التناقض، أو على هذا الهوان الذي انحطّت إليه مجتمعاتهم.


أما في ديننا وفي مجتمعاتنا التي لا تزال تعيش نعمة الوازع الداخليّ - ولله الحمد ولله الفضل - فإنّ قيمة التشريع والنّظام لا تستمدّ من عين الرّقابة.. وهكذا ينبغي. ونحن لا ندّعي عصمة النفوس، بل إنّ مجتمعنا يسير لاهثاً وللأسف، في كثيرٍ من الأحيان، وراء تلك الأمم المنحطّة المنحدرة. ويمكن - إن لم نتدارك أمرنا - أن ننحدر في هاويةٍ أشدّ خطراً من الهاوية التي انحطّت إليها تلك المجتمعات. الوازع الداخليّ عندنا هي مراقبة الله، هي الخوف من موقفٍ بين يديّ الله؛ يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. الوازع في مجتمعاتنا وأمّتنا هو كون هذا الإنسان يضع نصب عينيه أنّ الله معه. قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) وقال سبحانه: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) وقال e: ((اتق الله حيثما كنت)).


هذا هو الرّصيد الذي يمنحُ النظام والتشريع والقانون قيمتَه وهيبته، ويمنحُ المجتمع نوعاً من الانضباط الذاتيّ الذي يدفع به إلى التمسّك والانقياد للنظم والتشريعات السّائدة في مجتمعاتٍ ربّيت على هذا الوازع، وعلى هذا الأساس التربويّ، الذي بنى الإسلام نفوس أبناء الأمة عليه وعلى تلك المعاني السامية.. على أن ثمّة ثوابتَ لا تتغير. هي أسسٌ فطريةٌ يحترمها الإنسان: الأسرة - العدالة - الخير – الرّحمة.. هذه المعاني التي افتقدها الغرب وافتقدتها المجتمعات المعاصرة. نحن نرى أنها مثلٌ عليا تدور القوانين والنظم والشرائع حول محورها وتسعى لتجذيرها وتعميقها وتحقيقها في حياة المجتمع المعاصر في أمّتنا.


والرّصيد في ذلك تلك التربية الربّانية التي تتمثّل في ملاحظة معنى رقابة الله للإنسان. وتغذّيها تلك العبادات التي تؤديها كل يوم، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ). رجلٌ أو إنسانٌ يقف بين يديّ الله ربّ العالمين: الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، يغذّي وجدانه بمعنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يغذّي وجدانه بمعاني محبّة الله وخشيته، ويعدّ نفسه لساعة المثول بين يديّ ربه. مثل هذا الإنسان قد تزلّ قدمه ولكنّه يتماسك فيما بعد ويعود إلى رشده، لأن جاذباً يجذبه إلى يقظة ضميره ويقظة قلبه. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ). يعود إلى رشده تجذبه محبة الله.. الحياء من الله.. مخافة الله.. وازعٌ حيٌّ في قلوبهم أنهم غداً سيأتي إلى الله مقراً بكل شيء. كلٌّ بعمله.. فإن أحسن أحسن الله إليه، وإن أساء فقد عرّض نفسه للعقوبة، يوم لا ينفع مالٌ ولا جاهٌ ولا سلطان. ينفعك شيء واحد، قوله تبارك وتعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).


على هذا ربّى النّبي e أصحابه، فتكون جيلٌ صنع المعجزات وحقّق الانتصارات وملأ الإيمان البقاع التي نتمتع بالإيمان فيها وبالعيش فيها؛ نشر فيها العدل..نشر فيها الخير..نشر فيها الرّحمة..نشر فيها المحبّة..نشر فيها العدالة التي يبحث عنها كلّ إنسان. نعم؛ هذا هو الإسلام الذي ربّى النّبيّ e عليه أبناء أمته.


وليس هذا لجيلٍ واحدٍ.. جاء الجيل الثاني فنشأ على تلك التربية، ونمت فيه تلك المعاني. ولعلكم تذكرون يوم كان سيّدنا عمر t يتعسّس ويتفقّد رعيّته في أواخر الليل، فسمع امرأةً تقول لابنتها: "يا بنية قومي فامذقي اللّبن - أي اخلطيه بالماء" فقالت: "أوما سمعتِ أمير المؤمنين عمر ينهى عن ذلك؟". فقالت: "وأين عمر منا الآن؟ هو في بيته" قالت: "يا أماه، إن كان عمر لا يرانا فربّ عمر يرانا". هذا هو الوازع، هذا هو القلب الحيّ الذي جعل عمر t يرتجف لهيبة تلك الكلمة، ويرى أن تلك الفتاة جديرةٌ بأن تكون سيّدة أسرة وأماً لأبطال. فزوّجها لابنه عاصم لتنجب له بنتاً، فتكون تلك البنت أم سيّدنا عمر بن عبد العزيز t، الخليفة الراشدي الخامس الذي كان مثال الزّهد والعدالة والورع.


