مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 22/11/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 22 / 11 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 22 / 11 / 2019


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم عن نبيه ﷺ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ويقول سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). ويقول سبحانه في وصفه وصفاً جامعاً: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ). ويقول نبي الرحمة ﷺ: (إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ) أي قبّحه. ويقول ﷺ: (الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء) ويقول ﷺ: (من لا يَرحم لا يُرحم).


هذا هو فكرنا.. وهذا هو ديننا.. وهذه هي رسالة نبينا ﷺ. بهذا فتح المسلمون القلوب قبل أن يفتحوا البلاد، ونشروا دعوتهم في أرجاء الدنيا فتقبّلتها النفوس ورحبت بها الشعوب، إلا الظلمة والطغاة الذين كانوا يريدون أن يستعبدوا الناس لمصالحهم ولكبريائهم وغطرستهم. ولقد اجتمعت كلمة المسلمين على هذه المبادئ وعلى هذه الحقيقة وعلى هذه الرسالة العظيمة. واجتمعت عليها كلمة الأمة بعربٍ وعجمٍ، من شرق ومن غرب، حتى انتشر الإسلام ما بين الخافقين.


ولقد علم الكفرة أن هذا الإسلام سرّ عظمة هذه الأمة وسرّ وحدتها وسرّ قوتها، فتآمروا على هذا الدين وتآمروا على هذه الأمة، لكي يحاربوا هذه الأمة من داخلها. فصنعوا لأمتنا إسلاماً يحارب الإسلام ويشوه الإسلام وينفّر من الإسلام على شكلين اثنين، متناقضين ظاهراً، متحدين هدفاً: أما الصورة الأولى فذلك الإسلام السّمج الغليظ الفظّ القاسي العنيف الذي يتجه إلى الناس بالشدة والعنف والتطرف والقتل والتخريب والإرهاب، سموه إسلاماً والإسلام منه براء، وجندوا لهم أناساً بين مضلِّلين ومضلَّلين؛ ساروا في ركاب هذا الإسلام المشوّه، فنشروا في أرجاء البلاد الإسلامية القتل والدمار. وواضحٌ تماماً أنهم يستهدفون بقتلهم وتدميرهم وإرهابهم المسلمين بالدرجة الأولى. ثم قد يستهدفون غير المسلمين، بمقدار ما يشوهون به الإسلام، وينفرون من الإسلام أبناء تلك البلاد وتلك الأمم.


نعم؛ قدموا إسلاماً على هذه الصورة، وهناك إسلامٌ آخر على النقيض منه؛ إسلام تقديم التنازلات وتفريغ الإسلام من محتواه وإلغاء الثوابت وتمييع أحكام الشريعة الإسلامية والتخلّي عن كثيرٍ من مهماتها، باسم الحداثة، وباسم التجديد.. وباسم التطور، وكأنّ التجديد يريد أن يضيف إلى وحي الله ما يصحّحه.


كلا الإسلامين يهدف إلى تشويه الإسلام وتنفير الناس منه. لكن الصورة الأشدّ قباحة والأخطر في مضمونها هي تلك الصورة التي قدمها لنا الغرب من خلال أدواته؛ صورة الإسلام المتطرف التكفيري الإرهابي الذي ينشر القتل هنا وهناك، يمارس أنواع الإرهاب باسم الإسلام.


طبعاً هذا الإرهاب الذي صنعه أعداء الإسلام صار حجةً بيد أعداء الإسلام لمحاربة الإسلام، ولكي يكبحوا جماح انتشاره، لأنهم وجدوا أنه يلقى قبولاً واسعاً في بلادهم. فهم يحاولون إجهاض انتشار الإسلام وقبوله في بلادهم. مع أن النبي ﷺ هو الذي كان يدعو إلى الرحمة وإلى اللطف وينهى عن الشدّة والغلطة والتنفير. وهو الذي كان مثال الرحمة ﷺ هو الذي قال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وهو الذي قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن) وهو الذي كانت له تلك المواقف التي سأسرد مشاهد منها.