كذلك الأمر؛ يوم جيء بكنوز كسرى. كنوزٌ تحتاج إلى قافلةٍ تحملها؛ من عرشٍ إلى مجوهراتٍ إلى غير ذلك، حملت من المدائن إلى عمر t، طيلة طريقٍ لاهبةٍ تزيد على ألفي كيلومتر، والناس في فاقةٍ وفقر. لكن النفوس التي ربّيت على العفّة.. ربّيت على الأمانة، تترفع أن تمتدّ تلك الأيدي إلى مالٍ ليس لها هو للأمّة. وصلت تلك القافلة كاملةً دون أن تمسّها يد، فنظر عمر t متأثراً بهذا المشهد فقال: "إن قوماً هذا لأمناء"، فقال له سيدنا علي t: "عففت فعفت رعيّتك ولو رتعت لرتعت". كيف يمكن أن ترتع أمةٌ ربّيت على يد رسول الله e وخلفائه الراشدين.. على يد الصحابة الكرام الذين نشؤوا على عين رسول الله e.


قد يضيق ذرعاً بهذا الكلام أناسٌ في عصرنا، يرون أنها مثاليّات. نعم؛ يضيقون ذرعاً بهذه المثل العليا، لأن نفوساً ألفت نتن المستنقعات تضيق ذرعاً برائحة العطر وبرائحة الورد.. تضيق ذرعاً بالذرى الشامخة التي يمكن أن ترى فيها أولئك الرجال الأبطال الذين يصنعون الأمجاد ويصنعون التاريخ ويحققون الانتصارات. إن نفوساً ألفت ظلمة الكهوف والأقبية يصعب عليها أن تخرج إلى الشّمس، لأن الشّمس تعشي أبصارها. إن هذه الشّمس هي التي ألفنا أن نعيش تحت ضيائها مستضيئين بنور هذه الشّمس؛ شمس الحقيقة.شمس القرآن. شمس سنّة النبي e.. شمس هذا الدين الذي ربانا على المثل.


لا نرى أن هذا خاصٌّ بعهد الصحابة والتابعين؛ والله إنّ في عصرنا هذا لأبطالٌ من إخوة وأخوات، هم في دوائرنا وفي مصانعنا وفي شتى مجالات مجتمعاتنا، مثلٌ تتذكر بها أصحاب رسول الله e. نفوسٌ عفيفةٌ سامية، شمخت إلى ذرى العفّة والطّهر والأمانة، ولم تمتدّ يدها إلى شيءٍ من الحرام، لأنها أسمى من أن تمتدّ يدها إلى الحرام. إنها تضع نصب عينيها رضى الله، ولتكن الدنيا دبر آذانها وليست موضع اهتمام. على الرغم أنه قد يكون أحدهم قليل ذات اليد، ولكنه غنيٌّ بما أكرمه الله U به.. غنيٌّ بما أنعم الله عليه من عفّة وطهر.. غنيٌّ بما أكرم الله U من سموٍّ وأخلاقٍ ربّي عليها، من مخافة لله U. كثيرون وكثيرات الذين واللواتي يسألونني عن أمورٍ لو أنّك دقّقت فيها، لرأيت أسمى معاني العفّة والورع والاستقامة. مجتمعنا هذا فيه خيرٌ كثير. انظر إلى القسم الممتلىء من الإناء، لا تنظر إلى القسم الفارغ. فكن من أولئك الذين يملؤون مجتمعنا هذا بالخير.


نحن بحاجةٍ إلى تربيةٍ إيمانيّة. نحن بحاجة إلى ترسيخ قواعد السلوك السويّ، والانضباط بالشرائع والأنظمة من خلال وازعٍ داخليٍّ يعمّق جذوره في النفوس. الذين يبحثون عن الأخلاق بدون دين يكتبون على الماء، ويستنبتون البذور في الهواء. هم فاشلون، ويريدون أن يفشل مجتمعنا كما هم فاشلون. التربية الواعية الصحيحة السليمة هي التي تنشّئ أبناءنا وبناتنا ومجتمعنا على مراقبة الله.. على عبادة الله.. على محبة الله.. على خشية الله.. على اتّباع هدي رسول الله e.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردّنا إلى دينه رداً جميلاً وأن يلهمنا حسن اتباع هديه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


 


تحميل