بدأ النبي ﷺ دعوته في مكة المكرمة بين قومه قريش، ولقيت دعوته عند العقلاء والمعتدلين عقلاً قبولاً، فأسلم سيدنا أبو بكر وأسلم عبد الرحمن بن عوف وعثمان ذو النورين وأسلم عثمان بن مظعون وأسلم عدد من كبراء قريش ومن ضعفاءهم.. أسلم عمار بن ياسر وأسلم بلال الحبشي، أسلم هؤلاء جميعا.ً تقبلوا الإسلام واعتنقوه. فما كان من أهل مكة إلا أن رفعوا عقيرتهم بالرفض والإباء، ومارسوا أبشع أنواع القهر والقمع والاضطهاد، حتى قُتلَ من قُتلَ تحت أيديهم وعَميَ من عَميَ، وأصيبوا بما أصيبوا به من التنكيل والتعذيب. قاوموا الكلمة بالقهر والقمع والاضطهاد، وإذا دعاهم النبي ﷺ إلى التعقّل واتباع الدليل والبرهان: (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) حاورهم فأبوا الحوار وحاججهم فرفضوا الحجة وأصروا واستكبروا استكباراً.


صبر عليهم النبي ﷺ ولم يقابل إساءتهم بإساءة ولا ظلمهم بالانتقام، بل صبر عليهم حتى اشتدّ الأمر عليه بعد وفاة عمه الذي كان يدافع عنه ويحميه بعض الشيء. وعندما توفي أبو طالب تجرأت قريش كما لم تتجرأ من قبل، فاضطر النبي ﷺ أن يبحث لدعوته من متنفس فتوجه إلى الطائف حيث ثقيف ليدعوهم أو ليجد هناك مجالاً لدعوته. لكن ثقيف نسيت المروءة والشهامة والنجدة، ونسيت ما يعرف عن العرب من تلك الصفات الكريمة، واستقبلته أسوأ استقبال وردته أسوأ الردّ ورفضت بل سلّطت عليه سفاءها وأراذلها يشتمونه ويطاردونه بالحجارة، حتى شجَّ ودميت قدماه ﷺ. فاشتدّ الكرب عليه وسلك الطريق الموحشة الجبلية الصعبة الوعرة، ومضى إلى أن وصل إلى قرن الثعالب. وهناك رفع يديه إلى الله ضارعاً: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم بك عليّ غضبٌ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).


يقول النبي ﷺ فيما رواه البخاري: (فما أفقت على نفسي إلا وأنا في قرن الثعالب) في طريق مكة، وقد استظلّ في ظلّ حائطٍ لعتبة وشيبة ابني ربيعة، قال: فأظلتني سحابة فنظرت فإذا جبريل يقول لي: إن الله سمع ما قال قومك وأرسل ملك الجبال لتأمره بما شئت، فقال له ملك الجبال: إن شئت يا محمد أطبقت عليهم الأخشبين – أي على أهل مكة جبال مكة - فقال رسول الله ﷺ: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا) إن لم يؤمنوا فليكن من بعدهم جيلٌ يؤمن. وسيأتي الجيل الذي يؤمن وهذا الذي جرى بفضل الله.


لم يرضَ رسول الله ﷺ أن يهلك من اضطهدوه وعذبوه وطردوه وآذوه. لم يرضَ أن ينالهم الأذىً ولا أن ينالهم الإهلاك. هذا رسول الله ﷺ هذا الذي يقول: (من لا يَرحم لا يُرحم) هذا النبي الكريم الذي بدعوته فتح الدنيا والقلوب. استقبلته القلوب والنفوس وغداً، ستستقبل القلوب دعوتنا؛ دعوة الإسلام.. دعوة الحق.. دعوة الرحمة.. دعوة الإنسانية بالقبول.


نعم؛ ولما رأى قبولاً النبي ﷺ بمن أهل المدينة المنورة هاجر إليها. وتقبل أهل المدينة المنورة دعوته لأنهم سمعوا تباشير دعوته من اليهود، فكان ذلك دافعاً لهم إلى أن يذعنوا لدعوته. فاجتمع أمرهم بعد فُرقة وتحابّوا بعد عداوة والتئم جمعهم على الخير والهدى. وهاجر أصحابه ﷺ قبله في جنح الظلام لأن قريشاً لا تريد أن ينتشر الإسلام، لا تريد أن ينطلق الإسلام من السجن الذي سجنوه فيه.


انطلق الإسلام إلى المدينة المنورة وهناك لم تتوقف عداوة قريش، حاربوا النبي ﷺ معركة إثر معركة وانتصر في أكثر تلك المعارك حتى انتصر أخيراً وقال: (اليوم نغزوهم ولا يغزوننا). ومضى النبي ﷺ إلى مكة ومعه عشرات الألوف ليفتح مكة، وفتَحَها دون قتالٍ يذكر. لم يُقتل فيها إلا بضعة أشخاص كانوا تصدوا لخالد بن الوليد فشد عليهم، فأمره النبي ﷺ أن يكفّ عنهم. وسمى فتح مكة يوم المرحمة وقال ﷺ: (اليوم يوم المرحمة اليوم تعظم الكعبة) أجل يوم المرحمة.


ثم إن النبي ﷺ جمع صناديد الشّرك من أهل مكة الذين حاربوه وآذوه طوال عشرين عاماً، وسألهم: (ما تظنون إني فاعل بكم) قالوا: (خيراً. أخ ٌكريم وابن أخٍ كريم). أنهى النبي ﷺ حالة العلاقة السلبية بينه وبينهم.. أنهى حرباً بكلمة واحدة فقال لهم ﷺ: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).


انتهت المشكلة عند هذه الكلمة لمن أرادوا أن يخضعوا للحق. وكان قد أهدر دم ستةٍ من الأشخاص؛ منهم هند بنت عتبة وعكرمة بن أبي جهل، ولكنهما عندما جاءا تائبين مسلمين، قبلهما وتغاضى عن ماضيهما العدائي الأسود. تغاضى عنهما وصفح عنهما وانتهت تلك الصفحة السوداء، لتتحول إلى صفحةٍ بيضاء؛ يعاملهم بالرحمة والرأفة. هذا ديننا، دين الرحمة وليس دين الإرهاب والقتل ولا دين التدمير. نعم؛ هذا هو ديننا.. هذا هو إسلامنا وهذا هو نبينا الذي بعثه الله رحمة للعالمين.


وهل هذا في الدنيا فقط؟! النبي ﷺ كان مرة بين أصحابه، فتلا قول الله تعالى على لسان إبراهيم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وعلى لسان سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فبكى رسول الله ﷺ وقال: (اللهم إمتي أمتي).. فأتاه جبريل بأمرٍ من الله يسأله: ما يبكيك يا رسول الله؟ فحدثه بما جرى. فحمل الرسالة إلى ربه وهو أعلم بما جرى فقال له: قل لمحمد ﷺ: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).


وكيف يرضيه؟! روى الشيخان عن النبي ﷺ حديث الشفاعة. الناس في موقف يوم القيامة في حال خوفٍ ورعبٍ وهلعٍ، فيلجؤون إلى الأنبياء: إلى آدم فمن بعده – وكلٌّ يعتذر – حتى يصل بهم الأمر إلى سيدنا وحبيبنا محمد ﷺ، فيأتونه مستشفعين به، فيقول: أنا لها.. ثم يمضي فيستأذن على ربه، فيؤذن له فيخر ساجداً بين يدي الله، فيقال: سل تعطَ وقل يُسمعُ لك واشفع تشفّع.. فيقول النبي ﷺ: اللهم أمتي.. فيشفّعه ربنا جلّ شأنه في قسمٍ من أبناء أمته ﷺ فيخرجهم من النار. ولكنه يرى آخرين، فيخرّ ساجداً لله، ويقال له: سل تعط واشفع تشفع. فيقول: أمتي.. وهكذا ثلاث أو أربع مرات، ثم يقول الله له: أخرج من أمتك من مات وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان، أما ما دون ذلك فلا لأنهم قد حبسهم القرآن؛ أي مضى فيهم قول الله في الكافرين أنهم لا يغفر لهم ولا يدخلهم الجنة ولا يخرجهم من النار. الذين ماتوا على الكفر لا سبيل إلى خروجهم من نار جهنم، أما من ماتوا على الإيمان فإن رحمة الله سبحانه وتعالى ستسعهم.


هذا رسول الله ﷺ.. هذا رسول الرحمة.. نبي الرحمة الذي قال الله تعالى فيه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). بهذا جاء ديننا وبهذا جاءت رسالة ربنا.


إلا أنه لا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام أن أمتنا ترضى بالذل وبالهوان، وترضى بأن يعتدى على حقوقها وأن يُنال من كرامتها. إذا ما اعتدي على أمتنا فإن أمتنا تواجه العدوان بقوةٍ تزلزل الأرض تحت أقدام المعتدين. إن أمتنا إذا ووجهت بالعدوان وإذا أريد لها الشر، فإن من شأن هذه الأمة التي ربّيت على العزة والكرامة ألا تستسلم لعدوّ وألا تلين قناتها لذلّ أو لهوان. هذه أمتتنا. أمة الرحمة. أمة العطاء. أمة الإحسان، ولكنها في الوقت ذاته، أمة العزة والكرامة والقوة.


أسأل الله تعالى أن يردّنا إلى دينه ردّاً جميلاً وأن يرزقنا حسن اتباع هدي سيدنا محمد ﷺ وأن نكون من المتراحمين في الله.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة